الثلاثاء ١٢ أيّار ٢٠٢٠
خريستو المرّ كيف نوجد؟ هذا هو السؤال الذي يؤرقنا من بدايات الوعي حتّى الموت. والوجود ضرورة إذ لا يكفينا أن نعيش، بل نريد أن نحيا، أي أن يشتعل الكيان بألق نريده لا يزول. هذا دليل قذفه الله في القلب لكي نطلب المستحيل. لهذا لا يكفينا شيء ولا إنجاز ولا مال ولا سلطة. هناك في القلب فراغ لا قعر لها تملأه الوجوه. لكن من عاش فترة يعرف أنّ الوجوه تخيّب بدءا من وجهه الذاتيّ. لكنّ الوجوه تحملنا باستمرار بغيوم الحنان فوق هاوية العدم، وفي الوجوه نُعطى رؤية ملامحِ ما لا يُرى. عدا الوجوه لا شيء يسدّ فراغ القلب. الوهم أنّنا نفترض أنّ الأشياء يمكنها ذلك. وبالوهم ندخل تلك الدوّامة من الجوع الذي ينهش ذاته، في جحيمٍ يمكن لنا جميعا فهمه لأنّنا لمسناه يوما بقدر أو بآخر. هذا هو الضلال الكبير: أن نضلّ الوجوه؛ وفي هذا تعريف الخطيئة، ألا وهو أن نضيّع الهدف. فالهدف هو اللقاء والخطيئة فقدانه. ولهذا يتذوّق العاشقون اللهَ، عرفوه أم لم يعرفوه، ذاك أنّهم في اللقاء. فلقاء الله هو الهدف ولا يلاقى الله سوى بالآخر، وبالذات التي حملت الآخر ولو لم تره. وكلّ تراث الكنيسة يقول أنّ التوبة هي التصويب على الهدف من جديد. كارثة السلطة الكنسيّة هي كارثة السلطة السياسيّة: أنّها تاهت في صحراء الوهم الذي لا وهم بعده، وهم سدّ جوع القلب بالجوع. السياسيون يظنّون أنّهم بالقمع والمال يوجدون، ينهشون لحم الناس ويرضون ضمائرهم بالتبرّع. عدم الإحساس هو السيّد. ويفهمون السلطة سيادة إلهيّة ويتصوّرون الله متسلّطا ولهذا يمارسون السلطة تسلّطا وإرهابا. لا يمكننا أن نفصل بين أعمال إنسان وتصوّره للألوهة، وكلّ إنسان يؤمن بـ"إله"، ولو كان مجرّد عقيدة أو فكرة. كلّ تلك الوحشيّة الحقيقيّة تجعلهم بلا إحساس بالآخر، ولكن لا تجعلهم بلا مشاعر؛ ولكنّهم إن بكوا على الفقراء تبقى دموعهم مرآة يطمئنّون بها بأنّهم ما زالوا بشرًا جميلين. فالبكاء يطمئن الإنسان بأنّه لم يصر بعدُ حجرًا خالصا. البكاء لا يكفي، فالدموع جزء من الجسم وتكوينه وليست جزءًا من الأعمال، أي ممّا يصنع الشخص. عبارة دموع التماسيح تمثّل. حقيقة وجوديّة. كارثة السلطة الدينيّة المسيحيّة (والإسلاميّة) - في جلّها حتّى لا يغلبنا التعميم - في حضورها الإعلاميّ وفي ممارساتها داخل مؤسّساتها، وفي تعاطيها مع المؤمنات والمؤمنين (والأمثلة أقبح من أن تُكتَب الآن) أنّها مرآة السلطة السياسيّة وليست مرآة الإنجيل: تسلّط، خطاب منقطع عن العالم وحقيقته، كلام إنشائيّ، تبرير القمع أو الصمت عنه، تبرير الاستغلال أو الصمت عنه. كلّ هذا يجعل المساعدات الإنسانيّة التي تشرف عليه تلك القيادات الكنسيّة المحنّطة، شبيهة بدموع السياسيّين الوحشيّة. "السيرك الأرثوذكسي" (كما وصفه بحقّ الصديق أسعد قطّان) مأساويّ لأنّه إشارة إلى أنّ الهدف قد ضاع، وأنّ جوع القلب يتصاعد بالتهام وجبة الوهم. اليوم، يترجم الجوع الوجوديّ الكبير، نفسه، تدميرًا لشعوب واستغلالا لمجتمعات، تسلّطا وإرهابا بواسطة العسكر وبواسطة الميليشيات. كلّ هذا لا يراه أصحابه سوى أنّه "دفاع عن الوجود" و"الذات" و"الحقّ"، ويبرّرونه بـ«الأعداء» كأنّ لا طريق لمواجهة وحشيّة «الأعداء» سوى بالوحشيّة. يقابل هذا الجوع المدمّر اتّجاهان: اتّجاه يقول بالـ«حكمة» ويعني بها الجبن والمصالح، والآخر قد أدار الظهر للنفاق ويبحث عن طرق تعبيرٍ وعملٍ تغيّر الواقع. تعلم السلطات أنّ السلطةَ تزول بانعدام العدالة، ولهذا هي تلجأ للقمع العاري، وسيتزايد القمع في لبنان. والسلطات الكنسيّة غارقة بأوهام السلطة، والقمع فيها أداة المـُستَعبَدِ لأوهامه. "علامات الأزمنة" تصرخ في صراخ الشعوب، والكنائس تصمّ آذانها عن الأسباب. لن ينقذ الكنيسة والمجتمع من جوعهما الحقيقي، إلاّ العودة الكبيرة إلى مالئ فراغ القلب بكسرات الضوء، إلاّ ثورة محبّةٍ-قداسةٍ تترجم نفسها التزام العدالة في الأرض، هذه الأرض وهذا المجتمع، ثورةٌ لا بدّ أن تدفع ثمن حبّها صليبًا. لن تخلص الكنيسة في العزلة بل في المشاركة. لربّما لن يقول يسوع لمعظمنا "لماذا تضطهدني"، ولكنّنا يجب أن نسعى حتّى لا نسمع السؤال المرعب "لماذا سكتَّ عن اضطهادي؟".
0 Comments
Leave a Reply. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
November 2022
Categories |