الأحد 24 أيّار ٢٠٢٠
خريستو المرّ إذا ما أتى رمضان عرف محبّو الله في كلّ دين، أنّ قلوب محبّيه من المسلمين توجّهت إليه لتقول أنّ الله أكبر من كلّ شيء حقّا. في رمضان يقول الصائمون بأجسادهم بأنّ الله لهم هو أكبر من الحاجة الجذريّة إلى الطعام، أنّه حياة الحياة، أنّ العيش وحده ليس هدفا وإنّما الهدف أن يحيا الإنسان ببهاء وكرامة أمام وجه الخالق. عند المحبّين، لم يكن أيّ صوم يوما إلاّ تكثيفا للانشغال بواهب الحياة، بمن هو الحياة بأل التعريف. وتكثيفُ الاهتمامِ لعبةٌ يعرفها العاشقون. الصوم، عند مَنْ استطَاعَهُ صحّيًا؛ رياضة للقلب؛ به يواجه الإنسانُ بجوعه، أي بجسمه وبنفسه التي تجوع إلى الحياة، حقيقتَه: هل قولي بأنّ الله هو الألف والياء، البدء والمنتهى، هو قول صادق؟ ولأنّ الصوم امتداد إلى فوق، فلا معنى له إلاّ بالمشاركة، أي بالبذل كي لا يفنى المساكين إذا ظنّوا أنّ أحدا لا يفكّر بهم. ومن خطا هذه الخطوة الأخيرة نحو المساكين، يقلق؛ ولهذا يسعى حتّى آخر العمر أن يرفع عن المساكين ما يحتجزهم في البؤس. كلّ بذل، وكلّ نضال من أجل عالم أكثر عدلا يتجذّر في الصوم، صوم القلب عن الراحة ليتمسّك بوجه المساكين، أو بوجه الله في المساكين. ومن ذاق طعم الموت في الصوم، يتدرّب على المشاركة، أي على الموت عن انغلاقه، حتّى يرتاح قلبه في قلب الله. هكذا يعرف الإنسان ما سمّاه الغزالي صوم القلب عن الدنيا، وكفّه عمّا سوى الله. وإذا الصوم خبرة انقطاع واتّصال بآن، تتجلّى ببهاء وصمت في خدمة وجه المساكين. الإفطار في الصوم شيء من تذوّق مسبق للعيد، هو عيدٌ يوميٌّ صغيرٌ يتمتم عيد الفطر. فبعد رمضان، يأتي الفطر احتفالاً بالحياة: أن نأكل معا، أي أن تشبع أجسادنا ونفوسنا بعدما عبرت الصحراء وجازفت، وأن تشبع قلوبنا بأن نكون معا. لكنّ القلق الأخير عند من تذكّر، هو قلق الظلم. كيف يمتدّ الفطر بعد الفطر، إلى البُنى الاقتصاديّة والسياسيّة؟ الفاهمون يعلمون أنّ الفقراء والمسحوقين والمهمّشين يلدهم الظلم، والظلم تصنعه السياسات، وكلّ من قرأ عرف هذه الحقيقة البسيطة التي يعرفها أبسط البسطاء. أن يفرح الإنسان بالفطر، وأن يُبقي في قلبه على هذا القلق المحيي بأنّه لا يحيا من نفسه، ولا لنفسه فقط، عيدٌ يشحذ همّته كي يرفض بنى الظلم حوله ويغيّرها، بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. والتدريب الذي روّض نفسه عليه بأنّ الحياة أهمّ من العيش يصبح لديه نبع بذل وتضحية من أجل الحياة ببهاءٍ وكرامة. وكي لا يضلّ يعمل الإنسان مع غيره الذي هو آخر بالفعل، فلا يُقصي آخر لاختلافه معه بالإيمان أو بالشكل أو بالعادات، فالإقصاء أوّله آخَرُ بعيدٌ، وآخِره آخَر قريبٌ، وكلّ إقصاء نسيانٌ لله الذي خلق الجميع، وبذاك هو أب الجميع إذ هم عياله. الإقصاء بين الناس، هو طعام الذين ظنّوا أنّهم يكونون بأنفسهم وليس بوجه الله، وبهذا هو إفطارُ موتٍ، هو عكسُ افطار الحياة الذي يربّيه رمضانُ في القلوب. ولأنّ الطائفيّة مُقصِيَة للآخر فهي مرض الذين قالوا آمنّا، ولكنّهم لم يعرفوا في قلوبهم لا رمضان ولا الفطر ولا الصوم الأربعينيّ عند المسيحيين ولا الفصح. هي مرض أولئك الذين قالوا فقط، ولمـّا يدخل الله قلوبهم لتحييهم كلماته، فيتغيّروا، ويُغيّروا الأرض لنصبح تباشيرَ سماءٍ بالعدل والتعاضد في الحياة الوطنيّة؛ هي مرض الذين لم يجمعوا أبناء وبنات الله المتفرّقين، ليتوحّدوا بالمشاركة من خيرات الله التي تركها بيننا على هذه البسيطة. الظلم عنفٌ، وهو يُزهق أجسادا ونفوسًا، باعتلال الصحّة، وبالأسى الكبير الذي قد يتحوّل يأسًا ويُنتِج عنفا. كلّ من صام رمضان وأفطر قَبَسًا من وجه الله ووجوه المساكين، لم يستطع أن ينام حتّى يسود عدل يوقف نهر العنف، بدءا من ذاك العنف المـُسَجَّلِ في البنى والسياسات؛ علّ الوطن عندها يصبح مشاركةً، ويفطرُ الجميع بهاءً وعدلاً، ويعرفوا أنفسهم عائلة على مائدته هو، هو الذي صام له المحبّون وبلقائه عيّدوا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |