ملامح من الخوف والمحبّة
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢١ أيلول / سبتمبر ٢٠٢١ التفكير المتعاطف حول أمر المحبّة والخوف ليس بسيطًا ويحتاج لأكثر من مقالة، فالخبرة الإنسانيّة معقّدة، والمخاوف متعدّدة والمحبّة أمر ملتبس. الخوف على الذات من المرض والموت أمرٌ مرتبط بغريزة الحياة. كلّنا متعلّقون بالحياة، هكذا هي نفوسنا وأجسادنا، ولهذا علّينا من شأن الذين يبذلون حياتهم من أجل آخرٍ أو آخرينَ أو إيمانٍ، فهؤلاء يُقدِمون على القفز فوق حاجز الخوفِ من الموت لكي يحيا آخرون، أو تحيا فكرةٌ ويبقوا هم أحرارًا مخلصين لما آمنوا به. لكنّ للمؤمنين أن يقرأوا في غريزة الحياة هذه حكايةً إلهيّة. فإن كان اللهُ قد خلق الكون بـ«كلمته» فإنّ في المخلوقات بصمات الكلمة الإلهيّة، والمخلوقات مشدودة بكيانها إلى الله الخالق الذي منه أخذت وجودها؛ هي تتوق إلى الله-الحياة توقًا يتجلّى بإرادتها للحياة، توقًا يعكس ذاته في مرآة خوفنا من الموت والتلاشي في العدم. هكذا قراءة إيمانيّة في غريزة الحياة وخوفنا من الموت تعني أنّه ما من ضرورة أن نخجل من خوفنا من الموت، فهذا الخوف ليس دليل نقص في الإيمان، بل يمكنه أن يكون دليلَ إيمانٍ بأنّنا مخلوقات مشدودة إلى خالقها الحيّ وحده. لكنّ هناك أنواع أخرى من الخوف تشبه الخوف من الموت، كالخوف من العزلة، فالعزلة شيءٌ من موت، ولو أنّ العزلة الكاملة غير ممكنة فإنّنا نخشاها. ويرتبط الخوف من العزلة بالخوف من تراجع محبّة صديق أو محبوب، فنحن نحيا بالمحبّة وبالحبّ، ورغم الاختلاف الشاسع نوعيًّا بينهما فالخبرتان واحدتان وجوديًّا في أعماقنا. نحن نبدأ وجودنا ونستمرّ بمقدار ما نُحَبّ (بفتح الحاء)، من ذاك الحبّ الذي نتلقّاه - من أهل أو من ينوب عنهم - ننمو وتتفتّح قدرتنا على أن نُحِبّ (بكسر الحاء)، تلك القدرة التي خلقها فينا الله فكنّا على صورته. خوفنا من انقطاع الحبّ هو خوفنا من الموت الوجوديّ. ألّا يكون أحد يحبّنا أمر لا يُحتمل، ولو أنّه من المستحيل أن ينقطع العالم كلّه عن محبّة إنسان إلّا أنّ خوفنا من أن يحدث ذلك في محيطنا المباشر مع أناس نحبّهم قد يدفعنا إلى علاقات عبوديّة، فنكسر حرّيتنا كي لا يتركونا وندفن أنفسنا كي لا نخسر محبّتهم. لكنّ المشكلة هو أنّه بدفننا أنفسنا وتقييدها، نخسر إمكانيّة أن يحبّونا وأن نحبّهم لأنّ لا محبّة دون احترام للحرّية، حرّية الآخرين وحرّية الذات. الخوف من الموت الوجوديّ مشروعٌ، وهو دليلٌ على أنّنا لا نكون حقًّا إلّا بالمحبّة، لكنّ الخطوات التي نأخذها لمواجهة هذا الخوف ليست كلّها مناسبة كي نحيا حقّا. إن دَفَعَنا خوفنا إلى المساومة على حرّيتنا، وقدراتنا، فأسرنا أنفسنا وكبحنا قدراتنا، وقعنا من حيث لا ندري بما كنّا نخشى منه: غياب المحبّة، والأفدح غربتنا عن أنفسنا. إن كان الانقطاع -إن كان لا يمكن تجنّبه - عن إنسان آخر مؤلمٌ، إلّا أنّه لا يغّربنا عن أنفسنا، بل قد يحرّرنا من علاقة لا محبّة متبادلة فيها، فيفتح الباب أمام انتعاشنا ونموّ حرّيتنا وقدراتنا، وأمام عيش محبّة أصيلة. إنّ الخوف من الموت المعنويّ بسبب العزلة والانقطاع، لا ينبغي أن يحرجنا في شيء، ما ينبغي أن يحرجنا ونهتمّ له هو طريقة تصرّفنا تجاهه: هل نبقى أنفسنا الأصيلة المخلوقة مشدودةً إلى الحياة والحرّية، مشدودة إلى الخالق؟ أم نغرق في رمال علاقات الخوف؟ هل ننمو إلى ملئنا، إلى ملء قدراتنا الشخصيّة وملء حرّيتنا؟ أم نأسر أنفسنا بالخوف من الموت في دوّامة من الخضوع-القلق؟ هل نبقى مخلصين لتوقنا كي نعيش المحبّة والحياة والفرح والنموّ فنقفز فوق الخوف من الموت كي نكون أحياء عندنا ربّنا، فنُرزق طعم ملكوت المحبّة هنا على هذه الأرض؟ أم نأسر أنفسنا بالخوف من الموت، والخوف من مواجهة الخوف فنخسر المحبّة ونتغرّب عن أنفسنا؟ من زاوية هذه الإشكاليّة، من زاوية هذا التحدّي الحقيقيّ اليوميّ في علاقاتنا مع الأهل والأصدقاء والمحبوبين والقيادات السياسيّة والدينيّة والمجموعات المختلفة التي ننتمي إليها، نعم، «المحبّة تطرد الخوف خارجًا» كما كتب يوحنّا الإنجيليّ يوما، أي أنّه إن أحببنا أنفسنا، والآخرين، والله، لا نرضى أن نكون في تزوير الوجود، محرومين من المحبّة المتبادلة، بل نطلب المحبّة حتّى الشهادة، ولهذا بشجاعة نقبل انقطاعات لا بدّ منها لكي ننمو في الوجود، ونتابع الرحيل المضيء نحو بداياتنا التي لا تنتهي. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |