خريستو المرّ
الثلاثاء 5 تمّوز / يوليو ٢٠٢٢ لن أتكلّم هنا عن التسلّط السياسيّ الأكثر تعقيدًا، بل عن التسلّط في العلاقات الشخصيّة حبّ، صداقة، أبوّة، أمومة، زمالة، وظيفة. يظهر التسلّط عند اختلاف آراء الأفراد، أي هو يظهر أساسًا بسبب تمايز فرادات الناس. عندها، واحدٌ يريد أن يفرض رأيه، يريد للآخرين أن ينكسروا لكي يسود رأيه بالقوّة؛ هو يريد محو الفارق بين الفرادات لكي تسود نسخة واحدة: هو. في العمق التسلّط عجز، عجز المتسلّط عن القدرة على الحوار والمحاججة والإقناع، وعجزه في النهاية عن احتمال تمايز الأشخاص، عن احتمال الهوّة التي لا يمكن ردمها مطلقًا بين إنسانٍ وآخر، هذه الهوّة التي فيها يكمن سرّ الشخص، سرّ أنّ كلّ منّا هو بشكل مطلق متمايز عن الآخرين. الآخر ليس أنا، ولا يمكنه أن يكون انا، ومن الأفضل لي ألّا يكون أنا وإلّا صار العالم عبارة عن أنا متضخّمة وضَعُفَت إمكانيّة أن أغتني، وتضاعفت إمكانيّة أن أجد نفسي معزولاً دون آخر فعليّ غير شكليّ. لكنّ المتسلّط يخاف من الوحدة لدرجة أنّه يوقع نفسه في العزلة: يخاف أن يقف بنفسه مع نفسه وحيدًا في رأيه، فيريد للآخرين أن ينصاعوا كي يطمئنّ أنّه ليس وحيدًا؛ فتكون النتيجة أنّه بتسلّطه يصبح معزولًا بعد أن يكون قد أغلق على نفسه وأصبح العالم مرآته. المتسلّط يخاف من تمايز الفرادات. يريد الوحدة بأيّ ثمن، يطلبها بالطاعة القسريّة فيخسرها، ثمّ يخسر نفسه التي تفتقر بعزلتها. هذا الوضع جحيم فعليّ، يولّد جحيمًا حوله لدى مَن هو مضطرّ أن يخضع لعنف المتسلّط، معنويّا كان العنفُ أم مادّيًا. ولهذا يزيد المتسلّط تسلّطًا، فهو في عزلة تتضاعف مع زيادة منسوب الطاعة القسريّة، فيندفع لمزيد من تخفيفٍ لوجع العزلة بطلب مزيدٍ من وهم الوحدة، أي بمزيد من التسلّط، الذي يوقعه بالمزيد من العزلة، في دوّامة جحيميّة. هذا في أفضل الأحوال، أي عندما تسلم النيّات. فبالطبع، هناك لعبة المصالح، والإنسان قد يتوسّل التسلّط سبيلًا للوصول إلى تحقيق فائدة ماليّة، أو معنويّة، يريدها. أي أنّ التسلّط لا ينبع فقط من عجز عن الحوار واحتمال الفرادات، هناك تسلّط نابع من الرغبة العارية باستغلال الآخر لتحقيق مصلحة. المتسلّط عندها مدفوع برغبةٍ لا يمانع من أجل تحقيقها من تدمير علاقته بالآخرين، وتدمير الآخرين، أو تشييئهم وتشييء ذاته بتحويلهم وتحويل نفسه إلى أدوات للمكاسب، على حساب تجفيف ذاته وحرمان ذاته من العلاقات الإنسانيّة، أي على حساب عزلته، وهي عزلة قائمة حتّى ولو كان وسط الحشود. أقلّ ما يُقال في رغبة الكسب والمصالح تلك أنّها لا عقلانيّة، لأنّها مدمّرة للإنسان، وللطبيعة عندما تكون هي موضع الاستغلال من أجل الكسب. من هنا، ففهم العلاقات الكنسيّة التسلّطيّة يحتّم علينا دائمًا أن ننظر على مستويين: مستوى شخصيّة المتسلّط، ومستوى المكاسب التي يسعى إلى تحقيقها؛ وإن لم تكن المكاسب هي المحرّك الأساس للتسلّط، فهي تشكّل بالتأكيد مخدّرا مناسبًا لألم الشعور بالعزلة. ولا بدّ من ملاحظة أنّ الفقر والبعد عن البهرجة لا يعني التعفّف عن المكاسب، ففي حالات التسلّط الكنسيّ قد تكون المكاسب التي تخدّر المتسلّطين معنويّة: شهرة، صيت تواضع، صيت قداسة، صيت المحافظة على الصراط القويم، إلخ. الشهرة والألقاب تدغدغ في النهاية أحلام الإنسان بان يحيا إلى الأبد، هي إهرامات، لا يمانع المتسلّط من دفن نفسه حيّة فيها مقابل تخليده. وإن كان التسلّط من أجل الكسب المادّي والمعنويّ شائع في ميادين أُخرى غير الدينيّة، فالخطر الأدهى في الميدان الدينيّ، هو قدرة المتسلّط على استغلال الله نفسه لتسويغ تسلّطه، فيكتسب التسلّط الدينيّ قدرةً أكبر وأوسع على الفتك، وهذا ليس باستطاعة متسلّط آخر خارج الأديان. التسلّط - إن استعملنا لغة اللاهوت المسيحيّ - محاولة عكسٍ لفِعلِ الخَلْق، فبينما خلق الله الإنسانَ «على صورته»، أي لديه إمكانيّات الحبّ والعقل والحرّية، ودعاه كي يصبحَ «على مثاله»، أي كي ينمّي تلك القدرات فيصبح في ملءِ الحياة؛ فإنّ التسلّط يؤدّي إلى عزل الإنسان فيخنقه معنويّا، ويحوّل الذات والآخر إلى شيء، أداة، في سوق بيع وشراء المكاسب، ولا يُمانع أن يحوّل الله نفسه إلى أداة كسب. التسلّط مسار قتل معاكس لمسار الخلق. ما يهمّنا أنّ التسلّط مدمّر للإنسان الخاضع له، أو ذاك الذي يتحمّل نتائجه ولو لم يخضع، ولهذا تجب مواجهته وإعلاء الصوت بشأنه، وخاصّة بشأن الدينيّ منه. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |