خريستو المرّ
الثلاثاء ٢١ شباط / فبراير ٢٠٢٣ يعتقد المسيحيّون أنّ يسوع هو كلمة الله المتجسّد، لذلك يقرأوا فيه «وجه» الله. سجّل تلامذة يسوع أنّه وجّه دعوة للبشر كي يحبّوا بعضهم بعضا كما هو أحبّهم. وهو أحبّهم وترك لحرّيتهم أن تقدّم جوابا على حبّه إمّا حبّا، أو ما هو ضدّ. هذا الردّ الإنسانيّ على الحبّ الإلهيّ بالحبّ كطريقة حياة، هو لبّ الحياة. بالحبّ يعجن الله الإنسان ويكمل خلقه. إن استخدمنا لغة الرمز التي كُتبت فيها رواية آدم وحوّاء التي في كتاب العهد القديم، يمكننا أن نكتب بأنّ الله قد خلق الإنسان «على صورته» (أي فيه إمكانات المحبّة والفكر والحرّية) من التراب ونفخ فيه الحياة، فإنّه بإنماء الله للحبّ في الإنسان فهو يخلقه «على شبهه»، أي أنّه يساعد الإنسان كي ينمو فيحقّق تلك الإمكانات الكامنة فيه. يعجننا الله من التراب ويخبزنا بالحبّ لنصبح ما نحن مخلوقون أن نكونه: مخلوقات مشاركة نعيش الحبّ كطريقة حياة. بالطبع، مَن يقول حبّ يعني أيضًا حرّية، إذ لا حبّ بدون حرّية، ويعني مسؤوليّة عن حياة الآخرين وحياة الخليقة، ويعني احترامًا للآخرين وللخليقة كي لا تجنح المسؤوليّة إلى تحكّم، ويعني معرفة متعاطفة، معرفة من الداخل، كي يتمكّن الإنسان من خدمة الحياة بطريقة أفضل. كانت قمّة محبّة يسوع للناس أنّه ترك لهم الجواب الأخير على حبه البادئ؛ ولهذا هتف قلب يوحنّا على ورقة يومًا صارت جزءا من الانجيل أنّ: الله محبّة. كان يوحنّا يومها ينقل ما اختبره من حياته مع يسوع. فبموت يسوع – كما يؤمن المسيحيّون – أظهر الله أنّه هو المحبّة التي تحترم الحرّية الإنسانيّة حتّى عندما ترفضه برفض كلمته يسوع. لكن لم يكن للموت الكلمة الأخيرة، فيسوع كان كامل المحبّة، ولم يعرف قلبه غشّا لذاته أو لغيره، ولذلك كان كامل الانفتاح على مصدر المحبّة، أي الله. هكذا، فإنّ إنسانيّة يسوع بموتها الطوعيّ، امتلأت بالحياة الإلهيّة (إن صحّ التعبير، فالكلام تأمّل ومقاربة لما هو غامض) فقامت من الموت. بيسوع نفهم أنّ الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة، أنّ هذا التراب الذي إلى التراب يعود لا يفنى، وإنّما يمكن بسبب الحبّ الإلهيّ الذي لا يريد للمحبوب أن يفنى أن يقيمه في اليوم الأخير، حيث يتجلّى مدى انفتاح الإنسان على إمكانيّات المحبّة خلال حياته. ولكن هناك شيئا آخر، أظهر الله بيسوع أنّ كلمته الإلهيّة مضروب ومضطهد من مناهضي المحبّة، ولكنّه أظهر أيضًا أنّه ينتصر حيث يظنّ المناهضون أنّه هُزِمُ. لو تأمّل المؤمنون مليّا وذهبوا أبعد من الطقوس، ومن العادات الاجتماعيّة الجميلة، واعتبروا إيمانهم أمرا جذريّا في حياتهم، لفهموا أيضًا أنّ كلمة الله مضطهد أمامهم في كلّ مهمّش، وكلّ رهينة تعسّف، وكلّ ضحيّة تعذيب، وكلّ شعب محاصر، وكلّ مظلوم، فردًا كان أو جماعة. الناس باضطهادهم بعضهم البعض هم يضطهدون دائمًا صورة الله وخليفته في الأرض، وأولئك الصامتون هم لا يبالون باضطهاده. في وجه كلّ إنسان بريء يُقتل نرى وجه يسوع على الصليب؛ لكنّ قيامة يسوع تدلّنا أنّ الكلمة الأخيرة ليست لموت البريء، بل لكلمة الله الذي يريد ويعمل كي تتجسّد المحبّة والعدل في هذه الدنيا، وهو يعمل بواسطة البشر، فـ«نحن عاملون مع الله» كما كتب تلميذ لاحق ليسوع. إن كان الله متمّ نوره ولو كره الكارهون لصورته فيبدو أنّه يريد أن يفعل ذلك بواسطة الناس، ولذلك نستنتج أنّ اليوم الأخير، يوم العدل والحرّية والمحبّة، ليس يوما مُرجًأ، وإنّما هو يبدأ ويتجسّد - ولو نسبيّا - في اليوم الحاليّ حين ينضمّ ناس اليوم إلى «قلب» الله بالعمل لإرساء المحبّة والعدل والرحمة. وحيث ينبغي لمحبّة الإنسان لله، ومحبّة الإنسان لإنسان آخر، أن تحكمهما الحرّية المطلقة، فإنّ نتائج الحرّية البشريّة، أي وقعها وأثرها على الناس، لا يمكن أن يُحتَرَم بشكل مطلق، بل ينبغي أن يُناهض حين تتوه تلك الحرّية عن خطّ المحبّة وتبدأ بنشر الموت، كلّ أنواع الموت، الجسديّ والمعنويّ. إنّ كتب الناس المقدّسة مليئة بالدعوة لإقامة العدل ودفع الظلم؛ أي مليئة بالإشارة إلى مسؤوليّة الناس عن رفع الظلم عن بعضهم البعض، وعن نشر العدل، أي إلى مسؤوليّتهم عن مقاومة انحراف الحرّية البشريّة وأثر ذاك الانحراف على الحياة. الله الحيّ القيّوم هو الذي يريد رعاية الحياة ونموّها، وقد جعلَنا مسؤولين معه عن ذلك، عاملون معه على استتباب المحبّة والعدل على هذه الأرض حتّى يحين موعدٌ مع اليوم الأخير. في اليوم الأخير، حين تقف الخليقة أمام وجهه عاريّة من كلّ أنواع الهروب، ينبلج فجر الله محبّة، فيضمّ إليه الخليقة ويغدق عليها من ينابيع محبّته. عندها سيكون باستطاعة الناس الذين تمرّنوا على المحبّة ومقاومة الشرّ على هذه الأرض رغم أخطائهم، أن يشاركوا عطايا الله ويجلسوا معه حول مائدة الحبّ والمشاركة. أمّا الذين اضطهدوا الله باضطهاد خلقه، فلن يتمكّنوا لقساوة قلوبهم أن يشاركوا بهذه المحبّة، فيكونوا كمن أغلق على نفسه إمكانيّة الفرح، وإنّه لعذاب عظيم أن يعزل إنسان نفسه وسط عرس. عندها، محبّة الله تقتضي احترام الحرّية الإنسانيّة للمنغلقين عنه، ولو أنّ جمال وجهه وألق محبّته سينتظران على مشارف القلوب إلى ما لانهاية يقرعان أبوابها. الملكوت هو ملكوت الحبّ، ولكنّ حضور الله-المحبّة سيفعل بطريقتين مختلفتين، إذ سيكون عذابا لغير المحبّين لأنّ أولئك ينغلقون أمام الله، مصدر كلّ فرح ومُتمّ إنسانيّة الإنسان؛ ويكون جمالًا وفرحًا للمُحِبّين لأنّ هؤلاء ينفتحون على محبّة الله بعد أن تكون هذه قد تسرّبت إلى قلوبهم أو خبزتها من خلال كلّ حبّ أحبّوه به وكلّ نضال ناضلوه في هذه الحياة من أجل حبّ «صورته» بينهم: ذاك الإنسان المضطهد. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |