الثلاثاء 30 حزيران/يونيو 2020
خريستو المرّ "ضللنا الطريق فما عسانا فاعلين، الشيطان يجرّنا هنا وهناك ويديرنا إلى كلِّ الجهات" (بوشكين) يحدّثنا مرقس عن إنسان فيه "روحٌ نَجِسٌ"، سأله يسوع "ما اسمُكَ؟". فأجاب "اسمي لجيون لأنّنا كثيرون". و«لجيون» (legion) كلمة تعني فرقة من الجيش الرومانيّ قوامها ستّة آلاف مقاتل. بالطبع، كان الناس، في ذلك الوقت، ينسبون أسباب الأمراض إلى الأرواح الشرّيرة، فبالنسبة لهم الأخرس فيه "روح أصمّ أبكم"، ومريض الصَرَعِ فيه شيطان "يصرعه في الأهلّة"، إلخ... نحن اليوم نرفض، بالطبع، هذه التفسيرات بعدما تقدّمت العلوم الطبّيّة والصحّيّة. في الوقت نفسه، يمكننا القول إنّ الشيطان يستفيد من كلّ أمرٍ لكي تتفاقم مآسي الإنسان فيزدادُ ألمُهُ ويبتعدُ عن الله. إذًا لا ضرورة لنكران وجود الشيطان، ولا ضرورة لمخالفة العلم ونكرانه. ميدان الإيمان وميدان العلوم مختلفان. تتابع رواية مرقس أنّ يسوع شفى ذاك الإنسان وخرجت "الأرواح النجسة" ودخلت في قطيع خنازير في ذاك المكان، فاندفع القطيع من على تلّة إلى البحر، ونفق. "وأمّا رعاة الخنازير فهربوا وأخبروا في المدينة ... فخرجوا ليَرَوْا ما جَرى. وجاءوا إلى يَسوعَ وابتدأوا يطلبون إليه أن يمضيَ من تخومهم". إنسان شُفِيَ. هذا لا يعجب سكّان المنطقة لأنّهم خسروا مادّيًّا. هم يفضّلون أن يبقى أحدهم في المرض محتَمِلًا أوجاعًا كبيرة، على ألّا يخسروا مادّيًّا، وتبقى خنازيرهم في أمان (والخنازير في الذهنيّة الدينيّة لمجتمع يسوع هي رمز نجاسة). عمل يسوع بالنسبة إليهم تخريبيّ، وهذه عادة يسوع: تخرُب دعوته إلى الحياة ترتيبات الناس، والصفقات التي يعقدونها مع الظلمة. أَهْلُ الظُلْمَةِ يُفَضِّلونَ أن يبقى أخ لهم في مرضه على أن يخسروا هم شيئًا. الأشياء أغلى عندهم من حياة الناس. أمّا موقف يسوع فيعكس تأكيده على حقّ الإنسان المُطلَق باستعادة حياته، بأن تتأجّج فيه الحياةُ من جديد، وعلى أنّ كلّ تضحية مادّيَّةٍ جديرةٌ بهذا الهدف. من خلال موقفه هذا، يعلن يسوع أنّ الممتلكات هي لا شيء أمام وجه إنسان يحيا من جديد. لو سألنا اليوم أرض بلادنا ما اسمك، لانتفض جسمها وقالت "جحفلٌ، لأنّنا كثيرون". شياطينُ كثيرةٌ في جسم البلاد، يومًا تسمّي نفسَها نوّاب، ويومًا وزراء، ويومًا رئاساتٍ وسلاطين، ويوما رجال دين. والشياطينُ أعملت قتلًا في البلاد، في لحم بناتها وأبنائها، في آمالهم، في أتعابهم، وفي أطفالهم. طالما رمت الشياطينُ البلادَ في نار الحروبِ، وفي بحيرات الديون، حتّى تقتلها، وطالما صرعتها في وسط النهار، وفي الليلة الظلماء. شياطين السياسيّين والمصرفيّين تكاد تقتل البلاد، ويفضّل المستفيدون أشياءَ الشياطين، وممتلكاتها على نجاة الناس، ولا يريدون للشياطين أن تخرج من جسد البلاد. تنهار الحياة في الناس وحولهم، والشياطين لا تريد أن تخرج، والمستفيدون يفضّلون أن يفنى الشعب على أن يخسروا أموالًا. إنَّهُ الخيار بين حياتنا وممتلكاتهم. "الشيطان يجرّنا هنا وهناك ويديرنا إلى الجهات كلّها"، يريدنا ألّا نرى الطريق، ألّا نتذكّر أنّ يسوع يمكنه أن يطرد الشياطين إن «عملنا معه» بالفعل، إن تجرّأنا على أن نصرخ بالشياطين ونطردها باسمه، وإن بدأنا بطرد شياطين العبوديّة للزعيم (والتي نسمّيها جُبنًا "قناعة"، ما هذه القناعة التي لا تنحرف في أيّة لحظة قيد أنملة عن تلفزيون "الزعيم"!)، وبطرد شيطان الاتّكال الطفوليّ على «الزعيم»، وشيطان اليأس، وشيطان الخوف، وشيطان تأليه أيّ إنسان وبخاصّة السياسيّون والمصرفيّون والأغنياء ورجال الدين، وشيطان المال والسلطة، لنتكّل على الفعل الجماعيّ، وعلى احترام أنفسنا والثقة بها، والثقة بالله وقوّته (بالنسبة لمن كان مؤمنًا). سياسات الحياة يمكن تأسيسها على القاعدة التي قرأناها في تصرّف يسوع: أنّ الممتلكات هي لا شيء أمام وجه إنسان يحيا من جديد. حياة الناس أهمّ من خسارة المستفيدين والشياطين لملايينهم. ضللنا الطريق سنواتٍ طويلةً فما عسانا فاعلين؟ أنفضّل فتات الأموال التي ترميها لنا الشياطين؟ أم نطرد الشياطين من عقولنا وقلوبنا ومن جسد بلادنا لكي نحيا؟ القرار ليس بيد الشياطين، هؤلاء قلّة، القرار كان وسيبقى بيد الناس، ولا بدّ أن يبدأ دائمًا بطرد شياطين كثيرة من العقل والنفس. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |