خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٩ تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢٢ هناك أكثر من وجه مشترك بين حكم الاتحاد السوفياتي المعادي للدين وبين حكم الدول الدينية، أبرزها التشدد العقائدي المتمثل بمحاولةِ الدولة فرض قناعات على جميع الناس بالقهر. كانت الدولة في الاتحاد السوفياتي (التي طبقت فكرَ رأسمالية دولة أكثر ما طبقت فكراً شيوعياً) متشددة في رؤيتها المعادية للدين، فضيقت على المؤمنين وحاولت أن تمنع الممارسة الدينية بواسطة الدولة وأدواتها. من جهتها، تفرض الدول الدينية تطبيق ممارسات على الناس في مجتمعاتها منطلقة من رؤيتها الدينيةِ المخالفة بالضرورة لرؤى أخرى في الحياة. على السطح تبدو الدولة السوفياتية والدول الدينية طرفين مضادين، ولكن لديهما مقاربة مشتركة: فرض تصرفات اجتماعية انطلاقاً من رؤيةٍ أحادية للعالم. ولكن مقاربة الدول الدينية أدهى، فبينما حصر الاتحاد السوفياتي محاولاته فرض ممارسات على المجال الديني (وإلى حد ما الفني)، تسعى الدول الدينية إلى فرض ممارسات على جميع أوجه الحياة الاجتماعية تقريباً، من المأكل، إلى المشرب، واللباس، والعلاقات الإنسانية، هذا عدا المسموح والممنوع في الفن والفلسفة، وغير ذلك. لا شك أن كل دول العالم تنطلق من رؤية محددة (وأساساً من مصالح الفئات المستفيدة) لكي تُعَلم الأولاد في المدارس مبادئ محددة، ولكن لا تفرض جميعها بالقسر على الناس أن يقوموا بممارسات اجتماعية محددة بناء على رؤية واحدة للحياة. فالكثير من الدول، رغم عللها (العنصرية مثلاً) لا تفرض قانونياً ممارسات محددة على الناس داخل مجتمعاتها، بل تترك لهم أن يعيشوا اجتماعياً بناء على منطلقاتهم الفكرية أو الإيمانية. لا شك أن لهذه الدول رؤية للعالم، ولكنها لا تجبر شعوبها على اتباع شكل محدد للممارسات الاجتماعية؛ وقد تكون دولاً استغلالية وإجرامية بحق شعوب أُخرى لكنها تسمح داخلياً بمساحة حرية اجتماعية مريحة لشعوبها. لا يَسَع لمن يرى الضيق الذي يعانيه كثيرون في الدول الدينية من الشدة الدينية التي تريد فرض رؤيتها للحياة فرضاً على ممارسات المواطنين، والمواطنات خصوصاً، إلا أن يتساءل عما يربحه مطلق أي نظام من هكذا تعسف؟ مهما ساق المتشددون الدينيون، في أية دولة، من حججٍ بضرورة أن يلتزم الإنسان في ممارساته الاجتماعية برؤيتهم الدينية التي يجزمون بصحتها، فما يخفقون في رؤيته هو أن البشر مفطورون على الحرية في شؤون حياتهم وشؤون أجسادهم، وينسون أن تلك الحرية قد خلقها الله لا إنسان. قد يسوق المتعسفون في شؤون الدين ألف حجةٍ لتبيان صحة وجهة نظرهم في التفسير الديني، وينسون أنه لا بد أن آخرين في طائفتهم وفي طوائف وأديان أخرى يرفضونها، وأنه قد يرفضها حتى أتباعهم في المستقبل؛ فكيف، إذاً، يسمح مطلق أي فريق ديني لنفسه من فرض ممارسات اجتماعية قسراً في مجتمعٍ تتعدد فيه التفسيرات حُكماً، وتتعدد فيه الرؤى بالتأكيد لأن ما من مجتمع أحادي في أي مكان، حتى لو كان الناس كلهم فيه من طائفة واحدة؟ كل المتشددين المتدينين سواسية، يريدون أن يفرضوا ممارسات في الحياة الاجتماعية تنطلق من نظرتهم إلى الحياة: ما هو المسموح وما هو الممنوع في اللباس، والمأكل، والمشرب، والفن، والفلسفة، والآراء، وقد خبِرنا ذلك في لبنان لدى المسيحيين والمسلمين. يريد المتشددون أن يتحكموا بحياة البشر وبأساليب التعبير عنها، وهذه لم تكن يوماً واحدة في مطلق أي مجتمع. ينسى هؤلاء أن غيرهم موجود ويريد أن يحيا الآن وهنا، كما هو يشاء لا كما غيره يشاء، وفي هذه الجغرافية التي فيها ولد. ينسى هؤلاء مبدأ أساساً للحياة بسلام: لا يضر الإنسان بشيء أن تضع الدولة قوانين تسمح للناس بأن يتصرفوا بحسب إيمان أو اعتقاد لهم مغاير لإيمان واعتقاد جماعة أخرى، وإنما المهم ألا تضع قوانينَ تمنع جماعةً من ممارسة قناعاتها دينية كانت تلك أم لا دينية. الفرق شاسع بين الأمرين، وفهمه بوضوح مدخلٌ للسلام الاجتماعي. السماح بالتنوع الفكري-الإيماني في الحياة الاجتماعية للشعوب لا يضر أحداً، أما فرض طريقة حياة اجتماعية على الآخرين فهو تعسف يؤسس للنفاق الذي يمكن ملاحظته عبر العالم: مَن يسكن فرنسا أو مقاطعة كيبيك في كندا، يعرف أن القوانين تجبر الإنسانة المسلمة، المقتنعة بوضع الحجاب، أن تخلع حجابها أثناء تأديتها عملها في وظيفة محسوبة على القطاع العام؛ والدول الدينية تفرض على المرأة أن تضع الحجاب ليس فقط خلال تأدية الوظيفة، ولكن في الفضاء العام كله. القوانين المعاكسة لبعضها البعض لها وجه مشترك: عدم احتمال التنوع والإكراه لفرض رؤية أحادية للحياة، إكراهُ إنسان أن يحيا اجتماعياً بحسب قناعات آخرين. النفاق يكمن في أن هناك مَن يرحب بقوانين فرنسا وكيبيك ويناهض تلك التي في دولة كإيران، وكان يصمت عنها في السعودية حتى وقت قريب، وهناك مَن يكره قوانين فرنسا وكيبيك، ولكنه يرحب بالقوانين المماثلة الروح في إيران، وفي السعودية حتى وقت قريب. لب الحكم الأيديولوجي المتعسف، أكان دينياً أم لا، هو أن يفرض قوانين تجبر الناس على التصرف في حياتهم الاجتماعية بحسب رؤيته هو للحياة، بينما احترام البشر والحكمة يقتضيان أن تسمح الدولة للجماعات المختلفة في شعبها الواحد بأن تحيا قناعاتها في الفضاء العام كما تشاء، من دون أن تُجبِرَ إحداها الأخرى على ممارسة. هكذا يحيا كل إنسان وكل جماعة كمواطنات ومواطنين في دولة تسمح لهم بأن يحيوا كما هم في الحقيقة من دون تزوير، وكل عاقل حكيم، كما كل مَن يهتم فعلاً لا شكلاً بعلاقة الإنسان بالله، يعلم تماماً أنه ما من قيمةٍ لتصرف مزور لا في العلاقة بين إنسان وإنسان، ولا في العلاقة بين الإنسان والله. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |