خريستو المرّ
الثلاثاء ٧ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢١ أمام وقائع التحرّش الجنسيّ في الكنيسة، وبالإضافة إلى نظريّات المؤامرة التي تتّخذ موقفًا مُسْبَقًا مُكذِّبًا لأيّ دليل عقليّ، يردّد العديدون آيات إنجيليّة مثل "لا تدينوا كي لا تدانوا" و"مَن منكم بلا خطيئة فليرمه بحجر"، داعين الجميع إلى الصمت لأنّه لا يجوز "الحُكم" على أحد، فكلّنا خطأة ونحتاج للتوبة؛ وينسى هؤلاء أمرين، الأوّل يتعلّق بالحياة الإيمانيّة والآخر بالحياة برمّتها. من ناحية الحياة الإيمانيّة، التوبة تحتاج أوّلا إلى الاعتراف بالخطيئة والتي تعني حرفيّا «إخطاء الهدف»، أي تحتاج أن يعترف المعتدي بارتكاب فِعلٍ يُبعِدُ الإنسانَ عن هدف اللقاء المـُحِبّ بالله والناس. هذا الاعتراف يشكّل أوّل خطوة للتوبة، بعدها تأتي خطوات عسيرة لتغيير نمط الحياة، لتغيير الذهنيّة (وهذا معنى كلمة التوبة) كي يعود الإنسان للتصويب نحو الهدف والسير إليه. وبالطبع عندما يتعلّق الأمر بالتحرّش، فهناك انحرافات يعاني منها المتحرِّش عليه مواجهتها مع أصحاب الاختصاص وذلك لكي يحظى بفرصة لتغيير نمط حياته. إنّ الروحَ القدس لا يكفي لحلّ الأمور، فالله أعطانا عقلا لنفكّر به ونتوسّل به الحلول بناء على تحليلنا للأوضاع، ولهذا عندما نريد السفر من بلد إلى بلد، مثلًا، لا ننتظر فِعل الروح القدس وإنّما نستقلّ الطائرة أو القطار أو السيّارة بحسب تحليلنا للأوضاع والوسائل المناسبة. إنّ الاعتماد على الروح القدس في كلّ شؤون الحياة يخالف أبسط قواعد المنطق؛ فحضور الروح ليس حضورًا سحرّيًا يرفع عنّا المسؤوليّة، إنّ الروح يساعد المسيحيّين كي يبقوا كنيسة، أي يرعى علاقتهم بالله. وحتّى في هذا المضمار هو لا يفعل سحريًّا، بل يحتاج إلى تعاون الإنسان، والإنسان يتعاون مع الروح بإعمال المواهب الإنسانيّة التي منحه إيّاها الله، ومنها العقل الذي يدلّنا على الوسائل الفضلى لتغيير الأوضاع. هكذا، نستخدم الصلاة، كما نعمل، ونمارس الرياضة، ونستخدم النتاج العلميّ؛ وهذا الأخير يدلّنا أنّ حالات التحرش تحتاج لمواجهة بوسائل غير الصلاة (علم نفس، قضاء كنسيّ، قضاء مدنيّ، تغيير البيئة والتربية، إلخ.). وهذا يُفضي بنا إلى الأمر الثاني الذي ينساه الداعون إلى الصمت انطلاقا مِنْ أنّنا كلّنا خطأة نحتاج إلى توبة، ألا هو أنّ الحياة أوسع من الحياة الكنسيّة بالمعنى الضيّق للعبارة. هؤلاء يختصرون الحياة الإنسانيّة بتشعّبها وغناها بالحياة الكنسيّة، أي بالخطيئة والتوبة. إنّ اختصارهم هذا لا يُخالف فقط أبسط قواعد المنطق، وإنّما يخالف أيضًا ممارساتهم اليوميّة، فالحياة اليوميّة غير قائمة فقط على الخطيئة والتوبة. مَن مِنَ هؤلاء لا يُخضِعُ نزوات أطفاله لعقاب ضروريّ من أجل بنيانهم (حرمانهم من اللعب لمدّة من الوقت مثلًا)، أو لا يدّخر ما أمكنه من أجل مصاريف التعليم، أو الطبابة؟ مَن مِن هؤلاء لا يذهب إلى طبيب إنْ شعر بمرض؟ مَن مِنهم لا يلجأ إلى المدرسة ثمّ إلى مهنيّة أو جامعة لكي يتعلّم ويجد وظيفة؟ مَن منهم إذا سرقه أحدهم، أو خدعه في الأعمال، أو قتل ابنته أو ابنه لا يرفع دعوى قضائيّة لاستعادة حقّه، أو معاقبةِ المجرم واستعادةِ الشعور بشيءٍ من العدالة؟ إنّ وضع الخطيئة والتوبة لا يختصر كلّ الخبرات الإنسانيّة، ولا يختصر كلّ الحاجات الإنسانيّة، ولا كلّ الأبعاد المتعدّدة للحياة (تسلية، غذاء، لقاء بالأصدقاء، حاجة للشعور بالأمان، حاجة للشعور بالعدالة، إلخ.). إنّ اختصار وضع المتحرِّش بوضع الخاطئ الذي يحتاج إلى توبة هو محوٌ لواقع أنّ المتحرّش يحتاج أيضا لقضاء (قصاص) وربّما لعلاج (علم نفس). كما أنّ التركيز المطلق على فكرة الخطيئة والتوبة في مواجهة التحرّش، هو محوٌ لواقع الطرف الآخر، الطرف الذي اعتدي عليه. وهو محوٌ يناسب جدّا كلّ مَن لا يريد أن يُتعِب رأسه ونفسه ليتصرّف بمسؤوليّة في هذا العالم. لكن بحسب الإنجيل (طالما هؤلاء يحبّون كثيرا الإنجيل ويسوع)، الإنسان في هذا العالم مسؤولٌ عن غيره وليس فقط عن نفسه، وأولاده، وعائلته، وأشيائه. إنّ محو مشاعر وكرامة وإنسانيّة ووجود الـمُعتدى عليهم من الفكر والقلب، والتركيز المطلق على الـُمعتدي وعلى فكرة التوبة-الخطيئة، هو تصرّف مضادٌ للإنجيل ولوصايا يسوع، هو أفيونٌ يخدّر فيه المتديّنون قلقهم أمام فداحة النذالة الدينيّة المحيطة بهم، أفيون يُغلق عليهم في فرديّة هي عكس معنى الكنيسة-الجماعة. بتحويل فكرة التوبة-الخطيئة إلى أفيون يرتاح الكثيرون - أكانوا من الشعب أم من المسؤولين - إلى أنفسهم، مشاركين بالنذالة الدينيّة بصمتهم عنها، ولكن غير معترفين بتلك المشاركة ولا تائبين عنها، ونرجو إلّا يقول لهم يسوع يومًا: اذهبوا عنّي أيّها الملاعين كنتُ مُتَحَرَّشا به ولم تعضدوني. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |