الثلاثاء 31 آذار/مارس ٢٠٢٠
هناك خطاب كنسي يهاجم ويشكّك بالعقل بشكل دوريّ، فيصف العقل بأنّه يحمل الإنسان على الكبرياء ويؤكّد أنّ الدواء هو التواضع. لكن ينسى هؤلاء أنّ العقل أيضا افتداه يسوع. إنّ إدانة الكنيسة لأبولينير الذي قال بأنّ الكلمة الإله حلّ مكان العقل في جسدٍ أرضيّ لا يمتلك عقلاً، تعني أنّ الكنيسة حسمت أمرها بأنّ العقل أيضا قد افتداه المسيح. ليس من أمر في الإنسان خارج الخلاص. فكما أنّ الكبرياء يمكن أن تُضِلَّ العقل، فإنّها قد تُضلّ خبرة الصوم، والصلاة، والترهّب، والكتابة، والصمت، وأيضًا التواضع الذي يمكنه أن يبقى شكليّا دون أن يبلغ القلب، وبذلك يمكنه أن يصبح وسيلةَ تأكيدٍ فوقيٍّ للذات، وسيلة كبرياء. في الواقع، كلّ تهجّم على العقل والتفكير هو محض مفارقة، لأنّ المتهجّمين على العقل يدفعون بحجج هي وليدة المنطق، أي وليدة العقل. إنّ كلّ كلمةٍ نقولها وكلّ تواصل نقوم به يتوسّل العقل. شئنا أم أبينا، نحن مخلوقات عاقلة، هذا معطى بديهي يتناساه المتهجّمون على العقل. الإنسان على «صورة الله»، وصورة الله هذه فسّرها بعض آباء الكنيسة (وهم من مفكّري عصورهم) على أنّها تتضمّن العقل، أي القدرة على التفكّر والتمييز. إنّ الآباء الكابادوكيّين مثلاً لم يصلّوا فقط، بل أنتجوا فكرًا لاهوتيّا لإيضاح الإيمان ودحض أفكار غير متوافقة معه، ولم يكن لهم أن ينتجوا هذا الفكر دون عقل ودون استعمال تعابير فلسفيّة غير متوفّرة في الانجيل مثل عبارة "المساوي للآب في الجوهر". الموضوع العقليّ-الفكريّ لا يتعارض مع الخبرة الصلاتيّة، بل أنّ الخبرة الصلاتية تعبّر عن نفسها بكلمات وألحان يساهم العقلُ في صياغتها. حتّى الانتباه في الصلاة والقدرة على تمييز الخبرات بين ما هو جيّد وما هو مُضَلِّل، أكان في الحياة الرهبانيّة أم "العلمانيّة"، لا يمكنه أن يتمّ دون مساهمة من العقل. إنّ العقل مُعمَّدٌ بالروح القدس في الكنيسة، وهو ككلّ خبرة إنسانيّة أكانت صداقة أو رهبنة أو زواج أو عزوبة، يحتاجُ أن يتجدّد ويتطهّر بالروح القدس. إنّ تجسّد كلمة الله جدّد الطبيعة البشريّة، ومنها قدرتنا العقليّة. المهمّ في كلّ أنواع خبراتنا مع الناس والله، أن يبقى نصب عيوننا أنّ الهدف الأخير هو التجلّي: تجلّي هذه الخبرات في حضور الله، وتجلّي العالم في حضور الله، بحيث تجدّدُ القوى الإلهيّة هذا العالم ليصبح عالمـًا جديدًا وأرضًا جديدة بالحبّ. العقل (وكلّ شيء آخر) ليس هدفًا، الحبّ هو الهدف، والحبّ ليس فكرة، يسوع ليس فكرة، هو شخص، ولا يمكن بلوغه إلا باللقاء. المهمّ اللقاء، المهمّ أن نحبّ، نحبّ يسوع ونحبّ الآخرين. إنّ المسيرة المتوازنة هي في هذا الذهاب والمجيء بين العقل والقلب، أو سكنى العقل في القلب، وأن يستنيرا معًا بالروح القدس. الله محبّة ولا يُبلغُ إلاّ بالحبّ، والحبّ يحتاج للعقل والقلب معا، العقل خادم الحبّ يأخذ بيد القلب حتّى لا يضلّ، والقلب هو الدليلُ، يأخذ العقل إلى الحقل الوسيع، إلى الرؤى التي لا تنضب جمالاتها، إلى العمق الذي لا قرار له. إنّه نضالٌ متعبٌ وجميلٌ نحو أفق النور الذي لا يعرفه مساء، في وجه يسوع. المحبّة تحتاج للعقل ولكنّ العقل لا يحيط بها، والمحبّة تستدفئ وتندفع بالقلب، لكنّ القلب ليس هي؛ المحبّة لقاء، اللقاء هو كلّ شيء، هو الكلام حيث تنفكّ اللغة عندما يكفينا وجه الحبيب وتتكلّم الأحشاء. خريستو المر (الصورة: أيقونة المسيح: دير القديسة كاترينا، سيناء) Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |