خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢١ في قضيّة التحرّش الجنسيّ في الكنائس في منطقتنا، تتراوح ردّات الفعل بين المتمسّك بمخدّر المؤامرة، وبين العارف والذي يريد أن ينسى، وبين الذي يتأسّف على الفعل ويلوم الضحايا، قلّة تُعير كلام الضحايا الوزن الذي تستحقّه، ولكنّها قلّة تَكبر أكثر فأكثر، وستطيح يوما بنظام الصمت الإجراميّ هذا. من ردّات الفعل، المنقطعة عن سياق الواقع بشكل تام، هي تلك التي تدعو المنادين بضرورة العدالة أن يتركوا الحكم لله لأنّه هو العادل والقاضي، ولسنا نعلم عن أحدٍ قُتِلَ له طفلٌ، أو اغتصبت له امرأةٌ، أو ضُرِبَ وعُذِّبَ له حبيبٌ، فعاد إلى منزله وهو يقول بكلّ راحة ضمير "فلأتركها لله فهو الديّان العادل". إن أراد أحد أن يفعل ذلك بشأن أذىً وقع عليه هو، فذاك شأن حرّيته وقناعته. لكنّ القاعدة الفطريّة المزروعة في الإنسان تقول بألّا يقبل أحد بأن يتعرّض لأذى ولظلم دون أن يُردَعَ الفاعل ويُعاقَب كي يستعيد هو [المـُعتَدى عليه] احساسه بالعدالة وبالكرامة؛ فكيف إذا تعلّق الأمر بظلم وقع على آخر غير قادر على ردّ الاعتبار لذاته ولا الدفاع عن نفسه (قاصر مثلًا)، ونحن مسؤولون عنه؟ إنّ تحقيق العدالة وعقاب المعتدي أمر حيويّ من أجل الناجين ليستعيدوا شعورهم بالقدرة وبردّ الاعتبار، ومن لا يريد أن يصدّق هذا الأمر فإنّنا واثقون أنّه يقدر أن يتخيّل احساسه إذا ما صفعه أحدٌ، أو أذلّه بالكلام، وسط الناس؟ قد لا يُقدم على الدفاع عن نفسه جُبنًا أو خوفًا من الأعظم، أو طمعًا بترقية، أو بمال أكثر، أو بسلطة أكبر، ولكنّ شعوره الداخليّ هو نفسه: لو كان الأمر بيدي لأردت العدالة فورًا. ما من مجتمع إنسانيّ يمكنه أن يقوم دون إحقاق العدالة وعقاب المرتكِبين، والدّاعين لترك الأمور لله يقفزون فوق هذه البديهة ويتناسونها طالما الأمر لا يتعلّق بهم شخصيًّا، وهم بذلك يبرزون قدرة فائقة على انعدام الاحساس بالآخرين، أو على الكسل. عندما يدعو بعض المسيحيّين إلى ترك كلّ الأمور لله "الديّان العادل" فهم يخلطون بين حيِّزَين: حيّز الحياة الإيمانيّة وحيّز الحياة الاجتماعيّة. علّمنا اللاهوتيّ كوستي بندلي ألّا نفصل بين الحيّزين كي لا يحيا الانسان في الحياة الاجتماعيّة-السياسيّة-الاقتصاديّة بشكل مخالف للتعاليم الإيمانيّة، ولكن أمام المشكلة التي أتناولها اليوم ينبغي أن نزيد على هذا التعليم لنقول إنّه في المقابل ينبغي عدم الخلط بين الحيّز الإيمانيّ والحيّز الاجتماعيّ. فالإيمان يتعلّق بعلاقة الإنسان بالله أساسًا، صحيح أنّ هذه العلاقة بالله تنعكس في الواقع الاجتماعي أي تنعكس في علاقة الإنسان بالآخرين، إلّا أنّها متمايزة ولها قوانينها وأدواتها، المختلفة عن قوانين وأدوات الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة، إلخ. في الحياة الإيمانيّة العلاقة مع الله تمرّ أساسا بالمناجاة-الصلاة، وبالتوبة عن البعد عن الله (الخطيئة) للعودة إلى محبّته وصداقته. رغم بساطة هذه الرؤية الأساس فإنّ المسيحيّ ليس فردًا مفصولًا عن غيره وإنّما يحيا في جماعة مسيحيّة، ولهذا قامت المسيحيّة بسنّ قوانين لا تعدّ ولا تُحصى لتسوس العلاقات بين البشر فيها. في الحياة اليوميّة، ورغم ضرورة استخدام مفهومي الخطيئة والتوبة لوصل الحياة الإيمانيّة بالحياة اليوميّة، فإنّنا ينبغي أن نعي بأنّنا لا يمكننا أن نتعامل مع الناس بأدوات الخطيئة والتوبة، بل بأدوات الحياة الاجتماعيّة، فنستعمل أدوات التربية والعلوم والفنون والفلسفة في حيّز الصحّة، والتعليم، والأعمال، والكنيسة، وغيرها. وتقتضي الحياة الاجتماعيّة قوانين تسنّها الجماعة لتسوس العلاقات فيها فتبني وتدعم وتُنَمّي، وكذلك تحمي وتُعاقب. لا أحد، وأعني بذلك لا أحد مطلقًا، ولا حتّى يسوع المسيح نفسه، تصرّف على أساس أنّ القوانين لا أهمّية لها وأنّ الإنسان عليه أن يَترك الأمور لله الديّان العادل. ودليلي على أنّ يسوع نفسه لم يترك الأمور لله العادل في الحياة الاجتماعيّة هو أنّه عندما صفعه أحدٌ رفض الاعتداء، وخاطب ذاك الرجل قائلا "إن كنتُ قد قلتُ أمرًا سيّئًا فبيّن الإساءة، وإن حسنًا فلمَ تضربني؟" وبهذه الكلمات رفض يسوع الظلم ولم يترك الأمر لله. بالطبع كان مُعتقلا، وكإنسان لا قدرة له على ردع المعتدي، وما كانت مواجهة الاعتداء ممكنة عمليًّا بالقانون لأنّ الـمُمسك بالسلطة الدينيّة كان هو مَن يحمي الـمُعتدي. في الخلاصة، كما أنّه لا يجب الفصل بين الحيّزين الإيمانيّ واليوميّ، ليس بهدف استيلاء الحيّز الدينيّ على اليوميّ وإنّما بهدف ألّا يُعاش اليوميّ بطريقة مخالفة للإيمانيّ؛ إلّا أنّه يجب التمييز بين الحيّز الإيمانيّ القائم على أدوات إيمانيّة (صلاة، توبة) وبين الحيّز اليوميّ القائم على أدوات أخرى (علوم، قوانين، دولة). في اليوم الأخير الله هو الـمُحِبُّ الذي أمامه تُحاكِمُ القلوبُ نفسَها، بانغلاقها دونه أو بانفتاحها عليه. أمّا في الحياة اليوميّة، الآن وهنا، فوسائل التعامُل أخرى. أمّا أصحاب السلطة الدينيّة فعندما يحمون المعتدين ولا يواجهون حالات الاعتداء المستمرّة تحت أنوفهم، فهم يذكّرونا بأولئك الذين حموا مَن اعتدى على يسوع، ثمّ سلّموا الـمُعتدى عليه إلى الصلب. إنّ اللهَ بريءٌ من الصورةِ الصنميّة لله التي نلجأ لذِكْرِها لحماية الظُلم واستمراره. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |