خريستو المرّ
الثلاثاء ١٢ نيسان / أبريل ٢٠٢٢ العائدون من زيارة للبنان يخبرون بأنّ المطاعم مليئة بالناس. هذا، على صحّته ربّما، يبقى ملاحظةً سطحيّةً يجب ألّا تنسينا الوقائع الكبرى، الحقيقيّة هي الأخرى، أوّلها أنّ الواحد بالمائة الأغنى من السكّان (أي ٤٠ إلى ٥٠ ألف شخص) والمتملّكين لمعظم الثروة، يمكنهم على الأرجح أن يملأوا جميع المطاعم. الرؤية الصحيحة لا تقتصر على ظاهر الأمور، الاحصائيّات تقول أنّ معدّل الفقر في لبنان قفز من ٢٨٪ عام ٢٠١٩، إلى ٥٥٪ عام ٢٠٢٠، ليبلغ أكثر من ٨٢٪ اليوم. هذا فيما الخطاب الانتخابيّ للسياسيّين الممسكين بإيهام الناس بتمثيل طوائفهم، بلغ مستويات عليا من الإسفاف والكذب والتآمر على ما بقي من السكّان. ماذا يعني مجرّد أن يتنطّح إلى تمثيل السكّان مَن كان مشاركًا في إرساء سياسة دفع البلاد إلى الانهيار، ومتابعة حماية تلك السياسة، سوى المزيد من القتل؟ إن وضعنا الطائفيّة جانبًا. نلاحظ أنّ الإخلاص لحزب أو لشخص يتحوّل رذيلة إذا ما تسبّب بإيقاف العقل والأخلاق عن التفاعل مع الواقع. الواقع أنّ البلاد لن تخرج من الفقر مُطلقًا لا الآن ولا في المستقبل في ظلّ تحكّم هؤلاء بالسلطة لأنّهم غير مهتمّين بإنشاء دولة تحمي مجتمع ٍكاملٍ، هم على الأكثر مهتمّون بمتابعة أعمالهم كما كانت، محاولين ضمان «الهدوء» في طوائفهم، وهذا هدوء مخيف، لأنّ الآتي أعظمَ فقرًاـ، وقلّةَ أمنٍ، وموتٍ على أبواب المستشفيات، وعلى الطرقات، وتدهور في الصحّة النفسيّة وما ينجم عنها من تعقيدات جسديّة واجتماعيّة. انهيتُ مع زملاء منذ أيّام تحليلَ مستوى الكآبة والقلق والضغط النفسيّ عند عيّنة من طلّاب الجامعات في لبنان (النتائج لم تنشر بعد)، والنتيجة الكارثيّة قاطعة، فقد بلغت نسبة الكآبة ٧٥٪ ونسبة القلق ٧٢٪ ونسبة الضغط النفسيّ ٩٠٪، وهي نسب جدّ مرتفعة! رؤساء الطوائف المسيحيّة في لبنان كزملائهم المسلمين، لهم باع طويل بحماية المرتكبين من طوائفهم فهم مع التوازن في الفساد، ويعلنون أنّهم يكرهون الطائفيّة، ولكنّهم مع المحاصصة الطائفيّة إلى ما شاء الله. أمّا عندما تقوم قائمة لهذا الشعب فينبرون لخنق صوته بالكلام المعسول، فنحن لا ننسى تاريخ تواطئهم ودفاعهم المخجل عن النظام الاستغلاليّ القائم (كيف لنا أن ننسى مثلًا الاجتماع المخزي للطوائف المسيحيّة في بكركي في تشرين أوّل ٢٠١٩). معظم المسؤولين الرسميّين في الكنائس المختلفة، كما زملاءهم المسلمين، ارتضوا خدمة البلاط، أحيانا بشكل فاعل وأحيانا بالصمت. أمّا بين المسيحيّين فالانشقاق الكبير ليس هو ذاك الذي تمّ يومًا بين الكثلكة والأرثوذكسيّة، أو لاحقًا بين الكثلكة والبروتستانتيّة، على أهمّيّة هذين، وإنّما هو ذاك الانشقاق الوجوديّ القائم بين سرّ المذبح وسرّ الأخ، أي القائم بين الإيمان وتفعيله في المشاركة بالثروات. لكنّ المشاركة الاجتماعيّة لا تكفي، أصلًا هي لن تكفي في أيّ بلد، لأنّ مساعدة الفقراء على ضرورتها القصوى في ظلّ الأوضاع القائمة، لا يمكن ان تكون بديلًا عن توزيع عادل الثروات الوطنيّة، وذلك أنّه لا يمكن للمساعدات الماليّة وقف سياسات الإفقار وإنتاج الفقراء، فالفقر هو نتيجة نهب. إنّ العدالة الاقتصاديّة – والتعبير الأكثر جذريّة مسيحيًّا هو المساواة الاقتصاديّة - ليست منّةً من أحد على أحد، وإنّما هو حقّ المنهوبين. ما من تراكم ثروات يحدث دون استغلال، دون نهب. التزام المسيحيّين التغيير الاقتصاديّ-الاجتماعيّ، مع مواطنيهم في أيّ بلد، هو التزام إيمانيّ، وبالدرجة الأولى هو التزام إنسانيّ. هذا هو المنطق المسيحيّ الذي على أساسه يمكن للإنسان أن يعمل لأجل وصول أشخاص صادقين ملتزمين بالعدالة الاجتماعيّة للوصول إلى حكم البلاد، أكانوا مسيحيّين أم مسلمين أم بوذيّين، مؤمنين بالله أم غير مؤمنين. هذا ما علّمتنا إيّاه الأنشودة الخفيفة لحياة سيّد الفقراء والمهمّشين، يسوع. عدا ذلك قتل عميم. مواجهة القتل القادم هو العنوان الحقيقيّ اليوم للعمل السياسيّ. على أبواب ذكرى الحرب الأهليّة، القلب والعقل يقولان أنّ الحرب الأهليّة الكبرى المستمرّة هي تلك بين المستغلِّين والمستَغَلّين، وعلى الفريق الثاني أنّ يحزم أمره. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |