خريستو المرّ
الاثنين 6 أيلول / سبتمبر ٢٠٢١ "كيف نعلّم المسيحيّ أنّ دربَ السماءِ تمرّ من هنا، في الأرض، وأنّ ديانته لم تكن يوماً هربًا وانعزاليةً ووهمًا وتخديرًا أو جمودًا؟". بهذه الكلمات المضيئة خاطب الشاب جورج ناصيف في ١ حزيران ١٩٦٧، المجتمعين بمناسبة اليوبيل الفضّي لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وهو خطاب شهد به جورج "بعبارات مؤثرة، على ما حققته الحركة من تجدّد في حياته الشخصية وفي الكنيسة" كما ذكر كوستي بندلي في مقالة يومًا. جورج ناصيف، الذي سبقنا البارحة إلى «هناك»، كان مجروحًا بحبّه للإنسان وبإحساس صارخ بضرورة تحقيق الحرّية والعدالة. قد لا يتّفق الإنسان مع كلّ خيارات جورج السياسيّة في مرحلة أو أخرى، لكنّ الثابت الذي يلامسه كلّ من عرفوه أنّه كان حسّاسًا وحادّا في قضايا المظلومين والقضيّة الفلسطينيّة خاصّة. في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الستّينات، تصادم جورج ومجموعة من الشبّان مع الذين تحفّظوا في الحركة عن اتّخاذ أيّ موقف رسميّ علنيّ من قضايا المنطقة. وقتها، لم يصل الفريقان إلى حلّ وسط يحفظ لكلّ فرد حرّية ضميره ويفتح في الآن نفسه المجال أمام الحركة في لبنان لإعلانٍ علنيٍّ لمواقفها الرسميّة من التزام القضيّة الفلسطينيّة وعَلْمَنَة الدولة والعدالة الاجتماعيّة. هكذا لم تتّخذ الحركة مواقف صريحة من قضايا جذريّة مثل قضيّة الاحتكار التي انفجرت في السبعينات في وجه «حكومة الشباب» والتي نرى اليوم كيف تمارس سحقها الشرس لسكّان لبنان، مواطنين ولاجئين. كم تحتاج الحركة اليوم أن تخرج عن صمتها في ظلّ كلّ الأحداث التي تعصف بالبلاد ولو للتذكير بالمبادئ الأساس والوقوف مواقف مبدئيّة من أهداف البُنى الاقتصاديّة والسياسيّة المرتجاة. لا شكّ بأنّ جورج كان فرحًا بأن تقول حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في وثائقها في الستّينات من القرن الماضي «أنّ الصهيونية ضد مبادئ الانجيل، وأنّ دولة اسرائيل ضد العدل والسلام، وأنّ ثمة ظلماً يجب أن يُزال لتبقى للانسان كرامته في فلسطين»، وأن أعضاء الحركة يجب أن يسعون «كي لا يبقى مظلوم وظالم في المجتمع، وإن المحبّة المسيحية تُلزمنا اليوم بالعمل على تغيير البنى الاجتماعية التي تكرّس الظلم، وأنّ المظلومين هم أحقّ الناس بالاهتمام وإنّ كرامتهم هي كرامة المسيح بالذات»، وأنّ «الطائفية السياسيّة ضد النظرة المسيحية للإنسان وضد المسيحيّة ككلّ، وأنّ "الدولة المسيحية" (أي المفهوم المسيحي للدولة)، إذا جازت التسمية، هي الدولة العلمانيّة». هل أثّر جورج في هذه الصياغة، لست أعلم، ولكن أعلم أنّ المطران خضر كان مرشدًا للمسيحيّين في هذه البقعة من العالم ليكتشفوا صوت المسيح في القضايا الاجتماعيّة وأنّ كوستي بندلي تابع هذا الخطّ، وأنّ جورج وغيره عاشوه بأجسادهم وعقولهم وقلوبهم ما أمكنهم ذلك. لا شكّ يا جورج أنّك سمعت كلمات المطران خضر وكأنّها موجّهة إليك حين كتب عام ١٩٦٥ "ليست القضية أن تأتي ببعض الآيات لتبرّر بها الوجه الاجتماعيّ للكنيسة... أنت لست هنا فقط لتبارك إنجازات ناجحة، بل لتساهم في بناء الإنسانيّة متلقّيا في صدرك الضربات، صارخًا بصوتٍ نبويّ ضدّ الظلم والعسف والجشع، محاولا مع غيرك من كلّ دين أن تتبيّن الحلول العمليّة لقضايا" (مجلّة النور ١٩٦٥، عدد ٢). في اعتقاديّ أنّ هذه التوجّهات التي بذرها خضر وبندلي هي التي أعطت وجهًا معاصرًا ليسوع في قلب جورج المتوهّج بالحبّ للمظلومين، فلم يتوانَ عن نقد سلطة أو حزب ادّعيا العمل لله أم للإنسان، حين بدا له أنّ مواقف أيّ منهما تهدّد حياة الإنسان. قد يكون جورج ناصيف التزم قضايا الأرض لأسباب تتعلّق بالسماء على ما قال فرنسوا مورياك، أو التزم قضيّة السماء لأسباب تتعلّق بالأرض، ففي قلب المحبِّين القضيّتان قضيّة واحدة. وهو فعل ذلك كلّه بتواضع كبير، تواضع كان يترافق مع شغفه بالإنسان وبنور وجه المسيح المصلوب. هو إنسان أحبّ كثيرًا وعن مثله قال يسوع غفرت له خطاياه الكثيرة لأنّه أحبّ كثيرًا. إلى اللقاء أيّها العزيز الذي سعيت أن تضيء بحنانك ما بدا لك من دموع على هذه الأرض حتّى لا تموت عيون الموجوعين في الظلمة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |