الثلاثاء ٤ أيّار/مايو ٢٠٢١
خريستو المرّ إنّ حدث القيامة ليس نهاية وإنّما فاتحةُ زمنٍ جديد، فاتحةُ ورشةِ تجديد هذا الكون، تجديد العلاقات البشريّة والعلاقة بين البشر والطبيعة. لم يتجسّد كلمة الله لتنتهي الحكاية، بل لتبدأ، أو بالأحرى ليكتب معنا فصلًا جديدًا فيها، هو فصل تجلّي هذا الكون بتحويله إلى زمان محبّة ومكان محبّة، إلى زمكانٍ ملكوتيّ. تجلّي الكون يعني أن يخلص الإنسان من الخطيئة، أي، حرفيّا، من إخطاءِ الهدف: العيش في وحدة مع الله-المحبّة على مستوى العلاقات الشخصيّة، وعلى مستوى العلاقات الجماعيّة. على المستوى الشخصيّ يجاهد الإنسان طوال حياته كي يتجاوز انغلاقه على ذاته، لكي يلاقي ويهتمّ بالآخرين ونموّهم وانتعاشهم من أجل ذواتهم. لكن ما لم يستوعبه المسيحيّون كفايةً هو أنّهم مسؤولون أيضًا ليس فقط عن خطاياهم الشخصيّة، بل أيضا على الأثر الاجتماعي للخطايا الفرديّة، عن الخطايا الجماعيّة للمجتمعات، هذه الخطايا الجماعيّة لديها أسماء ولربّما يختصرها اسمان: الاستغلال والبطش. يولّد الاستغلال الظلم الذي يظهر في وجوه كثيرة: فقر، مرض، استعباد وظيفيّ... هناك ما يكفي من البراهين العلميّة على أنّ المرض مرتبط مباشرة بمستوى الدخل، هذا أمر معروف في الجامعات منذ عشرات السنوات (للأسف، معرفته محصورة ببعض الاختصاصات)، ومن آخر الأدلّة على ذلك أنّ الإصابات بفيروس كورونا ١٩ تنتشر بشكل أعلى بكثير، وتسبّب الموت بشكل أكبر، في المناطق الأكثر فقرًا في أيّة مدينة. لكنّ مستوى الدخل لا يحدث صدفة، بل هو نتيجة عمليّة استغلالٍ مجموعة من الناس لمجموعة أخرى تشرّعها قوانين. ما الذي يمنع أرباب العمل من أن يعطوا مرتّبات أعلى للعمّال في مؤسّساتهم؟ لا شيء سوى رغبتهم بأرباح عالية، وشعورهم بمشروعيّة تلك الرغبة. لكنّ هذا الشعور بالمشروعيّة يعني مباشرة استغلال يتسبّب بتدمير لحياة الناس وللطبية. علينا أن نعي أنّ تدميرَ الحياة، حياة الناس وحياة الطبيعة، هو لبُّ الأزمة الروحيّة للاستغلال. أمّا البطش، فهدفه تقييدُ الحرّية الإنسانيّة، ولو أمكنه محوها. من ناحية إيمانيّة هذا اعتداء على «جوهر» الإنسان، على «صورة الله» في الإنسان، أي على ما يشبه الله فيه. استعباد الإنسان وتحويله من شخص إلى أداة، إلى شيء، إلى وسيلة، هو قلب الأزمة الروحيّة للتسلّط. حكاية الله مع البشر - بحسب الإيمان المسيحيّ - حكاية حبّ بدأت بالخلق، يخاطب خلالها الله قلب الإنسان علّه يتوجّه إلى قلب الله؛ هي مغامرةٌ يخطب الله فيها ودّ قلب الإنسان، كي يقبل حبّ الله، فيتّحد به ويعبّ من حياة الله الأبديّة حياةً وفرحًا في رحلة من الأغاني التي لا تنتهي. حدثُ قيامةِ يسوع دشّنَ هذه الإمكانيّة، وحمّل كّل مَنْ يريد أن يتبع يسوع مسؤوليّةَ متابعة تحقيق هذا المشروع. لكنّ للمشروع وجهان: واحد شخصيّ حرّ، والآخر جماعيّ لا يمكن تحقيقه بانتظار تآلف كلّ حرّيات الأفراد على هدف واحد، ولذلك لا بدّ لتحقيقه من منع الاستغلال بفرض العدالة بالقوّة، ومنع التسلّط بفرض احترام الحرّية الإنسانيّة بالقوّة. قد يختلف أتباع يسوع في نوع القوّة التي يجب استعمالها: قوّة المقاطعة الاقتصاديّة والسياسيّة والفنّية والأكاديميّة وغيرها، وقوّة التظاهر، وقوّة التنظيم السياسيّ السلميّ؟ أم قوّة العنف إن انتفت كلّ الوسائل اللاعنفيّة؟ أم كلاهما؟ هذا اختلاف ممكن، ولكن ما من مناص من استخدام القوّة والصراع والنضال. يسوع لم يقمْ بهذا العمل، يسوع أشار إلى المبادئ الكبرى التي يجب أن تحكم أيّ عمل (محبّة، احترام الحرّية في العلاقات الشخصيّة، بذل الذات وحمل الصليب من أجل مَن نُحِبّ...)، وأشار إلى أفقِ أيّ عمل (المصالحة بين البشر كأخوات وإخوة)، أمّا ترجمة هذه المبادئ وهذا الأفق في لحم الحياة اليوميّة للأفراد والجماعات فهي المسؤوليّة الحضاريّة المشتركة لأتباعه مع غيرهم من الناس في مجتمعاتهم، ولهم أن يكونوا ملح المسيح في عجينة الحضارة البشريّة وأن يُشعلوا وجوههم من وجهه ليُسهموا باحتضان نور القيامة لفرح الحبّ في برد هذا العالم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |