خريستو المرّ
الثلاثاء ١٢ تمّوز / يوليو ٢٠٢٢ هناك وهم قائم في ذهن الكثير من اللبنانيّين مفاده أنّ دولة العدوّ الصهيونيّ المحتلّ الغاصب، الذي يقتل يوميًّا الفلسطينيّين بلا سبب، ويسجنهم دون رادع ودون محاكمات، كانت تضرب قرانا ومواطنينا فقط بعد اتّفاق القاهرة، الذي سمح بالعمل الفدائيّ أن ينطلق من لبنان. هذا الوهم موجود لأنّ الدولة بنظامها التربويّ والسياسيّ والخادم للمتموّلين فقط، عملت جهدها كي تخفي أخبار المجازر التي قام بها جيش الاحتلال الصهيونيّ في لبنان. وعملت جهدها أن تخفي من النظام المدرسيّ أنّ قرية حولا، مثلًا، دمّرها جيش الاحتلال وسوّاها بالأرض وقتل ٩٤ شخصا من أهلها عما ١٩٤٨. ماذا تشعر الآن أمام هذا الواقع؟ إن كان عقلك كعقل الأكثريّة مغسولًا بطريقتين: الطائفيّة والدعاية الرجعيّة اليمينيّة اللبنانيّة، فسيمنع عنك أن تشعر بتعاطف عميق وصادق مع بشر قُتِلوا إن لم يكونوا من طائفتك، وبسبب ثقافته الرجعيّة الفاشيّة لن يجد ما يقوله سوى أنّه لو لم يخض لبنان الحرب لما فعلت عصابات الاحتلال ما فعلت في حولا. إنّ عقل كهذا، مستعدّ أن يبرّر مجزرة بحجّة «الحرب»، مع أنّ ارتكاب المجازر يُعاقَب عليه حتّى في الحروب. إنّ هكذا عقل قد يعبّ اليوم من خيرة المفكّرين الأوروبيّين المعاصرين، ويُطالِب بتطبيق كلّ القوانين المحلّية والدوليّة بحق مَن كان مسؤولًا انفجار مرفأ بيروت، ومَن ارتكب ويرتكب المجازر في سوريا، ويفرح بمحاكمة جزّاري النظام السوريّ في أوروبا، ولكنّه يُخفّف تلقائيّا من هول مجزرة حولا التي كان يجهلها لأنّ بلاده ربّته جاهلًا لتاريخه، وطائفته ربّته ألّا يلتفت بحماس إلّا لشؤون قبيلته، وأن يصمت ويحترم كراسي السلطة، ويطيع البطاركة والمطارنة والشيوخ المتربّعين مَنْ عليها. إن تابعنا التاريخ غير الوهميّ، وهو غير ذاك الذي تريده الدولة الخادمة لمصالح المتموّلين وزملائهم من رجال الدين، نعلم أنّ العدوّ قام ب ١٤٠ اعتداء ضد لبنان بين عامَي ١٩٤٩ و١٩٦٤ قبل وجود منظّمات فلسطينيّة ومقاومة من أيّ نوع. وفي ٢٤ تمّوز ١٩٥٠ طاردت طائرة مقاتلة إسرائيليّة طائرة مدنيّة لبنانيّة تطير فوق الأجواء اللبنانيّة آتية من القدس الشرقيّة، وعلى متنها ركّاب من مختلف الجنسيّات، ثمّ أطلقت عليها النار لتقتل فيها ركّاب وأعضاء من الطاقم، وتتناثرَ أشلاء القتلى والجرحى داخلها (وقع قتيلين و٧ جرحى، من الجرحى طفلةٌ اضطرّ الأطبّاء إلى بتر ساقها). ماذا كان موقف "المجتمع الدولي" في لجنة الهدنة؟ "أن يعتذر الفريقان من بعضهما البعض"! هذا هو المجتمع الدولي الذي يريد أن يلجأ إليه لبنانيّون لتحقيق السيادة (ومنها على النفط والغاز)، والعدالة، والسلام. (الشكر للزميل أسعد أبو خليل على أضاءته على تلك الأرقام والأحداث). لن نتابع احتلال بيروت، مخيّمات الاعتقالات والتعذيب مجازر صبرا وشاتيلا، تدمير البنى التحتية، والخرق اليوميّ للسيادة من الطائرات الحربيّة. إن تكن القذائف لم تنزل على رأسي شخصيّا، فذاك لا يعني أنّها لم تنزل على رؤوس مواطنيّ، وأهلي لم يموتوا تحت ركام منازلهم ومبانيهم فلا يعني ذلك أنّ آلف الأهالي لم يُقتَلوا، وأنّ سيادة بلادي لا تنتهك يوميًّا، تلك السيادة التي ينساها مدّعو السيادة عندما ينتهكها مَنْ يخدمون مصالح إسرائيل. وبينما هذا هو تاريخنا غير الوهميّ مع ذاك العدوّ، يتكلّم البعض على خُطى بطريرك رياض سلامة وسائر المصارف، عن الحياد؛ ويتكلّمون في الوقت نفسه عن السيادة. لا توجد دولة في العالم تقف من انتهاك سيادتها وقتل مواطنيها موقف الحياد، لا توجد دولة محايدة تجاه ذاتها! هكذا دولة لا تستمرّ كدولة. فكرة الحياد بحدّ ذاتها نابعة من ضمير لا يرى ولا يريد أن يرى طبيعة نظام الاحتلال والعنصريّة القائم في فلسطين المحتلّة، ولا يريد أن يرى التاريخ الذي نذكّر به هنا. لا شكّ أنّ في ذهن القارئ تشرئبّ كلمة الواقعيّة بين عجيج الكلمات، والشتائم ربّما. ولهذا لا بدّ من كلمة مسهبة عن الواقعيّة. الحقيقة، ولهذا أكتب هذه الفقرة الأسبوعيّة، أنا لست واقعيًّا. أنا ربّتني حركةٌ شبابيّة في كنسيةٍ أرثوذكسيّةٍ أساس إيمانها هو اللاواقعيّة: إلهٌ أحبّ الإنسان في واقعه المأساويّ وبكلّ لاواقعيّة صار إنسانًا اسمه يسوع مشاركًا إيانا واقعنا المأساويّ. هذا الإنسان، يسوع، واجه بمنتهى اللاواقعيّة أعتى سلطة دينيّة في مجتمعه، وفضح نظامها القائم على احتقار الناس واستغلالهم (الوقت ضيّق لذكر الأحداث الآن)، فاتّهمته عائلته نفسها بالجنون، ولفظته السلطة التي تمتلك كلّ وسائل القمع الفكريّ والعسكريّ، وقتلته ككلّ لاواقعيّ خارج أسوار المدينة الظالمة. لكنّ اثني عشر رجلٍ لاواقعيٍّ ومجموعةٍ من النساء اللاواقعيّات (لا نعرف العدد بالتحديد) تبعوه. هؤلاء لم يكونوا ليوحوا إلّا بالفشل والجنون، ولم يكونوا ليثيروا سوى السخرية، لم يكونوا عالمين بأثر ما سيفعلونه، ولكن كان ملحّا عندهم، وبكلّ لاواقعيّة، أن يشهدوا لما رأوه من حقّ، ولو قال أحدهم وقتها أنّ بضعة رجال ونساء سيقلبون ثقافة الامبراطوريّة الرومانيّة ويتركون تراثًا ما يزال يفخّخ كلّ سلطة دينيّة وسياسيّة لقالوا عنه مجنون أو لاواقعيّ. لكنّ تلك اللاواقعيّة غيّرت واقع هذا العالم إلى الأبد، والصراع اليوم، في قلب الكنيسة وفي قلب العالم، ما يزال مستمرًّا بين تلك النفحة اللاواقعيّة الشاهدة للحقّ ولضرورة رفع الظلم عن الإنسان، وبين تجربة الحياد والواقعيّة. أنا أنتمي لذلك التيّار اللاواقعيّ، وأدين بكلّ وضوح كلّ واقعيّي العرب، من المحيط إلى الخليج. وبالنسبة للمسيحيّين أقول بأنّ الكنيسة هي كنيسة اللاواقعيّين أساسًا، مَن كان واقعيّا جعل نفسه خارج الكنيسة، لأنّه لم يعد يؤمن بشيء ممّا علّمه ذاك المصلوب المعلّق على خشبة والذي سمّته وتسمّيه الكنيسة بكلّ لاواقعيّة: الغالِب! الحقّ في فلسطين سيكون الغالب، من أجل ذلك يعمل اللاواقعيّون دون انتظار. من الإيمان الذي ربيت عليه أنّ انتظار الملكوت لا يكون بالتمنّي والفتور وإنّما هو انتظارٌ فاعلٌ، انتظارٌ عاملٌ على إعداد هذه الأرض لتصير حاضرة لاستقبال الحبيب يوم يأتي. كما يعدّ أيّ حبيب بيتَه لحبيبته بانتظار الزيارة، نحن أيضًا بعملنا من أجل كلّ عدالة وحقّ وحبّ وحرّية، نعدّ هذه الأرض كي تصبح يومًا مستعدّة لاستقبال ملك الحبّ والحّرية والحقّ، فيبدأ الاحتفال. في زمن واقعيّة الانبطاح أمام القوّة الظالمة، أتمسّك برؤيتي اللاواقعيّة التي وجدتها ووجدتني في عيني المعلّق على خشبة، وأدعو مَن يشاء أن يتمسّك بها، ففي عيني سيّد المحبّة الخلّاقة اللاواقعيّة الطريقُ والحقّ والحياة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |