خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ شباط/فبراير ٢٠٢١ فلنبدأ بنكتة: كان لراهبٍ شيخٍ معروفٍ بصرامته وتقواه تلميذًا يفتقر إلى الانضباط، واستمرّ في قلّة انضباطه على الرغم من تحذيرات الشيخ الكثيرة، حتى توفي التلميذُ يومًا ما فجأة. حزن الشيخ بشدّة وحلم ذات ليلة أنه رأى تلميذه مغمورًا في رقبته في بحيرة من النار، فبكى الشيخ وقال "أه، ألم أحذّرك من أنّ هذا سيكون قدرُك؟"، ثمّ تابع "أخشى أنّ كلّ صلاتي من أجلك لم تنفع!". فأجاب التلميذ: "على العكس، يا أبي، لقد أفادتني صلواتك كثيرًا، لأنّي مُنحتُ نعمةَ إبقاء رأسي فوق النيران بالوقوف على أكتاف مطران"! لا أشكّ أنّ هذه الدعابة إن قيلت بين أصدقاء لأثارت عاصفة من الضحك على الأقلّ بسبب عنصر المفاجأة في الخاتمة، وكذلك لأنّ السامع يرى بجلاء حقيقة يعرفها أصلاً ألا وهي التناقض في تصرّفات بعض المطارنة، وما أزال أذكر خطابًا للمطران جورج خضر ذكر فيه أنّ أحد القدّيسين (يوحنا الذهبي الفم إن لم تخنّي الذاكرة) قال ما معناه أنّه يُعجَبُ من أن يدخل مطران ملكوت السماوات؛ ولا شكّ أنّ في الأمر مبالغة مقصودة من قبل القدّيس. طالما الضحك لم يكن استهزاءً بإنسانيّة شخص أو أشخاص محدّدين، فهو جميل، ومن أجمل الدعابات تلك التي يقولها الإنسان عن نفسه، أو عن إحدى هويّاته (مهنة، بلد، دين). مناسبة المقالة اليوم هو نصوص مؤسفة قرأتها مؤخّرا، منها في العربيّة نصّ لكاتب يرى بأنّ الضحك "انحراف في السلوك"، ويؤكّد فيه أنّ المسيح "لم يكن يبتسم. بل لم يكن يضحك... [و]بكل تأكيد هو لم يضحك. ويريد بذلك أن يعلّمنا أن لا نضحك". أنا واثقٌ أنّ وقع نصّ ينصح بعدم الضحك هو تقريبًا لا شيء لأنّ القارئة والقارئ يعلمان تمامًا أنّهما يضحكان طبيعيّا، وقد يضحكان عند قراءة تلك النصيحة بالذات لأنّها منفصلة عن الحقيقة البشريّة، وقد يَحزنان أيضًا على كاتبها. ولم نكن لنكتب مقالة لولا أنّ النصيحة تلك تشكّل مشكلة من الناحية الإيمانيّة المسيحيّة بالذات لأنّها تمسّ بعقيدة الكنيسة القائلة بأنّ المسيح هو كلمة الله المتجسّد وأنّه بالتالي إله تام وإنسانٌ تام. صحيح أنّ الانجيل لم يذكر أنّ المسيح ضحك، ولكنّه لم يذكر أيضًا أنّه لم يضحك؛ والانجيل لم يذكر أشياء كثيرة منها إنْ كان يسوع قد تحدّث مع مريم أو يوسف في المنزل في أيّ موضوع، أو سألهما سؤالاً لا يعرف جوابه، أو إن كان قد تعلّم القراءة والكتابة، إلخ. الانجيل يورد أنّ يسوع كان يقرأ وهذا يعني أنّه قد تعلّم ككلّ إنسان، ولكنّ الإنجيل لم يذكر ذلك لأنّه غير مهمّ. الانجيل لا يصف حياة يسوع بكامل تفاصيلها، بل يكتفي بما هو أساس للوصول إلى هدف إيمانيّ: وصف طبيعة علاقة الله معنا، وما ينبغي لعلاقتنا معه ومع الآخرين أن تكون لنكون فَرِحين مُحَقِّقين إنسانيّتنا. كيف يمكننا أن نتخيّل طفلاً ينشأ دون أن تداعبه أمّه أو أبوه تحت إبطيه فيضحك طويلًا؟ كيف يمكننا أن نتخيّل طفلاً لم يحكِ له مربّوه حكايةً فيها موقف مُضحك أضحكه؟ أيّ بشر هؤلاء الذين لا يسعون لإضحاك أطفالهم؟ ثمّ أيّ إنسانٍ بالغٍ متصالح مع إنسانيّته لا يضحك لنكتة؟ لقد تعبت الكنيسة الأولى كثيرًا لتأكيد إنسانيّة المسيح كاملةً، دون نقصان، وللتشديد على أنّه شاركنا في كلّ شيء، ما خلا الخطيئة لأنّها ليست جزءا من الطبيعة البشريّة وإنّما هي نتيجة عمل الإرادة الشخصيّة، و«كلّ شيء» تعني كلّ شيء وليس كلّ شيء إلاّ الضحك، أو كلّ شيء إلاّ النفس، أو كلّ شيء إلاّ العقل، أو كلّ شيء إلاّ النسيان، إلخ. لا يمكن أن يكون يسوع إنسانًا كاملاً وهو لا يضحك. إنّ الانجيل يشير إلى أنّ أعداء يسوع انتقدوه لأنّه "أكولٌ وشرّيبُ خمرٍ" (متى ١١: ١٩)، مما يشير إلى أن المسيح قد شارك في بعض الأوقات الجميلة والسمر مع الناس حول عشاء أو في عرس (عند زكّا العشّار، في قانا الجليل)، ويمكن بسهولة تخيّل جوّ مرح وبأنّه كان يضحك خلال تلك السهرات. إنّ الاعتقاد بأن يسوع لم يضحك أبدًا أو بأنّه يفتقر إلى روح الدعابة يتعارض مع العقيدة التي تعبت الكنيسة في صياغتها بجهد لاهوتيّ كبير، ألا وهي أنّ يسوع يحمل الطبيعة البشريّة كاملةً، ومنها النفس البشريّة وأوضاعها الطبيعيّة، وما يعتمل فيها من مشاعر، ولذلك لا شكّ أنّه كما بكى لموت صديقه اليعازر، وغضب أمام لصوص الإيمان الذين يستغلّون الناس وقلب طاولاتهم في الهيكل، فإنّه ابتسم استقبالاً للوجوه وفَرِحًا بها، وضحكَ لدعابةٍ ذكيّة، كتلك التي بدأنا فيها هذه المقالة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |