أنت في صبرا وشاتيلا

أنت في صبرا وشاتيلا
 الثلاثاء ١٧ أيلول/سبتمبر ٢٠١٩​

إلى متى يا ربّ ننهشُ لحمك؟
إلى الانقضاء؟
إلى متى ننهزمُ أعداءً لأنفسنا؟
إلى متى نُشيح القلب عن ضوئك ونقول: لا خلاص ؟
 
أنِرْ أنت سراديب قلوبنا حتّى لا تجوع فينا الحياة أكثر.
فجّر أنت ينابيع الهواء لئلاّ نجتاز الحياةَ كأنّا نيام، ونذهب كأنّا لم نحيا،  غرقى في نوم الموت.
 
 ***
 
كنتَ طفلا غريبًا عندما مرّ ذاك المساء ليتأمّل وجهك الطالع من أمّك ومن الضوء، ويلمح فيه بدء الصباح الناهض كالوعد.
 
وحين علّقوك ملكًا بهيًّا بهيئة صعلوكٍ، أميرًا للحقّ، وفضيحةً للأعذار والتبريرات، أيقن المساء أنّك هو هو، أنّ الصباح اكتمل في هزيمة الوهم.
 
هناك جسمك قال كلمة أخيرة:
"أنا والأبرياء والغرباء والصعاليك واحد،
من أحبّني حفظ وجهي مُكلّلاً بالشوك، ووقف جانبي،
وأحبّه أبي، وأتينا لنقيم في وجهه منزلنا، ذي المنازل الكثيرة."
 
***
 
لكن نحن لم نرِد أن نقرأ كلمتك هذه كي لا نحيا ويطول أمامنا طريق الحبّ والتعب.
فضّلنا التراب القريب، ولم نرى الحبّ باب تجلّي التراب.
ولكن، في خيبة العطش الطويل، وفي قلب السراب الكثير، يختبئ العطش الواحد إلى ضوئك.
وفي قلب الجحيم تبقى قريبًا، فأنت الأقرب منّا إلينا، مذ صرت حبّا كلّك وذُقت مُرَّ الترْكِ، ليزهر اللوز فوق أشلاء شجرة وقفت تبكي وحدها خارج المدينة.
 
في بلادنا، كان وكان، فتيات وفتيان وأمّهات وأمّهات وجدّات، وقفوا مثلك معلّقين على زمنٍ، معلّقٍ على غربةٍ، معلّقةٍ على جريمةٍ، معلّقةٍ على جريمةٍ.
جاء مجوس الليل، فتّشوا عليك ووجدوك وقالوا أنت العدوّ: لم يروك واحدا مع الأبرياء.
قدّموا هدايا الليل.
قدّموا باسمك مجازرَ بحقّك، بحقّهم، بحقّ وجهك في وجوه أخوتك الصغار
ورحلوا.
كانوا جنون الرغبة الضائعة، رغبتنا بأن نكون آلهة معاكسين لك.
فأنت تعطي الحياة، ونحن نقتلها متوهّمين أنّنا نصير بذلك مثل الآلهة: عارفين الخير والشرّ. لكنّك لا تعرف فيك إلاّ الخير، ولا تعرف الشرّ إلاّ غيابًا عنك،
لكنّا بقتل الحياة نخفي خوفنا من الحياة ومن الموت.
وبقتل الحياة نصبح صورة مشوّهة عن صنم نظنّه إله. 
واليوم، ما نزال نحن، نحن من تسمّوا باسمك، عميان يقودون عميان.
 
في كلّ قتل قايين، وقايين تكاثر أكثر ما تكاثر في صبرا وشاتيلا، تكاثر قاتلاً وحاميًا، مخطّطًا ومشجّعًا،  متشفّيًا وصامتًا
ولم يعد من خارج ومن داخل فأنت في الضحايا واحد وهم فيك واحد، خارج تصنيفات الأوهام المريضة.
وقايين تكاثر باسمك وأنت بريء من قايين، فقد رسمت بدمك وهج هابيل فوق الصليب.
وفي كلّ مجزرة كان قايين يتكاثر وأنت تتوهّج.
وكنّا نحن نشهد قليلا إذا احتضنّا فتيلا مدخّنا أو غصنا مكسورا.
 
لا شفاء إلاّ بالحقّ والحبّ، وأنت الحقّ وأنت الحبّ، والحقّ يحرّر من الأوهام الكثيرة.
وأنت أنت، ما تزال فضيحة جرائمنا وفضيحة ثقيلِ الحجرِ في قلوبنا.
ما يزال جسمك فوق الصليب فضيحة من تسمّوا باسمك وتعشّوا معك وخانوك، وفضيحة كلّ التبريرات.
 
 ***
 
وعندما تأتي في السحابِ يا الجمال في الجمال والضوء في الضوء والحبّ في الحبّ.
عندما تأتي لتعطي حبّك ملكوتًا كاملاً ويفرحُ كلّ محبّ،
ويراك الَّذِينَ طَعَنُوك في جسمك وفي جسم الضعفاء،
وعندما نسمع صوتَ المياه الكثيرة في صوتك
وتستضيءُ الشمس من وجهك،
عندما نراك البداية والنهاية،
والبدء بعد البدء بعد البدء،
عندما نعرفك الحبّ على باب القلب وفيه وحوله،
عندما يُطْرحُ أمامك كلّ إكليلٍ وشبه مجد،
 أقم يا حبيبُ على يمينك كلّ خائف وضائع وذبيح
 
إلى متى يا ربّ ننهش لحمك؟
إلى متى ننهش لحمنا؟
إلى الانقضاء؟
أنت أفْشِلْ مخطّطات مَن خانوك، ومكرَ ضلالهم وجوعهم، بجنون حبّك الكامل فوق الصليب
عرّفنا وجهك فوجهك حقّ
 
خريستو المرّ