موقع خريستو المرّ
Arabic | English
  • كتب
  • محاضرات
  • مقالات في «الأخبار»
  • المقالة الأسبوعيّة
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة

المقالة الأسبوعيّة

مات وقام من أجل الحرّية والحبّ والفرح (٢ / ٢)

9/10/2019

 

مات وقام من أجل الحرّية والحبّ والفرح (٢ / ٢)
 الثلاثاء ١٠ أيلول/سبتمبر ٢٠١٩​

 المحبّة هي الوجود لأنّ الله ذاته محبّة، ونحن حين نؤكّد أولويّة الحرّية في الإيمان المسيحيّ فذلك أنّنا نؤكّد أولويّة المحبّة، وكما بيّنا في المقالة السابقة، لا يمكن للمحبّة أن تكون دون حرّية. ولكن لا حرّية دون محبّة، أي دون الحفاظ على الفرادة في قلب الوحدة، فالمحبّة هي التي تحرّر مسعى الحرّية من الانغلاق المميت على الفرادة، ومن الانحدار إلى وحدة كاريكاتوريّة شكليّة فاشلة عن طريق الخضوع أو التسلّط.

لهذا أعتقد أنّ القول بأنّ حرّيتي تقف عند حرّية غيري، أو أنّ الحرّية غير مطلقة، هي كلمات مبهمة وغير ذي مغزى من منظور الإيمان بالله المحبّة. أعتقد أنّ هناك جذرٌ مسيحيٌّ يمكننا أن ننطلق منه لنقارب مسألة الحرّيات، ألا هو احترام الحياة: الله الحيّ، هو الذي أراد أن يخلق هذه الحياة ويحفظها من العدم بنعمة روحه، الحياة التي أرادها يسوع أن تكون أوفر للناس بالتألّه، الحياة التي أقامها يسوع من الموت لأنّه سيّد الحياة، وأعطاها إمكانيّة أن تكون لا نهائيّة الضياء في وحدتها مع الله. عبارة القدّيس إيرناوس (القرن الثاني) "إنّ مجد الله هو الإنسان الحيّ"، لا تزال تحتفظ بكلّ روعتها وبلاغتها. من هنا، كلّ ما يعارض الحياة (حياة الإنسان وحياة الطبيعة ولكن سنكتفي بالتركيز على الإنسان) ونموّها إلى أقصى إمكانيّاتها هو مخالف لمجد الله ومرفوض مسيحيًّا. ومن هذه الزاوية الجديدة سنقارب مسألة الحرّيات.

إنّ كلّ إنسان هو مدفوع إلى أمرين: أن ينمو بحكم طبيعته إلى أقصى إمكانيّات هذه الطبيعة (نموّ الجسم، العقل، تذوّق الجمال...)، وأن يحقّق ذاته، فرادته، أي كلّ ما يقول فيه: أنا. بكلمة أخرى، كلّ إنسان مدفوع لأن يحقّق ذاته كشخص. والخبرة الإنسانيّة، وعلوم النفس، تبيّن لنا أنّ الإنسان لا يمكنه أن يكون حيّا بالفعل، موجودًا بالفعل، دون محبّة، أي بلغتنا المسيحيّة دون أن يحيا على نسق طريقة الحياة الإلهيّة (الله محبّة أي طريقة وجوده هي محبّة). الإنسان دون محبّة يموت (نفسيًّا وحتّى أحيانًا جسديًّا). ولكن شرط الحياة بالمحبّة هو الحرّية، ورأينا أن شرط الحرّية هو المحبّة. أن يحيا الإنسان، إذن، هو أن يصبح مُحِبًّا حرّاً (على مثال الله). بدون محبّة وحرّية الإنسان حيّ ميّت، "زومبي" بالتعبير المعاصر. كلّ ما يعارض الحياة في الإنسان، سير الإنسان في خطّ الحياة تجب معارضته من وجهة نظر مسيحيّة، لأنّ أثره مأساويّ على الحياة الجسديّة والنفسيّة والروحيّة، لأنّه يعرقل الإنسان عن العيشِ الفرِح (الجسدي النفسيّ) ولأنّه يعرقل نموّه في الحياة الإلهيّة (خلاصه). من أجل هذا أساسًا يجب أن نحترم الحرّية ونرفض القمع، وليس من أجل أيّ شيء آخر.

لكنّ الأمور ليست مطلقة. لا أعتقد أنّني مدعوّ أن أحترم حرّية إرادة الإنسان بشكل مطلق. إذ انطلاقا من نفس المبدأ الإيمانيّ: احترام الحياة، لست مدعوّا أن أحترم حرّية إرادة الإنسان إذا أرادت الاعتداء على الحياة، حياة الإنسان والطبيعة. حرّية التفكير تبقى مطلقة لأنّها ليست فعلا خارجيّا يدمّر آخر والإنسان حرّ بتدمير نفسه، حرّ برفض الآخرين، أمّا حرّية الكلام والنشر والتصرّف فهي أفعال تجاه آخرين، ويمكن للمجتمع أن يسنّ قوانين تحمي من فكر وقول وتصرّفات فيها اعتداء، أو دعوة إلى اعتداء، على الحياة: كدعوات الكراهية والعنصريّة والاستغلال، وتدمير البيئة، أي كلّ ما هو اعتداء على حرّية الإنسان وإمكانيّة تحقيقه المحبّة (الوحدة في التمايز) في المجتمع.

هل هذا حدّ من الحرّية؟ لا أظنّ ذلك، هو حدّ لحرّية الإرادة ولكن ليست حدّا للحرّية. عندما أظنّ أنّي "أحدّ" من حرّية إرادتي لكي أحترم حياة غيري (حرّيته، وفرادته وسعيه للوحدة) لا أكون بالفعل أحدّ من حرّيتي، بل أطلقها، أتابع تحرير ذاتي من الانغلاق على ذاتي، وبهذا أحرّر إرادتي من العبوديّة لأوهام إمكانيّة اكتفائي بذاتي. وأمّا إن لم أفعل ذلك طوعًا، إن لم أذهب بحرّية إرادتي إلى احترام الحياة، فعندها يجب أن تُردع حرّية إرادتي حمايةً للحياة في الآخرين، ومنحًا لي لفرصة كي أرى أنّ أرادتي تدمّر ولا تحرّر أو تحيي، لا أنا ولا غيري. هذا هو، برأيي، المنظور الإيمانيّ لضرورة التزام النضال من أجل إزالة الظلم والقمع والتسلّط والنظم الاقتصاديّة المستغلّة، وغير ذلك، في جميع مرافق الحياة (العائلة، التربية، الدين، المجتمع). إنّه منظور الدفاع عن الخلاص، أي الدفاع عن الحياة التي خلقها الله ويرعاها كلّ لحظة حتّى نهاية الزمان، وبعده.

إذاً، من وجهة نظر مسيحيّة، يحترم الإنسان حرّية إرادة الآخر إن لم تجنح إلى تدمير الحياة ويواجهها أن جنحت. وإن احترمنا حرّية أرادة الآخر (إن لم تكن تريد أذى الحياة) لا نختبر ذلك على أنّه حدّ من حرّيتنا، بل نختبره حياةً لنا، تحريرًا لحرّيتنا من وهم التسلّط، نختبره وصالا مع الآخر، محاولة وحدة معه، قد تنجح وقد تفشل (الوحدة تحتاج إلى إرادة الطرفين)؛ فاحترامنا لحرّية غيرنا لا يجعل حرّيتنا تقف عن حدّ، وإنّما يطلقها في رحاب المحبّة، في رحاب التواصل الإنسانيّ العميق مع الآخر الإنسان والآخر الإله، بجناحي نعمة الروح والإرادة. وفي المقابل، إن واجهنا حرّية إرادة الآخر حمايةً الحياة، تعبيرًا عن حبّنا للحياة، لبعضنا البعض ولربّ الحياة، ووضعنا حدودًا ضروريّة لجنوح حرّية الإرادة عن المحبّة نحو محاولة تدمير الحياة، فنحن نظلّ أمينين على خطّ الحبّ وخطّ الحياة، وخطّ حبّ الحياة.
***
في هذه اللحظة من القراءة، لا بدّ أنّ القارئ المدفوع إلى قمع الآخرين وفرض فكره، والباحث عن مبرّر لاهوتيّ لذلك، مرتاح إلى استنتاجاتي، لهذا نتابع، أنّه إن كان هناك ضرورة لوضع حدود لحرّية الإرادة، فالسرّ هو أنّه ينبغي لهذه الحدود أن توضع... بحرّية؛ فلا يضعها شخص أو مجموعة اعتباطيّا وإلاّ تدهورنا إلى خضوع وتسلّط وضربنا الحياة في الآخرين، ولهذا على المجتمع أن يتّفق عليها بحرّية، بعد نقاش مستفيض تتوفّر فيه المعلومات الصحيحة للجميع. طبعا هذا مثال أعلى، ولكن هل يمكننا أن نعمل أيّ شيء بدون مثال أعلى نطمح إليه كي ننهض من الواقع؟ أليست الحياة المسيحيّة هي أصلاً مثال أعلى يسعى إليه الإنسان عبر أخطائه وخطاياه؟ أليس جذر كلّ الفهم المسيحيّ للحياة هو أنّنا مخلوقين على "صورة الله" لنسير نحو تحقيق "مثاله"؟ من غير المقبول اتّخاذ "المثال الأعلى" حجّة لعدم تحقيق "المثال"، فالمثال دعوة للمسير نحوه، وهو موضوع بالضبط لكي لا يغرق الإنسان في أوحال الحاضر ومتطلّباته الملحّة وضروراته، لكي نتذكّر دائما أن نسعى إلى تجاوز الواقع الحاضر نحو الأفضل، لكي نرسم "المدينة الآتية" في واقع "المدينة الحاليّة". فإنّما دُعينا للحرّية فلا نجعل منها ومن "المثال الأعلى" فرصة للخطيئة، برفض السعي إلى الهدف من أساسه. فالمسيح مات، وقام بالحرّية والحبّ ومن أجلهما، أي من أجل الفرح.

لكن لا بدّ هنا من ملاحظة ضروريّة (من اجل المتضامنين على القمع)، إنّ مجتمعات بأكملها قد تكون على خطأ، والتشريعات أيضًا، والسلطات المدنيّة كذلك، والسلطات الدينيّة هي الأخرى (القدّيس مكسيموس وقف وحده مخالفا لجماعات واسعة من رجال الدين)؛ فقد تلتقي إرادات مجموعات كبيرة من الناس على السوء، على تدمير الحياة (هل من الضروريّ التذكير بالعنصريّة المقوننة في مجتمعاتنا؟ أم بنظام التمييز العنصريّ لدولة الاحتلال في فلسطين؟ أم بالفاشيّة؟ أم بالنازيّة؟). والواقع هو أنّ الكثير من التقدّم في البشريّة وحتّى في المعرفة دفع به أشخاصًا ومجموعاتٍ خالفوا بحرّيتهم المجتمعَ الأوسع والسلطاتَ القائمة، السياسيّة والدينيّة وحتّى العلميّة. إذًا، في لحظة تاريخيّة ما، قد تكون مجموعات صغيرة، وأفراد قليلون، هم من يمثّلون الالتزام بالمحبّة والحرّية واحترام الحياة، فيكونون في الحقّ ويكون المجتمع والسلطات في الخطأ، بل وفي الجريمة أحيانًا. لذلك، رغم ضرورة حدّ حرّية الإرادات شرط اتّفاق اجتماعيّ حرّ، إلاّ أنّه يجب أن يكون ذلك في الحدود الدنيا الجدّ ضروريّة (منعا للقتل مثلا) إذ يجب احترام حرّية التفكير والاختلاف إلى أبعد حدّ لكي ما يكون هناك فرصة للتقدّم؛ ويبقى احترام الحياة منارة ضروريّة في الطريق، للتمييز بين الحدود الضروريّة وتلك الاعتباطيّة، ولا شكّ أنّ ذلك ثعب لأنّ الانسان يستسهل تأليه عاداته الاجتماعيّة واعطائها بعدًا مُطلقا ليس من طبيعتها.
​​
أخيراً، كون الإنسان المؤمن يطلب الملكوت لا يخفّف من أهمّية "الأرض"، بل بالعكس هذا الإيمان يعطي الأرض ملء جسدها، ملء أهمّيتها، لأنّه فيها، وفيها فقط، يمكننا أن ننمو نحو الملكوت. نحن أُعطينا هذا العالم، بما فيه، لنحيا فيه، لننطلق من نعمة الحياة التي "نفخها" الله فينا فيه، إلى نعمة التألّه في بيئة الروح فيه، في الساعة الأخيرة التي "هي الآن حاضرة". لا يمكننا التهرّب من هذه المسؤوليّة بأيّ شكل من الأشكال إن أردنا أن نكون أمينين على "الخبر السار" (وهو معنى كلمة "الانجيل") وهو خبرٌ توجّه به يسوع لهذه الأرض بالذات، خبرٌ هو يسوع الذات، مُترجَما بلغة كلّ عصر وكلّ مجتمع.
 
خريستو المرّ

Comments are closed.

    الكاتب

    خريستو المر

    الأرشيف

    December 2023
    November 2023
    October 2023
    September 2023
    August 2023
    July 2023
    June 2023
    May 2023
    April 2023
    March 2023
    February 2023
    January 2023
    December 2022
    November 2022
    October 2022
    September 2022
    August 2022
    July 2022
    June 2022
    May 2022
    April 2022
    March 2022
    February 2022
    January 2022
    December 2021
    November 2021
    October 2021
    September 2021
    August 2021
    July 2021
    June 2021
    May 2021
    April 2021
    March 2021
    February 2021
    January 2021
    December 2020
    November 2020
    October 2020
    September 2020
    August 2020
    July 2020
    June 2020
    May 2020
    April 2020
    March 2020
    February 2020
    January 2020
    December 2019
    November 2019
    October 2019
    September 2019
    August 2019
    July 2019
    June 2019

    Categories

    All

    RSS Feed

 ليس من حبّ أعظم من هذا : أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه: يسوع المسيح
  • كتب
  • محاضرات
  • مقالات في «الأخبار»
  • المقالة الأسبوعيّة
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة