الكنيسة والوحش: حرّية الضميرهناك من يتحسّر على عدم قدرة الكنيسة أن تتدخّل في الدولة، بحيث أنّ أوضاعًا تُشَرَّعُّ في المجتمع، خاصّة في بلاد أوروبا وشمال أميركا، ولا يمكن للكنيسة أن تضغط على الدولة لمنعها (حرّية التعبير في عرض مسرحيّ أو فيلم، تشريع الحشيش، الإجهاض، إلخ). لا يفهم أنّ ما يطلبونه هو تسلّط لا مسيحيّة.
لا يوجد سبب لأن تعارض الكنيسة قوانين ... تسمح... للناس بالتصرّف بطريقة مخافة للوصايا الإنجيليّة، إذ يمكنها أن تدعو المؤمنات والمؤمنين ألاّ يتصرّفوا بحسب تلك القوانين، وتتركهم لحرّيتهم. هذا موقف يحترم الناس جميعا. في المقابل، يمكن للكنيسة، بل من واجبها، أن تعارض مطلق أيّة قوانين ...تفرض... على الجميع (ومنهم المسيحيّات والمسيحيّين) أوضاعا متعارضة مع الإنجيل كالتمييز ضدّ النساء، أو العنصريّة، أو التعذيب، أو التمييز ضدّ المسيحيّين أو ضدّ المسلمين أو ضدّ اليهود أو ضدّ الملحدين، إلخ.؛ إذ من واجبها عندها أن تعمل مع الجميع، وخاصّة ضحايا تلك القوانين، كما ومع كلّ الأطراف الشريفة في المجتمع، على إزالة تلك القوانين، وأن تقوم بتشجيع المسيحيّات والمسيحيّين على أن يكونوا أحرارًا تجاه الدولة، وقوانينها الجائرة، وأن تحثّهم على النضال من أجل العدالة، حتّى ولو وصلوا في لحظة ما، في ظلّ حكم متعسّف متوحّش أصمّ، إلى العصيان المدني. قد يتفاجأ القارئ أنْ كيف يمكن دعوة مؤمنين (أو مطلق أيّ إنسان) إلى مخالفة القوانين؟ هذا السؤال هو بالضبط ما يُظهر مدى غربة المسيحيّات والمسيحيّين عن مسيحهم، فهدف الكنيسة لا أن تعلّم الناس أن يطيعوا القانون بل أن يَحكِموا على كلّ شيء ومنها القوانين من زاوية إيمانهم، أي بضميرهم الكنسيّ إن صحّ التعبير، بحيث لا يخضعوا سوى لضميرهم، ليسوع في ضميرهم، "لأنّه من الأفضل إطاعة الله من إطاعة الناس" (أعمال 5: 29). من الطبيعي أمام هكذا فكر إنجيلي أن يغضب أكثر من قارئ، كما غضب السنهدرين (مجمع رجال الدين في الطائفة اليهوديّة) من بطرس والرسل عندما قالوا "الأفضل إطاعة الله من إطاعة الناس"؛ وغضبُ السنهدرين وصل إلى حدّ رغبتهم بقتل الرُسُل لأنّهم أظهروا حرّية ضمير هائلة مُحَرِّرة تجاه السلطة الدينيّة وإرادتها "فلمّا سَمِعُوا حَنِقوا، وجعلوا يتشاورون أن يقتلوهم" (أعمال 5: 33) وذلك بالضبط لأنّ حرّية الرسل أمام السلطة الدينيّة زعزعت أسس السلطة العمياء، السنهدرين واجه أناسًا أحرار أمام سلطة تريد قمع حرّية الضمير، أناسًا يحكمون على السلطة وقوانينها باسم الحرّية التي اكتسبوها في يسوع. السلطة والقوانين ليست أعلى من الضمير، سلطة تريد بالقانون الجائر نهب شعب وإخضاعه لا تُطاع، بل تُعصى. بالإيمان بيسوع تحكم المؤمنة والمؤمن على أيّة سلطة تفرض على الناس أوضاعا جائرة حتّى ولو كان يفرضها بقوّة القانون (العفو العام قانون ولكنّه جائر، الأرباح الصاروخيّة المدفوعة للبنوك قانونيّة ولكنّها جائرة، الطائفيّة قانونيّة ولكنّها جائرة لأنّها تولّد تمزّق المجتمع وتحمي النهب المشترك، اهمال الحكومات خلق فرص عمل قانونيّ ولكنّه جائر لأنّه يهجّر الناس من أرضها، إلخ.). الكنيسة الرسميّة طالما تعاملت مع وحش السلطة كما هو، وتطبّعت بطبائعه، وسوّغت له وحشيّته؛ مؤخّرا في لبنان دافعت الكنائس جميعا عن وحش المال والسلطة والطائفيّة في بيان مشترك في بكركي. الكنيسة الرسميّة سقطت مرارا وتكرارا، وأضحت اليوم تحيا متحجّرة خارج التاريخ، وللروح أن يتفجّر فيها حيويّةً ساعة تتوب. أمّا المؤمنات والمؤمنون الأحرار فيحرصون على إعلاء سلطة يسوع المحرِّر على أيّة سلطة أخرى، يرفضون ما استطاعوا أن تعمّد الكنيسةُ الوحشَ، أن تصمتَ أمام وحشيّته؛ لسان حالهم يقول أنّ الأفضل إطاعة الله من إطاعة الناس، وهم بذلك يجسّدون جسد المسيح السرّي، الممتدّ في الكنيسة المنظورة وغير المنظورة، في جماعة الأحرار الذين يحبّون حتّى أعمق الحياة، شاهدين للحياة وربّ الحياة، حتّى الشهادة. خريستو المرّ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |