الثلاثاء 24 آذار/مارس ٢٠٢٠
إنّ بروز الفكر التكفيري في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، ليس من قبيل الصدفة؛ قد يساهم فيه الحسد الشخصيّ أو الطموح السياسيّ الطائفيّ الفاشيّ؛ إلاّ أنّ الأساس هو أمر آخر برأيي، ألا وهو تعليمٌ يحتضن ويحضّ على الفكر التكفيري في الكنيسة، علم أم لم يعلم، وسنحاول أن نستجلي أبرز ملامحه. هناك خطاب واضح في وعظٍ وكتابات وتعليم تهاجم العقلَ. العقل، بحسب هذا الخطاب، تجربة كبرى لأنّه يدعو إلى الكبرياء الذي يبعدنا عن الله. يضع هذا الخطابُ التواضعَ كهدف تربويّ روحي يوصل إلى التوبة، ولكن المشكلة أنّه يضعه في مواجهة العقل؛ ويتناسى أنّ الدعوة إلى لتواضع نفسها قد يشوبها الكبرياء، بحيث تصير وسيلة للتعالي كما يحذّر الأدب الرهبانيّ. الحقيقة الساطعة هي أنّ كلّ الخبرات الإنسانيّة معطوبة، وليست كاملة، وكلّها تحتاج لنور المسيح: أكانت عقلاً أم تواضعًا. ثمّ أنّ خطاب التواضع نفسه هو خطاب فكريّ يتمّ بواسطة العقل، يهاجمه أصحابه العقل باللجوء إلى العقل، ولكن يفوتهم ذلك لأنّهم مشغولون بتواضعهم! إنّ التوبة والتواضع لا يفترضان الاستقالة من العقل، فأيّة استقالة منه هي تدمير لإنسانيّة الإنسان ككائن عاقل. يترافق التعليم الذي يهاجم العقل والعلوم، مع تعليم يعتبر الرهبنة الحالةَ «الأسمى» للإنسان المسيحي؛ وقد استطاع أحد الرهبان بأنّ يكتب في نشرة كنسيّة مؤخّرًا بأنّ الراهب (بل تيّار رهبانيّ محدّد) هو الوحيد الذي يمكنه أن يعاين الله! إنّ هكذا تعليم يُضفي قداسةً في غير محلّها لأيّ خطاب يقوله إنسان لبس اللبوس الرهبانيّ، حتّى ولو كان خطابه مخالفًا لأقلّ مستويات المنطق ومعطيات العلوم. هذا الوضع، استعمله بعض الرهبان، والمتزلّفين طالبي السلطة من الكهنة، والعلمانيّين الباحثين عن هويّة في أزمة ضياع الهويّات الوطنيّة، وسيلةً لإيجاد هويّة، ولاحتواء الحقيقة الإلهيّة وحقاق الوجود، ووسيلة للتكفير يمنة ويسرة، ولتشجيع الفكر الأصوليّ المنقطع عن حضور الله في حقائق هذا الكون. ثمّ هناك الإكليريكانيّة، وهي تتجلّى برؤية تريد للإكليروس أن يتفرّد بالإمساك بشؤون الحياة الكنسيّة. فإذا بتراتبيّة تفصل بين المسيحيين والمسيحيات، تأتي الرهبنة في الدرجة الأولى، يتبعها الإكليروس، فالمسيحّيات والمسيحيّين «العاديّين». بالطبع، الكهنة في معظمهم هم الحلقة الضعيفة، يحيون مع عائلاتهم دون أيّ شكل من أشكال الحماية في الضيق. أمّا المطارنة – فما خلا استثناء أو اثنين- لم يعرفوا يوما في وظيفتهم معنى أن يقلق الإنسان لعدم حيازته على ثمنٍ لعشاء أو كلفةٍ لطبابة. هذه الإكليريكانيّة التسلّطيّة، ترفض أيّة حرّية ولو كانت فكريّة وبالتالي تنحو نحو الانقباض الفكريّ والتكفير، تكفير ما أكتبه الآن مثلاً. أخيرا هناك غياب روحُ القيادة والانشغال عنها بروح التسلّط، فالأسقفيّة اليوم "تُعِدّ، أكثر ما تُعِدّ، أشخاصًا مهووسين بحبّ السّلطة، ومظاهر العظمة"، كما كتب يومًا الراهب توما بيطار. تجتاح الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة الأزمة تلو الأزمة داخليّا (تحرّش، اعتداءات، هجرة) وفي مجتمعاتها (حروب، تسلّط، نهب، فساد) والحاجة ملحّة لقيادة متنوّرة تخرج بالكنيسة من العقليّة الانهزاميّة الخائفة التي لا ترى في العالم سوى المكائد والمؤامرات، والخضوع للسلطات القائمة، والمهرجانات والخطابات العقيمة، إلى رحاب العالم والتعاطي معه بحرّية الروح القدس، والتواصل مع نساء ورجال الكنيسة وشابّاتها وشبابها، وأخذ المشورة والنصيحة منهم، وتشجيعهم على التزام شؤون مجتمعاتهم بروح الابداع والمشاركة. مؤخّرًا، بشكل استثنائيّ، أخذ المجمع الأرثوذكسي برأي متخصّصين بشؤون العائلة، في خطوة في الاتّجاه الصحيح، ولو كانت ناقصة في ظلّ غياب تمثيل وازن للنساء. في العمق، الغائب الأكبر هو رؤية مسيحيّة منفتحة على العالم وشغوفة به لأنّها شغوفة بخالقه وتراه في كلّ مكان وكلّ إنسان، رؤية كنيسة متجسّدةٍ بالفعل في هذا العصر بالذات، لا تجترّ أشكالا لتصرّفاتها من عصور غابرة، ولا تشارك أمراض بلدانها بل تساهم في علاجها. ألا يمكن للمسيحيّين والمسيحيّات أن يفكّروا أو يتحاوروا إلاّ خارج الأطر الكنسيّة الرسميّة؟ أليس في ذلك دينونة للكنيسة أمام ربّها يسوع المسيح ملك الضمير والحرّية؟ خريستو المر Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |