الثلاثاء ٢٣ شباط/فبراير ٢٠٢١
خريستو المرّ عندما يتعارف الناس على الناس في بلد تمزّقه الطائفيّة يكتشفون أنّهم يشبهون بعضهم بعضًا. حدث مثل هذا في لبنان بعد الحرب الأهليّة؛ وحدث أكثر في الحرب العالميّة الأولى، حين تجرّأ جنود ألمان وفرنسيين وبريطانيين على التخاطب على إحدى الجبهات الفرنسيّة ليلة عيد الميلاد، عندها قرّروا ترك البنادق والاحتفال سويّة. بعد انقضاء الليلة، لم يستطيعوا قتل بعضهم البعض؛ انتبه القادة إلى الأمر ففرّقوهم إلى جبهات مختلفة. إنّ الإنسان يكره القتل بالفطرة. والذين يقتلون يحتاجون لأسباب هائلة ليقتلوا من يُشْبِهُهم؛ وفي الوطن العربيّ يشبه القاتلُ القتيلَ أساسًا في المظلوميّة، في الخضوع لأنظمة الاستغلال وكمّ الأفواه والسجن الاعتباطيّ والتهديد. لهذا، حتّى يهون القتل، في الحروب الأهليّة خاصّة، يخلق الإعلامُ للقتلة أسبابًا تصوّر لهم الآخر عدوًّا، لا بل وتنزع عنه الصفة الإنسانيّة. الوصف بالخيانة في بلد الـ١٨ «شيطانٍ» معترف بهم، طريقة سهلة لتبرير إفناء الآخر. القادة يعرفون ماذا يفعلون، أمّا المؤيّدون فكتلةٌ تهاجم الكتلة الأخرى، تبكي «شهداءها» ولا تأسف على «قتلى» الآخر فهم «خونة» أو «وحوش». الأسلوب نفسه استعمل في حروب كثيرة منها المذبحة السوريّة. ما ينتصر عندها هو فكرة إلغاء الآخر، المشتركة عند الحاقدين من الطرفين. الوطن لا يُبنى بالحقد. في الحروب قد يتفهّم الإنسان القتل إذ يضطرّ عليه معظم الناس بسبب الخوف من الموت، وقد يمكن تبرير محاولة اغتيال قادة تقوم عليهم خطط القتل والتدمير ومخيّمات التعذيب، جرت محاولةٌ لاغتيال هتلر مثلاً، وسعد حدّاد. لكنّ الاغتيال في السلم شيء آخر. الاغتيال في السلم – مهما كان المسؤول عنه ومهما كانت أسبابه - مغارةٌ تفوح منها برودة الوحشيّة. ينبع الاغتيال من حكم مجموعة بأنّ إنسانًا آخر لا قيمة له، وبأنّها وحدها القيمة، بأنّه شيء من الأشياء وبأنّها وحدها البشر، أو بأنّه شرّ خالص وبأنّها الخير. الاغتيال ينشأ من وهمٍ تستبطنه المجموعة التي تقرّر الاغتيال، وهمٌ قائم على النظر إلى نفسها بأنّها الحقّ المطلق، أو تمثّله وتتصرّف باسمه. ولهذا كان الاغتيال مغمّسًا دائمًا بمحاولةِ الاستيلاء على عرش الله، بالإلحاد العمليّ بالخالق، والإلحاد العمليّ اختراع المتديّنين. الإلحاد الفكريّ قد يترافق مع رقّة كبيرة وتعاضد هائل فيكون قريبًا إلى الله، أمّا الإلحاد العمليّ فدائما منافقٌ ومجرّبٌ أكثر بالوحشيّة، وحروب لبنان والمنطقة أكبر دليل. خارج الحروب والاحتلالات، القانون العادل هو الحكم، هو الذي يعبّر عن رأي المجتمع ككلّ، ويترك مجالًا لتقصّي الحقائق، ولرأي خبراء، وللدفاع عن البراءة. القضاء العادل مستقلٌّ، لا يحاكم الناس أمام القضاء العسكريّ بأمور لا تدخل ضمن اختصاصه، ولا يلقي التهم جزافًا على مجموعات الفقراء فقط لأنّها تحتجّ على الفقر. القضاء اختراع هائل يحترم إنسانيّة الإنسان، ويترك مجالاً كي يكون المتَّهَم على صواب والمتّهِم على خطأ. في العمق، الاحتكام إلى القضاء احتكامٌ إلى آليّات اتّفق عليها المجتمع، وهو بالتالي إقرارٌ بأنّهم كلّهم بشرٌ متساوون ولا أحد منّهم - لا فردًا ولا جماعةً، لا رجال دين ولا عساكر ولا سياسيّين ولا مسلّحين ولا عُزَّل– لا أحد منهم أبدًا مهما كان: إله. وطن لا قضاء مستقلّ فيه هو دولةٌ بوليسيّة تحتقر الإنسان، لا حقّ فيها. «ما هو الحقّ؟»، سؤال سأله بيلاطس ليسوع قبل أن يقدّمه للصلب. لم يجب يسوع. ليس لصعوبة الجواب بل لبداهته: إن لم يرَ بيلاطس المقتنعُ ببراءة يسوع أنّ البراءةَ حقٌّ فلا جواب يمكن أن ينفع. وكأنّ صمت يسوع يقول: إنّ الحقّ هو حماية البراءة وإقامة العدل لتستقيم المحبّة ويحيا الإنسان. لكنّ القضاءُ الـمُعتَقَل من قِبَل السياسيّين في لبنان ينبغي أن يجعلنا نتمسّك أكثر بالقضاء ونعمل مع العاملين على حمايته؛ فبدون قضاء مستقلّ سيتصاعد القمع، ونختنق بالدماء التي تصرخ على الأرض. واستقلاليّة القضاء يدعمها الشعب، لهذا كان «نادي القضاة» عالي النبرة في لبنان خلال انتفاضة ١٧ تشرين. لكن إن مُنِعَت عن المظلوم العدالة الوطنيّة، لا يُلام المظلوم أن يتوسّلَ أملاً في عدالة قضاء خارجيّ، فالشكّ باستقلاليّة العدالة الخارجيّة أخفّ وطأة على المظلوم من حتميّة اللاعدالة الوطنيّة. إنّ النظام الظالم نفسه يدفع الناس دفعًا إلى «الخارج». جميعُ الزعماء الطائفيّين الذين مزّقوا القضاء بالتكافل والتضامن، والطائفيّون الذين اتّبعوهم ويتّبعونهم اليوم، مسؤولون عن الدماء التي سقطت في جريمة انفجار بيروت وكلّ اغتيال، ومسؤولون أيضًا عن الدماء التي تسقط بصمتٍ في جوع الجائعين وموتهم المبكّر اللذين يتسببّ بهما النظام المافياويّ البوليسيّ الذي أهمل حماية الحياة، وأسَرَ القضاء، ودفن البلاد بالنهب. إن لم يلفظ الناس القادة الذين يستغلّونهم، ويروا بشكل لا لُبسَ فيه أنّ وجوههم هي نفسها وجوه «الآخرين»، فيدافعوا عن الجميع، لن يُسقِطوا الدولة البوليسيّة ليبنوا مكانها دولة تحترم الإنسان. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |