الثلاثاء ١٩ أيّار ٢٠٢٠
خريستو المرّ تزيدك الهجرة تحسّسا للأوجاع، وإن كنت ممّن لا يستطيعون إغلاق قلوبهم عن الحياة ويرون وجهَ الإنسان وجهَ الله، تحمل معك أوجاع وطنك الذي تركته ولم يتركك، أو تركك ولم تتركه، ووجع أرضك الأخرى. المشكلة أنّه بينما أنت تستطيع أن تكون فاعلا في الأرض التي أنت فيها اليوم - وهو ما يعزّيك قليلاً - يبقى وجع الأرض الأولى بلا عزاء، وقد تختار لكثرة الأوجاع أن تغلق عينيك لساعات حتّى تتابع حياتك ومسؤوليّاتك. والعين تُغلَق ولكن كيف يُغلق القلب؟ بلاد بأكملها ذهبت إلى الذبح بإرادتها بعد الحرب الأهليّة، ذهبت إلى مجزرة اقتصاديّة حذّرت منها قلّة لم يسمعها أحد. لم تعِ البلاد المجزرة إلاّ في نهايتها. واليوم يخرج دون كيشوتات السلطة المتفكّكة، وكهّانها، ليعظوا باستقلاليّتهم، وبندّيتهم لصندوق النقد الدولي. بلاد بأكملها تصمت وهي تضع رقبتها تحت سكّين صندوق النقد، ويهلّل السياسيّون في كرنفال المذبحة ويقولون أنّهم بلاد مستقلّة، سيّدة، وحتّى مقاوِمة، ويضعون "لبنان أوّلاً". سلطة بأكملها تهلّل وهي تضع رقبة شعبها تحت سكّين صندوق النقد، دون أيّة خطّة، لا لتفاوض ولا لمستقبل. يجلس وكلاء مرتكبي الجريمة، الحاضرين في الحكومة والغائبين عنها، ليفاوضوا على استمرار حكمهم، وليوهموا الضحايا بأنّهم صوتهم، ولذلك يعلّون الصوت ضدّ المرتكبين المجهولين دائما! يمكن أن تُبنى سلطةٌ على الأوهام، لكن لا يمكن أن تُبنى أوطان على الأوهام. ولكلمة يسوع "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" معنى حيويًّا حتّى في بناء الأوطان. لا تُبنى الأوطان على القمع، ولا على التهديد، ولا على الدفاع عن الجريمة، وما حدث في لبنان منذ ما بعد الحرب وحتّى اليوم هو جريمة موصوفة. الجريمة الاقتصاديّة فادحة وواسعة، هي تطال الملايين من البشر، تطال حياتهم الآن، وستطال حياتهم مستقبلاً. والجريمة يحميها اليوم كلّ أركانها. وماذا ينفع إنسان لو ربح الدفاع عن شعبه ضدّ أعداء يريدونه مقهورا، إن قهر شعبه أو سكت عن قهره، أو خسره في هاوية الفقر؟ وفي عزّ تجارة الوهم الكبير، يسطع بريق تحالف رجال الدين والسلطة للدفاع عن مهندسي الجريمة وروّادها، يشدّون الوتر الطائفيّ راسمين خطوطا حمرا، ومطالبين بعدم استفرادهم، ومدافعين عن "عزّة" طائفة، والعزّة وهميّة فالتوزيع الطائفيّ عمليّة نهب منظّمة نتائجها هي هذه المذبحة الاقتصاديّة بالذات. لكنّ المسؤولين الكنسيّين هم الأسوأ في تدخّلاتهم السياسيّة، لأنّهم يتاجرون بالوهم الكبير وينسون أنّهم وكلاء ذاك الذي هو الحقّ. لكنّ تجارة الوهم التي يشترك فيها الجميع ستُبادُ كالدخان يوما، وكالشمع ستذوب الطائفيّات أمام الحقيقة، وتخرج العقول والقلوب للشمس. لكنّ اليوم، اليوم الفقراء يُدهَسون تحت عجلات الجريمة. هل ينتفض المقهورون من سلاسل جلاّديهم ليقولوا كلمتهم؟ تتأخّر انتفاضة المقهورين ولكنّها لا يمكن ألاّ تحدث. من الظواهر الأكثر إثارة للعجب في التاريخ هي أنّ الناس ثاروا ضدّ الجريمة طلبًا للخبز والحرّية، حتّى في ظلّ الظروف الأقلّ ملائمة. لم يَخلق اللهُ الناسَ للعبوديّة، وإن استُعبِدوا لا يمكنهم أن يسكتوا إلى الأبد، فأحشاءهم تحتجّ حتّى يتحرّروا. هذه الأحشاء المجبولة بالحرّية والحبّ تسمّيها المسيحيّة صورة الله. لا يخدعنا سكوت الضحايا في أيّ بلد، فالسكوت محاولةُ تأقلمٍ ليبقى الضوء الذي في داخلنا يتوهّج. ستستقيم المقاييس يوما، ونعرف أنّ الانتصار الأخير لن يكون للظلمة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |