الثلاثاء ٩ حزيران/يونيو ٢٠٢٠
خريستو المرّ ليس من شخص مكروه أكثرَ ممّن يضع الحقائق في العراء. لم يُقتل يسوعُ المسيح صدفةً. مشكلة السلطة مع يسوع كانت أنّه عرّاها وأظهرها على حقيقتها، وأنّه حطّم صنم الذات الجماعيّة التي تتأمّل فيها الجماعات ذاتها «ببراءة»، وحطّم الأصنام الشخصيّة التي يغطّي بها ذوو السلطة قباحاتهم. لهذا، كان القتل مصير يسوع. هؤلاء الذين اعتادوا اليوم أن يحبّوا يسوع لأنّهم اعتادوا منذ طفولتهم على أن يحبّوه، قد يصرخون «اصْلِبْهُ اصْلِبْهُ» لو جاء اليوم وعرّى الحقائق في مجتمعاتهم وكنائسهم؛ حقائق بيتٍ بأصنام كثيرة. ولنعطِ أمثلة عن أصنامنا: المعبود السياسيّ للكثيرين هو مجرم ولصّ (صنم الشخص). التعامل العنصريّ مع الآخرين: ذوو بشرة داكنة، أناس من وطن آخر (صنم الجماعة). التشبّث بالطائفيّة إلى أن يتخلّى الآخرون عنها (صنم الدين). العنف ضدّ المرأة (صنم الذكورة). الخوف من الحرّية (صنم السلطة). رفض المناولة بِغَيْرِ الملعقة (صنم العادة). المطالبة بـ«حقوق الطائفة»؟ (صنم الطائفة). الصمت عن التحرّشُ والاعتداءات الجنسيّة في الكنيسة حماية لصيتها (صنم الجماعة). هناك انزعاج وحرج عام عند ذكر المشاكل، ومحاولة إخراس لكلّ نقد بالقول بأنّ إثارة كلّ هذه الأمور من شخص هو تفرّد متكبّر، وأنّ مقاربة الأوضاع في الكنيسة الأرثوذكسيّة تتمّ بكثير من الرويّة، بعيدًا عن الإعلام، تعبيرًا عن «حكمة» راكمتها الكنيسة خلال قرون. لكنّ الناس لا يعيشون لقرون. فالمظلومون ليس لديهم قرونٌ ليحيوها حتّى يُرفَعَ الظلم عنهم أو تصطلح الأوضاع حولهم. مشاكل الناس قائمةٌ الآن. فلنأخذ مثلاً مزعجًا ملموساً يحاول معظم الناس نسيانه «والوقحون» أمثالي لا ينفكّون يذكّرون به، عندما واجهت الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة تحدّي الاعتداء الجنسيّ، أبدى المسؤولون فيها جهلاً كارثيّا ومقاربات للأوضاع تعود للقرون الوسطى (قروسطويّة)، كما وأبدت جماعات في الكنيسة مقاربات هذيانيّة للواقع. اليوم المسؤولون الرسميّون بكلّ «حكمة» لا يخطّطون لبناء مستقبل نتلافى فيه هكذا أوضاع. وهاكم مثلاً آخر، في ظلّ الفقر ما من صوت رسميّ جدّي يدعو لتحقيق العدالة الاجتماعيّة بل هناك اكتفاء بتوزيع مساعدات (حيثما أمكن)، وفي المقابل هناك مطالبة رسميّة شرسة بوظائف لبضعة أشخاص تُسَمّى ذلك زورا مطالبة بـ«حقوق الطائفة»؟ أيّ صمت كنسيّ رسميّ منافق هو هذا عندما تكون أيقونة الله (الإنسان) مُداسةً في بلادٍ نعرف أنّها كانت (ولم تزل) منهوبةً من سياسيّين على علاقة وطيدة بالمطارنة والبطاركة؟ تخفيف الجوع لا يكفي، هناك أسباب للجوع السكوت عنها تواطؤ، صحبة المسؤولين عنها تواطؤ. تحدّيات الأصنام التي ذكرتها فوق وغيرها، غير مطروحة أساسًا للنقاش والتخطيط الرسميّين، إلاّ، ربّما، من وقت لآخر، عبر علاقات شخصيّة. ولكن هل الكنيسة تقوم على علاقات شخصيّة بين المسؤولين؟ أم أنّ هناك كنيسة يجب أن يتمّ فيها الحوار العامّ والعلنيّ؟ أليس خَطِرًا أن تَخْتَصِرَ العلاقاتُ الشخصيّةُ الحياة الكنسيّة بكاملها؟ أليس من الممكن أن يجنح الحوار الشخصيّ عن مقاصده بالضبط لأنّه شخصيّ، وغير علني؟ بلى، هناك خطر وهذا ليس حُكمًا على أحد، بل حكمة تقتضيها قراءة الضعف البشريّ. ليس أفضل من الحوار العلنيّ بقيادة تنظر إلى حياة الناس الآن وهنا. ليس أفضل من الحوار الذي يُخاض من الجميع في القضايا التي تخصّ الجميع. أمّا بالنسبة لحجّة عدم نضوج الشعب للحوار، أليست هذه حجّة الديكتاتوريّين بأنّ شعوبهم غير ناضجة للديموقراطيّة؟ وكيف ينضج الناس دون علنيّة وحوار؟ أليس في ذلك أبويّة في غير محلّها، أبويّة لا تنمّي بل تتفرّد ويُخشى أن تتسلّط؟ العلاقات الشخصيّة التي تُقارب قضايا عامّة تكون حكيمة عندما تسعى أن ينطلق الحوار العلنيّ، لا عندما تكون بديلًا عنه. لكنّ الخوف مستشر في أنطاكية، والخوف من حدوث مشكلة يزيد من إمكانيّات حدوثها عندما يؤدّي الخوف إلى الهروب من مواجهتها. الحكمة تقتضي مواجهة الخوف بالتفكير والتخطيط والتشاور وحشد القوى المستنيرة، أمّا الهروب فليس حكمة، الهروب له اسم آخر. يمكن للإنسان أن يكون متسامحًا مع الذين يعتمدون على السلطة الكنسيّة لإعالة عائلاتهم، فيستبطنون المحرّمات الفكريّة ويمتنعون عن النقد ويسمّون ذلك «حكمة»، ولكن نذكّرهم أنّ رئيسهم في «الوظيفة» هو أساسا يسوع المسيح. ندعو لهم ولنا ألاّ يغرينا شيء، لا سلطة العالم ولا السلطة الكنسيّة، وأن تجذبنا وراءها حرّيةُ الروح، فنستجمع عندها شجاعة واثقةً بوعد يسوع الرمزيّ للسائرين وراءه بأنّهم "يَحْمِلُون أفاعٍ، وإِنْ شربوا شيئًا مميتًا لا يَضُرُّهم" (مرقس 16: 17)، وبهذه الشجاعة نحرّك معًا وكر أفاعي التحدّيات الكثيرة، متجرّعين سُمّ المتسلّطين وضيّقي القلوب، واثقين من أنّ ذلك لا يضرّنا بل، على الأقلّ، يُبقينا "على قيد الحياة روحيًّا"، كما عبّر مرّة اللاهوتيّ الكاثوليكيّ يوجين دروورمان. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |