خريستو المرّ
الثلاثاء ٢١ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢١ هذا العيد بداية الجنون. إله يريد أن يصبح إنسانًا ليس ليكون قُربَ مَنْ أحبَّ، وإنّما لكي يأخذ عنه وجعَه ليعطيه مِن حياته. مَنْ مرَّ بأوجاعِ حبيبٍ يعرف ما معنى تلك الأمنية الكبيرة للمحبّين: أن يأخذوا عن حبيبهم آلامه ومرضه وموته، وأن يعطوه من حياتهم. "لو بقدر بعطيه روحي" قالت لي صديقةٌ مفجوعةٌ باكيةً. حبيبها يتألّم ولا شفاء. بعدها بأيّام غادرنا. لم أسمع أصْدَقُ من كلماتها. هي عبّرت، دون أن تعلم، عن لبّ ما فَهِمْتُه في المسيحيّة منذ فتحتُ عينيّ على ذاك البريء المعلّق على خشبة. إلهٌ يتجاوزُ كلّ شيء أحبَّ مخلوقاته بجنونٍ، وفي آلامهم غير المحتملة تجاوز تجاوزَه عنهم لكي يصيرَ واحدًا منهم، ويتمكّن من أن يأخذ عنهم آلامهم ليعيطهم روحه، تمامًا كما قالت صديقتي. ولكن حيث، وبكلّ لوعة، نحن لا نستطيع ذلك مع أحبّائنا، هو يستطيع مع أحبّائه. هذا جنون المحبّين، وقد دعاه بولس كذلك عندما قال أنّ صليب المسيح كان جنونًا لليونانيين، جنونًا للمنطق. ولو ننتبه لحياتنا لفهمنا أنّ هذ الجنون هو رغبة كلّ الـمُحِبِّين؛ وقد قال فيلسوفٌ لامس الشِعرَ يومًا أنّ للقلب منطقٌ لا يعرفه المنطق. الميلادُ متابعةٌ لمغامرةِ الحبّ التي خاضها الله بعمليّة خلقِ الكون. هو الخطوة الأولى على دربٍ ستوصل إلى الجلجلةِ حيث سيأخذُ المسيح على ذاته ضياعَنا وموتَنا ويسلمُ الروحَ إلينا، حيث سيأخذ ما فينا من الموت ليعطينا الروحَ، فنحيا بروحه المسكوب على خشبة، والمسكوبِ في خمرةِ كأسِ العشاءِ الأخيرِ الذي غدا أوّلًا في سلسلةٍ من أعشيةٍ يتّكئ فيها السيّد في قلب كلّ مُحِبّ كلّ يومٍ، إلى أن نتّكئ معًا حوله، هو مائدة الحبّ التي نسمّيها الملكوت. كمال الجنون كان على الصليب، أمّا بِدْؤه فكان في الميلاد. الإله يولدُ طفلًا. في مطلق الهشاشة يبدو الله. هو ذاك اللطف الذي يبدو مغلوبًا وهو الغالب، وعلى صورته كلّ لطفٍ يواجه الموتَ وكهنتَه في هذا العالم بكلام شجاعٍ وأعينٍ مفتوحة. وهشاشةُ الميلاد حكايةُ مذبحةٍ في بيت لحم قَتَلَ خلالها ملكٌ مجنون بالـمُلْكِ كلَّ طفلٍ دون السنتين، بحسب الرواية الانجيليّة. أمام جنون الحبِّ الهشّ هناك جنونُ الـمُلْكِ البطش. مذبحةٌ، تُعطي فيها الطفولة في الحكاية المسيحيّة أوّلَ شهدائِها، وينجو جُنونُ الحبِّ، وهو دائما ينجو لأنّه أبدًا مضمومٌ إلى صدر الله. الميلادُ عيدُ الشهادةِ والحبِّ، عيد شهادةِ الحبّ الهشِّ الذي سيغلب. حبُّ صديقتي وصديقي أبديّان لأنّ حبّهما الهشّ قد غلب، فقد كان مضمومًا أبدًا إلى قلب الله، واليوم صار فيه. الميلادُ عيدُ الذين قَتَلت قساوةُ جنونُ الـمُلك أجسادَهم الطريّة، فمزّقَتهم الحروب وسجَنَهم الاستبدادُ، وصلبتهم الرأسماليّة على صليب جشعِها في كلّ مكان. الميلادُ عيدُ الذين يقتلهم أسيادُ الموت في هذا الدهر، وهو أيضًا عيد الحبِّ، عيدُ هشاشةِ الحبّ الذي يتجلّى دائمًا ألوهةً. الحبّ كوّة يطلّ بها هذا العالم إلى العالم الآخر، أو هو خميرةٌ تخمّرُ عجين الأجساد الطريّة لتشفّ عن الضوء الخبيء فيها، ونارٌ تُلهِبُ الروح ليصيرَ الإنسانُ خبزًا إلهيًّا يقتات منه الجائعون، ويحيا به المحبوب. أمام الهشاشة في الأرض، أمام الفقراء والـمُهَمَّشين والمستعبَدين والمصلوبين والـمُحِبّين، نحن أمام هشاشة المولودِ في مغارة. الملوكيّة أمامهم هو أن يفتح الإنسانُ «كنوزه» ويقدّم ثمّ يخرّ ويسجد لهم، كما فعل المجوس؛ وعندما يعرفهم اسيادًا يصارعُ إلى جانبهم. إنّهم هم أكابرُ الأرض، ووجهُ سيّد الطراوة المصلوبة، سيّد الحبّ الهشّ المغلوب وهو الغالب. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |