خريستو المرّ
الثلاثاء ١٣ نيسان ٢٠٢١ الحياة معنى. لا يمكن أن نحتمل الحياة دون معنى، والمعنى الأكثر مركزيّة في حياتنا هو التواصل المُحِبّ مع آخرين، لا يمكن احتمال الحياة دون محبّة. أن نُحِبّ وأن نُحّبّ هذا هو المعنى، وفي قناعتي «أن نحبّ أو لا نحبّ هذا هو الجواب» عن سؤال شكسبير الشهير «أن نكون أو لا نكون». لكنّ المحبّة ليست شعورا ورديًّا نحمله في لحظة ما، بحيث أنّها تنتفي إن ذهب ذاك الشعور، فرغم كون المحبّة تتضمّن الشعور إلاّ أنّها خبرةً أعمق من الشعور، فالشعور ليس ثابتًا بل قد يتبدّل ويتأثّر بأمور كثيرة منها أمور بسيطة مثل أحوال الطقس، بينما المحبّة تثبت لسنوات، وتمتدّ على مدى عمر كامل. المحبّة موقف من الآخر ومن الأشياء والعالم، طريقةٌ حياة نتمرّن عليها طوال العمر، ولا نبلغ أقصاها أبدًا، لأنّ المحبّة مفتوحة دائما على محبّة أعمق وهذا عند المؤمنين إشارة إلى كون الله نبع المحبّة ومصبّها، أو كون الله محبّة كما عبّر الإنجيليّ يوحنّا. المحبّة طريقة حياة، أي بمعنى آخر هي فنّ، والفنّ يحتاج إلى التمرين والصبر، من يكتب الشعر أو يرسم أو ينحت أو يصنع أمرا يدويًّا كالنجّار والحدّاد يحتاج أن يتمرّن لسنوات ليصقل موهبته ويصبح «معلّمًا». كما كلّ فنّ، فنّ المحبّة يحتاج إلى التمرين والصبر، ولكن كونه علاقة فهو يحتاج إلى التركيز على الآخر وأيضا على العالم، فنجاح العلاقة يكون بتجاوز النرجسيّة بحيث يصبح الآخر هدفا بحد ذاته وليس وسيلة (كما عبّر الفيلسوف كانط). ولكنّ الأنا والآخر لا يمكنهما أن يبقيا في تركيزٍ على بعضيهما البعض دون أن يختنقا، دون أن تتحوّل علاقتهما إلى نرجسيّةٍ مزدوجة يتأمّل فيها الاثنين وحدتهما كما يتأمّل الإنسان ذاته في مرآة؛ ولهذا فالانفتاح على الآخرين والالتزام بالمجتمع وشؤونه وشجونه أساسٌ لكي تنتعش محبّتهما لبعض، فكما الآخر هو تنفّس الأنا، فالآخرون هم تنفّس الأنا والأنت. من هذه الزاوية أريد أن أطلّ على الصوم. العلاقة مع الله في عمقها لا شأن لها بالفروض والواجبات، هي علاقة محبّة، ولهذا هي تحتاج إلى الممارسة والصبر لكي تنمو وتشفّ وتصبح أكثر بلّوريّة، وتحتاج إلى اعتبار الله مهمّا بحدّ ذاته، وإلى التوجّه في العلاقة مع الله للاهتمام بالآخرين أي بشؤون وشجون الناس والمجتمع. هكذا يصبح الصوم أحد التمارين التي يتّبعها الإنسان لكي يكثّف الممارسة، لكي يكثّف تركيزه في علاقته بالله على كون الله آخرٌ، فيهتمّ به كآخر متمايز لا كآخر مصدر لتلبية حاجاتي ورغباتي (رغم أنّه يلبّيها دون طلب). الصوم تنقية للمحبّة من شوائب نرجسيّتي. لكنّ الصوم لا يكتمل في هذا التركيز على الأنت-الإله، في هذا الثنائيّ «أنا والله»، ولا ذاك الثنائيّ «نحن والله» (و«نحن» تعني دائما «جماعتنا») بل في تجاوز تجربة الانغلاق على النرجسيّة الذاتيّة والنرجسيّة الجماعيّة وذلك بالانفتاح على الآخرين كآخرين بغضّ النظر عن كونهم من «جماعتنا» أو لا. يكتمل تكثيف العناية بمحبّتنا لله أثناء الصوم بالتزام شؤون وشجون الآخرين. أثناء الصوم، يتنقّى التركيز على محبّة الله من شوائب النرجسيّة الذاتيّة والجماعيّة بتكثيف المشاركة، خاصّة مشاركة ذاك الذي نعتبره «غريبًا». إنّ محبّة الله طريقة حياة تحتاج لممارسةٍ ولصبرٍ يتكثّفان في الصوم، وكما تتنقّى محبّتنا لإنسان آخر بالمشاركة مع الآخرين طوال الحياة، كذلك تتنقّى محبّتنا لله طوال حياتنا، وتتنقّى أثناء الصوم بتكثيف المشاركة وما يعنيه ذلك من عطاء مادّي، واهتمامٍ بتغيير البنى والسياسات الجائرة كي تصبح بُنى تعبّر عن المحبّة بين الناس وتعضد تلك المحبّة. المحبّة فنّ، ولكي نتّقن فنًّا ما هناك نقطة انطلاق أساس يجب أن تتوفّر ومنها تنبع التمارين كلّها ألا وهي الرغبة التي تجعل هذا الفنّ بالنسبة لنا أمرًا غاية في الأهمّية. فهل المحبّة هي غاية في الأهمّية بالنسبة لنا؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يحفّزنا أثناء الصوم وقد هلّ رمضان. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |