الثلاثاء 5 أيّار 2020
خريستو المرّ "مَنْ لا يَقبَلُ ملكوتَ اللهِ مِثلَ طِفل فلن يَدخُلهُ" يقول اليوم المسيح لأتباعه. والطفل يدرك بالقلب، ويكشف الخبثاء الذين يخدعون. إن اخبرك طفل انّه لا يرتاح لإنسان فهو قد كشف حقيقة. أن نكون كالأطفال هو ألاّ ننسى الطفولة فينا ولا المراهق، ولا ندفنهما تحت ركام "الضرورة". هو ألاّ ننسى الروح ونتمسّك بالحرف. الحرف هو أن ينتج العلم شيئا دون أن يسأل عن أثره؛ والحرف هو أن يشرّع القانونُ أعمالاً غير شرعيّة؛ والحرف هو أن يختزل الاقتصاد حياة بشر بأرقام تخفي الوجوه. أمّا الروح فهو الوجه الـمُدمّى على الصليب. كلّ الحروف لا روح لها دون أن تكتب عن ذاك الوجه المدمّى على كلّ صليب، دون أن تكتب قصيدة حبّ له تمسح عنه كلّ دمعة. أن أكون طفلا هو أن أرى كلّ هذا، وإن رأيتُ هذا، عندها، لا أستلم الواقع كما هو، بل أثقب هذا الواقع بخيالٍ يفتح أمام الوجه أفق المستقبل الـمُمكن، الذي غيّبه من كَبِروا ودفنوا طفولتهم فبقوا أسرى الموت والمرايا. ليست الطفولة تسليمًا أمام المصائب، وإنّما إبداعٌ بات ممكنا لأنّ الرؤية بقيت معلّقة على صليب الأبرياء. أحلام الطفولة هي الأحلام الواقعيّة، التي باتت خيالاً في الأذهان المتبلّدة؛ هي أحلام أناسٌ أخذوا على عاتقهم أنّ الأرض يمكنها أن تكون سماءً، لأنّهم آمنوا بالفعل بأنّ قدمي الإله وطأتها يومًا، وأنّه قال أنّه يكون في وسطهم بشارةَ مشاركة. أن نكون أطفالاً هو أن نؤمن بأنّ الملكوت بيننا فنكون راشدين لنشارك في صياغته. الأطفال لا يحلمون بالمال، قال فرويد يوما. يجب استعادة أحلامنا من فم الوحش. الأحلام مرآة واقعنا الروحيّ، وأحلام الطفولة نافذة إلى وجه يسوع لو أغلقناها جفّت الكلمات، وجفّت العيون. الحالم الأكبر كان يسوع، أخذ اثني عشر صيّادا وقال أنّه سيغيّر العالم معهم. ليس من أمر أكثر جنونًا من هذا. يجب استعادة أحلامنا الأكثر جنونًا لكي نكون قد خطونا نحو يسوع، ونكون قد وضعنا الكلمة الأولى في قصيدة ملكوته على هذه الأرض وفي لحم البُنى التي حولنا، ليختمر بهذه القصيدة عنبُ المدينة. كلّ خضوع مستكين لواقعٍ هو ذهابٌ عن يسوع وانطواء كبير على الأسى، وكلّ حلمٍ لطفولة ثورةٌ بدأت، ملكوت تحرّك في أحشاء الأرض. الطفل شاملٌ وكونيّ، لا يرى لونَ إنسان آخر ولا دينه ولا ماله، هو فقط يراه. لهذا هو قادرٌ بشكل لا محدود على استقبال الآخر والتعاطف معه، وعلى الانفتاح على إمكانيّات إنسانيّة فسيحة، وبهذا هو أكثر عقلانيّة من إنسان كبيرِ الجسم ضيّق القلب. بالطفولة نتّجه إلى آفاق مستقبل يمكننا فيه أن نكون معا إخوة وأخوات بالفعل، وبذكاء الطفل الثاقب نثقب لمعان وهم الطائفيّة لنرى حقيقة جثّتها الذي تفوح منه كلّ جريمةٍ، وكلّ سرقة، وكلّ خراب. بالطفولة نثقب وهم الطائفيّة لنحلم، ونوسّع الحلم ليدخل فيه كلّ مُخْلِصٍ، لنعمل معًا كي نبدأ البداية التي تنتظر بداية أخرى، هنا على هذه الأرض، إلى أن يحين النهار الذي ما من مساء بعده، فتنفتح بداياتنا إلى البدايات التي لا تنتهي. الطفولة إشارة إلى اتّجاه، إلى مستقبل، رمزٌ جدّده يسوع ليذكّرنا بألاّ ننسى وجوهنا في وجوهنا، بألاّ ننسى وجوهنا عندما كانت ترى البشر واحدا. أن نكون أطفالا ليس هو أن نحوّل الماضي إلى صنم، وإنّما أن نَثِبَ بنضارة الطفولة إلى المستقبل؛ فنكون راشدين عالمين إلى أين نذهب. الطفولة هو أن نكون ذاهبين إلى أفق حبّنا؛ عندها نتحرّر من ردّات الفعل التي تحمّل الله مسؤوليّة كلّ شاردة وواردة، ونتحمّل نحن مسؤوليّة حياتنا، وعندها معه نعمل لأجلنا. وأن نكون أطفالا هو أن نكون راسخين في ذواتنا وقيمتها، راسخين في ثقتنا بإله يُحبّنا حتّى النهاية المنتصرة، ولهذا نحارب إحباطاتنا بالمزيد من الطفولة والرشد، بالمزيد من الحلم والعمل، وبالمزيد من الانتباه كي لا نعوّض في حياتنا - الدينيّة خصوصًا - عن فشلنا في مكان آخر، بتسلّط أو بُخلٍ أو استغلالٍ أو غضبٍ على الضعيف. وأن نكون كالأطفال هو أن نحيا الإنجيلَ، ولهذا هو أن نمرّ بأشكال الموت المختلفة، وأن نمرّ بالموت عن الأوهام: وهم المـُلك، ووهم السلطة، ووهم المكاسب الفرعونيّة؛ وعندها يمكن للطفولة أن تأخذنا بيدنا على طريق ملكوت الله. ومن مشى طريق الملكوت لا بدّ أن يمرّ بالموت، لا بدّ أن يحيا انقطاعات وخضّات لا مفرّ منها في الروابط العائليّة والروابط الصداقيّة والروابط الدينيّة والروابط السياسيّة عندما يتطلّبها الاخلاصُ ليسوع، لوجوه المعذّبين الذين ينتظرون منه أن يكون معهم عائلة واحدة. من كانوا كالأطفال تبعوا يسوع، وكتلاميذه "فيما هُم يتبَعونَ كانوا يَخافونَ" (مرقس ١٠: ٣٢). لا بدّ أن نتجرّع الخوف لنأكل الفصح في عالم القيامة. اليوم بينما بلاد بأكملها تتساقط في فم الجوع والجشع والنفاق، والحرب أو شبحه، لا بدّ من غلبة على الجحيم وتجاوز للخوف من الموت، لا بدّ من عودة إلى طفولةٍ تنقذنا من وهم الطائفيّة، ومن وهم الأوهام: وهم أنّ المسيحيين يمكنهم أن يوجدوا دون المسيح. لا بدّ من غلبة على جحيم هذه البنى الطائفيّة التي تسحقنا لكي نعيّد فصح هذه البلاد في الحياة اليوميّة. هل تستعيد المسيحيّة طفولتها في بلادنا؟ بلى، يجب استعادةُ كلماتِ يسوع، أحلامنا، من فم الوحش. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |