خريستو المرّ
الثلاثاء ٨ شباط/ فبراير ٢٠٢٢ «نحن جماعاتيّون»، يكتب المتخصّص في علم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت، واصفًا بتلك العبارة كوننا مفطورون على العيش في جماعة لها شعاراتها وعاداتها. نحتاج الجماعة كي نكون، بدءا من الجماعة العائليّة إلى الجماعات المتعدّدة التي ننتمي إليها (طالبيّة، وظيفيّة، مناطقيّة، دينيّة، فكريّة، وطنيّ)، وصولا إلى الجماعة الإنسانيّة التي تضمّنا، ومؤخّرا نكتشف أهمّية عضويّتنا بالجماعة الحيّة التي تتشارك هذا الكوكب الذي ندمّره بإصرار. لكنّ هناك شيئًا ما آخر يشدّنا إلى التصادم مع الجماعة رغم أهمّيتها الكبرى التي لا غنى عنها، ألا هو أن نكون أنفسنا، أي أن نعبّر عن أنفسنا كما نحن، دون زيف. الحقيقة تُنعشنا. عندما نرى حقيقة ونتأمّلها، نرغب أن ننقلها. بسبب من تعاطفهم مع غيرهم، يشعر الناس في قرارة ذواتهم أنّهم يودّون مشاركة الحقائق التي يرونها، فكلّ غافل عن حقيقةٍ فريسةُ وهمٍ أو آخر. لهذا يكاد يُجنّ اللاطائفيّون في وسطٍ طائفيّ يمشي إلى حتفه، ولو بعد حين، ويغضب الحريصون على الحياة أمام دعاة الحرب، وينادي بالفضيحة والنفاق كلُّ من وجدَ كلامًا مزدوجًا عوض اللآلئ في صَدَفِ الكلام. نحن جماعاتيّون لكنّنا أيضًا نمتلك تلك الخاصّية التي تكلّم عنها المحلّل النفسيّ كارل يونغ ألا وهي قدرتنا على فصل أنفسنا إلى جماعات غريبة عن بعضها. نُغَرِّبُ الآخر فيغدو «الغريب» عوض أن نرى فيه القريب العضو في الجماعة نفسها (الجماعة الإنسانيّة على الأقلّ). لا يمكن أن نقرأ أصرار الأنبياء على أنّ البشر جميعًا عيال الإله ذاته، أي إخوة، إلّا كونهم لاحظوا قُدرتنا البشريّة المرعبة على تغريب الآخر. دراسات المجازر المعاصرة فكّكت بدقّة الخطاب الذي يمهّد إلى المجازر، وبيّنت بوضوح سعي ذاك الخطاب الـمُمَهِّدِ لها إلى نزع الصفة الإنسانيّة عن الآخرِ الذي يراد له أن يفنى. السعي هو ألّا يتخدّر الحسّ الإنسانيّ في ذهن السفّاحين ومناصريهم حتّى لا يعود يعنيهم مقتل الضحايا. يمكن للإنسان بسهولة العودة لخطابات القادة في الحرب اللبنانيّة والسوريّة ليلاحظ كلمات مستعملة تصف الآخرين بالـ«وحوش»، أو توحي بأنّهم «قذارة» تحتاج لتنظيف. كلّ من رأى حقيقةً أَمَرَتْهُ بأن يبلّغ عنها يدخل صحراءً؛ وصحراء الشاهد حديقةٌ خفيّة تجمع جماعةٍ مع أُخرى، وزهرة برّية نبتت في المسافة بين جماعته وبين نفسه، إنّها الندى المتلألئ بين وجهه وبين وجوه الآخرين الذين يحبّهم لدرجة تسليم نفسه لصليب الحقيقة «خارج المحلّة»، خارج أسوار الوهم أو أسوار النفاق. لا يسعنا أن نذكر جميع الشهود الذين أخذتهم الحقيقة بيدها المنقذة ليموتوا خارج «الأسوار» فيحيوا للأبد، مِن سقراط الذي تجرّع السمّ، إلى يسوع، إلى المسيحيّين الأول الذين لم يقتلوا ولم يرتكبوا وإنّما ماتوا للحقيقة في حلبات القهر، إلى شمس التبريزي الهائم بلا أرض، إلى الحلّاج المتوضّئ بدمه، إلى الذين يتلقّون اللعنات يوميّا لأنّهم يقولون لشعوبهم وجماعاتهم ما ليس لهم طاقة على سماعه. لكن، لا بدّ من سكنى الصحراء تلك، لا بدّ من ذلك التقشّف الوجدانيّ، ليصفو الحبّ الإنسانيّ بحنان الحقيقة الصادمة لأوهامنا. من قال ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله، كان يقول لنا: كِلُوا خبز الحقيقة، الحقيقة حبّ. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |