لاهوت العصيان«أُعطوا لقيصر ما لقيصر» يجب أن تفهموا من ذلك [أن تعطوا] الأمور التي لا تتعارض مع خدمتكم لله، لأنّها إن كانت تتعارض معها فإنّها لا تكون عطاء لقيصر وإنّما للشيطان".
يؤكّد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بهذه الكلمات البسيطة مركزيّة وإطلاقيّة سلطة الله في الحياة ونسبيّة أيّة سلطة أخرى، ويحرّر بالتالي ضمير المؤمنة والمؤمن تجاه الآخرين أكانوا يتمثّلون بدولة أو بملك أو بأمير أو بديكتاتور أو بمؤسّسات أو بأيّة بنية إنسانيّة نبتكرها لننظّم بها حياتنا معا. وصايا يسوع والإخلاص له يحرّران الإنسان من سلطة الحاكم أو القائد، وفي الزمن الحديث من سلطة الدولة؛ فكما يقول جان ماري موللر أحد منظّري لاهوت التحرير، يجب "عدم إعطاء قيصر ما هو لله"، فالطاعة المطلقة (أي الالتزام الحرّ للوصايا) مطلوبة فقط تجاه الله؛ وإعطائها لمطلق أيّ إنسان فيه مخالفة صريحة لوصيّة يسوع. وبهذا تحرّرنا العلاقة الصافية مع الله من أيّة سلطة بشريّة - ومنها سلطة الدولة والأحزاب والجماعات المختلفة - إن حاولت أنت تتسلّط على الضمير، وأن تدفع الإنسان أن يعمل بعكس وصايا يسوع، وإن طلبت منه طاعة مطلقة. لقد عبّر يسوع عن ذلك بشكل مباشر وحادّ وصادم بقوله "من يحبّ أبًا وأمًا أو أختًا أو أخاً أكثر منّي فلا يستحقّني"، وبالطبع لا يقصد يسوع ألاّ يحبّ الإنسان كلّ هؤلاء وإنّما ألاّ يأسر الإنسان أيّ أحد أو شيء ويمنعه عن علاقة حرّة مُحْيِيَة بيسوع، وعن ولاء لله-المحبّة. هكذا، فتح يسوع أمام ضمير المؤمن إمكانيّة التحرّر من أيّة روابط «طبيعيّة»، كانت وما تزال حتّى يومنا، تُعطي سُلطة للقبيلة العائليّة، والجماعة الدينيّة، والجماعة الوطنيّة، وكلّ ذات جماعيّة، على حساب ضمير الإنسان، ومسيرته في الحقّ. كلام يسوع يحرّر من سحق المجتمع للفرد ومن سحق الدولة للفرد، وبهذا يرسّخ قيام الإنسان كمُطْلَق تجاه كلّ البُنى الإنسانيّة، ويفسح له المجال الأخلاقيّ وفسحة الضمير اللازمة للوقوف بوجه تلك الروابط والبُنى إن ما حاولت تلك سحقه بفروضٍ لا إنسانيّة. لا طاعة لظلم ولا لظالم. هذا لا يعني انّ يقتل الإنسان الروابط، أو ينغلق على ذاته كفرد، ولكن يعني أن يسعى أن تتجلّى تلك الروابط، كي تتحوّل من روابط موت وانغلاق وتبعيّة عمياء، إلى روابط حرّية ومشاركة وتعاون خلاّق؛ بحيث يولد الإنسان جديدا في يسوع فيسعى لتجلّي المجتمع، كما ويسعى أن يؤسّس بُنى مجتمعٍ جديدٍ تساهم في تجذّره وتجدّده في يسوع، عوض أن تساهم في إضاعة طريقه عن يسوع؛ فيسعى مثلا مع غيره لتأسيس بُنى مجتمع مشاركة وحرّية عوض مجتمع الظلم والعبوديّة. الطاعة المطلقة ليسوع مطلوبة من المؤمنة والمؤمن ولكنّهما ليسا مجبران عليها، إذ يستطيعا رفض يسوع؛ لكنّهما لا يمكنهما أن يخلصا ليسوع وهما يعطيان أولويّة للزعيم والقائد ويغضّان الطرف عن الظلم والقهر. لكن هل طاعة يسوع تقهر الحرّية الإنسانيّة؟ من يترك مجالا لنفسه كي يتأمّل يفهم أنّ وصايا يسوع لا تفرض على الإنسان مجموعة من الشروط الاعتباطيّة الخارجيّة، وإنّما هي إلاّ إشارات إلى الطريق التي تنسجم مع رغبة عمق أعماق الإنسان، رغبته بأن يحقّق إنسانيّته بأن يكون مُحِبّا وحُرّا. يسوع يوصي بان نحبّ ونتحرّر، لهذا قال القديس باسيليوس الكبير بأنّ "الإنسان مخلوق أعطي أمرًا بأن يصير إلهًا" أي أعطي اتّجاها في نفسه يدفعه بأن يكون مُحِبّا حرّا على صورة الله الذي كشف لنا نفسه محبّة حرّة. إذا الطاعة المطلقة ليسوع ليست قهرا بأيّ شكل من الأشكال ولا فرضا لأمور خارجيّة عن الإنسان ورغبته الأصيلة، «الطبيعيّة» بالفعل، بالتواصل الحميم مع الآخر الإنسان والآخر المطلق (الله)، وأن يترجم ويجذّر هذا التواصل من خلال الحبّ والحرّية ممارسَتَيْن في علاقاتنا اليوميّة. ليس لمطلق أيّ بُنية انسانيّة ولا مؤسّسة ولا فكر ولا عقيدة، أن تُعطى أولويّة على الضمير، على محبّة يسوع، على الوقوف إلى جانب الوجوه الموجوعة، على دعوة يسوع بأن لا نعطي لقيصر ما هو لله. الثورة على الظلم هو خطوة إيمانيّة ضروريّة لتركض قلوبنا حافيةً في إثر سيّد المحبّين. خريستو المرّ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |