خريستو المرّ
الثلاثاء ٩ شباط/فبراير ٢٠٢١ (إلى المطران جورج خضر) الحياة مقدّسة والله سيّد الحياة وواهبها. وليس من مفوّضٍ لله على الأرض، لا فردًا ولا جماعةً. إنّ جماعة الله هم المحبّون الذين ولَّوا وجوههم نحو وجهه، لا في مشرق ولا في مغرب وإنّما في وجوه الناس. ونحن نلتمع بالله كلّما شَفَفْنا بالحبّ، بحيث نراه موجوعًا في وجوه الموجوعين والمهمّشين والمضطهدين والفقراء والأبرياء الذين قضوا تحت طلقات وطعنات الظلم من هابيل، إلى يسوع، إلى دم كلّ بريء يُسفَكُ من أجل وهم سمّته كلّ قبيلة «قضيّة» لتحمي مصالح أقويائها. هذا صحيح في كلّ مكان، ولكن في لبنان، ومشرقنا، بَلَوْنا أنفسَنا بالطائفيّة؛ والطائفيّة تساهم في فشل صناعة الدولة وتعبّر عن هذا الفشل. غدت بلادنا جماعات منقسمة خائفة، يستقوي واحدٌ أو أكثر في كلّ منها على الآخرين فيها، بحُكْمِ كونه أكثرهم مالاً أو سلاحًا أو إجرامًا، فيصبح الزعيم المفدّى ويبني لنفسه صنمًا للعبادة، وينصّب نفسه إلهًا لقبيلته. هذا ينطبق على الجميع بلا استثناء. يتصرّف الزعيم-الصنم كأنّما الحياةُ تأتي منه، لمجرّد أنّه يملك سلطة إنهاء الحياة في أيّ إنسان، هو يستنسخ بذلك ألوهيّة مشوّهة ترى القدرة في إماتة الآخر لا في وهبه الحياة. ولا فرق في الواقع بين قادة القبائل المتصارعين، فهم استعبدوا أنفسهم معًا للسلطة وتقاسم المغانم، ورصفوا أصنامهم في هيكل الموت، وشهوته الواحدة عند الجميع. والموت واضح في انغلاق الجماعات على نفسها، فالانغلاق نفيٌ للآخر وقتلٌ معنويّ إلى أن تقتضي مصلحةٌ ما أن يتحوّل القتل المعنويّ إلى جسديّ. ينتشر القتل المعنويّ داخل كلّ جماعة بكمّ الأفواه أمام نقد صنم القائد. وينظر القائد-الإله وكهّان هيكله بارتياب إلى كلّ حياة وحركة متميّزة داخل جماعته، فكلّ تموّج يُنظر إليه كتهديد لاستتباب الامتثال والمطابقة، لاستتباب الصمت الصارخ في صرخات الأتباع، في الوحدة القمعيّة التي لا تحترم اختلافا ولا تمايزًا. إيمانيًّا، حياة كلّ إنسان مقدّسة، ولا يمكن الهروب من الإيمان بأنّ الآخر موجود لأنّ الله خلقه، ومن أنّه يحمل سمات الله في وجهه طالما هو من عياله. كلّ آخر أخٌ داخليٌّ لأنّ وجه الله في كلينا، ولهذا كان قايين قاتل نفسه حينما قتل هابيل. نحن مغادرون الله إن غادرنا بالحقد وجوه إخوتنا وأخواتنا؛ قد نبتعد عن آخر دفعًا لأذاه، أمّا الحقدُ فينفينا عن الله أو ينفي الله عنّا، والله لا ينتفي من أيّ إنسان مهما حاول. لقد كان الحقد قاتل صاحبه، ولو أنّه يدفع صاحبه للقتل. إنّ يسوع المعلّق خارج المدينة أظهر أنّ وجه الله يتجلّى في المسحوقين لا في المتجبّرين. لكنّ الناس يتجبّرون ويقتلون باسم الله، ويتحزّبون تحت رايته، وهو من كلّ قاتلٍ بريء. كثرة استعمال الآيات والكلمات الدينيّة هي لا شيء، ولقد كانت عبارة "الله معنا" مكتوبة على حزام كلّ جنديّ نازيّ. لا شيء يؤكّد أنّنا مع الله إلاّ خدمتنا للحياة، أي للوحدة والتمايز، ولا تكون محبّة إلاّ بهما معًا. قد يريد إنسانٌ الوحدةَ بين البشر بأن يقهرهم ويصنعهم كما هو يشاء، وقد يطعمهم لأجل أن يسكتوا، هذا تشويه لصورة الله في الإنسان، هذا عبوديّة من الطرفين: القامع والساكت. وقد يريد إنسانٌ التمايزَ بحيث ينفصل عن أوجاع الناس وعن جوعهم وعطشهم وهذا موت وجحيم. لا محبّة ولا وحدة حقّة إلاّ بتقاسم الخبز والحرّية، لا الخبز وحده ولا الحرّية وحدها؛ وإن كان لا بدّ فالحرّية أعلى شأنًا من الخبز، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله، والحرّية كلمة إلهيّة مغروسة فينا. كلّ قتيل حزنٌ كبير لأولاد الله، حتّى ولو كان المقتول مجرمًا. قد يرتاح المجتمع من إجرامه ولكن الشفّافون في اختلائهم بالله يصلّون للمجرمين. معظمنا لا يحزن ولا يهتمّ إلاّ إن أصابت الجريمة بريئًا من «جماعته»، إنّ الذين لم يبالوا لمقتل إنسان شاركوا في قتله. ما من قاتل يعلن عن نفسه أنّه كذلك، هو يسوّغ القتلَ بالمبادئ العليا، ما من ديكتاتور إلاّ ويعلن «حبّه» لشعبه ودفاعه عن «الوطن»، ما من صنمٍ طائفيٍّ في لبنان إلاّ ويقول ذلك. الفتنة هي أن يصدّق الإنسان تحايل نفسه وتحايل جماعته على إيمانه، فتكون الفتنة في القلب أشدّ من القتل أو هي له بادئة. الكلمة الفصل في صحّة كلمات الناس هي مدى احترامهم لحرّية وكرامة غيرهم، وسعيهم معهم لتأسيس وحماية نظام يجمع أبناء الله وبناته في وطن، أي في وحدة تحترم التمايز في بيئة الحرّية. كلّ انطواء طائفيّ - شاء أم أبى – هو مساهمةٌ إضافيّة في التقسيم والشرذمة واستمرار الاستغلال والقتل، وسينتهي بفشل المجتمع المتنوّع لا محالة. قد يضطر فردٌ أو تضطر جماعة وطنيّة أن تخوض قتالاً دفاعا عن حياة الناس أمام عدوّ غاشم، وقد تقتل في حرب، يمكن تفهّم هذا وضرورته، ولكن هذا لا يجعل من القتل خيرًا، هو يبقى شرّا ولو كان لا بدّ منه. لا يمكن بناء عقيدة حرب مقدّسة ولا انتصار ننسبه لإله، إذ لا يقتل أبٌ ابنًا لإنقاذ آخر ويحسبُ نفسه منتصرًا. نسب القداسة إلى الحروب محاولة للاستيلاء على الله. الفرق هائل بين أن تقول أنّ القتل في الحرب اضطرار لا بدّ منه، وبين أن تبني عقيدةً تمجّد القتل والحرب أو أن تنسبهما إلى الله. أمّا المنافق فينتقد ذلك في الآخرين ويدمج في نفسه بين عقيدة المحبّة وارتكاب المذابح، أو تمنّيها للآخرين. هذا ما يمكنني أن أقرأه في الإيمان بأنّ الناس إخوة في عائلة الله. لا شكّ أنّ هذا توق، وهو «حلم» كما يقول البعض، وإن كان كذلك فليكن، فملكوت السماوات لا يكون إلاّ بهكذا حلم بلّوريّ، ولا يحيا الإنسان على الأرض دون توقٍ وإلاّ ضاع دون هدف. ولا بدّ للشهادة للإيمان بالكلمة، وبالتماعُ الدم فوق الجبين إن اقتضى اللحاقُ بركب يسوع ذلك، فالشهادة للحقيقة حياةٌ وحقّ، والحياة والحقُّ أغلى من الدم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |