الثلاثاء 2 حزيران/يونيو ٢٠٢٠
خريستو المرّ في هذه الحياة، هناك طريقتان لتزوير الوحدة في الجماعة: الخضوع والتسلّط. بالخضوع يرتاح الإنسان من عبء الحرّية المـُلقى على كتفه، لا يعود يحتاج أن يسعى أن يؤكّد تمايزه وفرادته، أو أن يلتقي بالآخرين متجاوزا التمايز الطبيعي بين البشر. الحرّية متعبة، فهي تُشعر الإنسان بأنّه مختلف عن الآخرين، والاختلاف يُضعضع الشعور بالوحدة ويحفّز الشعور بعدم الأمان. والحرّية متعبة لأنّ الإنسان يخشى أن يخطئ، وهذا يضعه مباشرة أمام حقيقته بأنّه ليس كاملا ولا يستحوذ على الحقّ، أي بأنّه ليس الله. بالخضوع يزوّر الإنسان وجوده ليبقى في الجماعة فيتحوّل إلى شاة في قطيعٍ جاهزٍ للتعصّب والفاشيّة. ويعقلن الإنسان موقفه بأنّه «مطيع» للجماعة، ويغلّف جُبْنَهُ بكلام حول المحبّة، وكم ارتكبت هذه «المحبّة» لصون «الوحدة»، جرائم في التاريخ! وبالتسلّط أيضا يرتاح الإنسان من عبء الحرّية، إذا يمكّنه التسلّط بأن يتوهّم بأنّه يتجاوز تمايز الآخرين عنه، فيحقّق بإلغائهم وحدة وهميّة. المحبّة والحرّية توأمان، لا محال. لا يمكن تحقيق لقاء محبّة إلاّ بالحرّية التي وحدها تسمح للأنا الجميلة الفريدة بتجاوز عزلتها لتلتقي بالآخر الجميل الفريد فيشكّلا معا وحدة لقاءٍ حقيقيّ، يحترم الفرادات، ولا يعزل أحدا. بالطبع، لا يمكن تحقيق اللقاء إلاّ مع من سعى للوحدة وارتضى احترام الحرّية في آن. الحرّية هي البيئة التي تسمح بنشوء اللقاء، أي بنشوء المحبّة؛ ومن هنا شرط المحبّة هو الحرّية. وفي المقابل، شرط صون الحرّية من انغلاقها على نفسها وموتها الروحيّ والنفسيّ هو المحبّة. إذن، الأولويّة ليست للإبقاء على وحدة الجماعة مهما كلّف الأمر، والتضحية بالأشخاص على مذبح وحدةٍ وهميّة تخفي الخلافات ولا تواجهها. هكذا تصرّف "يقتل" الإنسان ويفكّك الوحدة، وسيظهر هذا التفكّك عاجلا أم آجلا عند أوّل أزمة. الجماعة ليست الأولويّة، الأولويّة هي الشهادة للحقّ من أجل الجماعة ومن أجل الذات، أي من أجل الحياة، وهذا يتطلبّ إدارةً للتمايز والخلافات داخل الوحدة، في بيئة الحرّية. بالنسبة للمسيحي يسوع هو الحقّ. وبالتالي، لا يمكن أن يدّعي أحد الاستيلاء على الحقّ، ولكن هذا لا يعفي الناس (وخاصة مَنْ كانوا في موقع المسؤوليّة) من أن يشهدوا لما يرونه حقّا، وأن يقودوا بعضهم البعض إلى الحقّ، وذلك يتمّ بأن يبتكروا طُرقًا لعيش التنوّع في الوحدة، وخاصّة خلال أزماتهم. المهمّ أن تتظهّر الخلافات داخل الجماعة الواحدة وأن يتمّ الحوار بين المختلفين، وإلاّ أين سيتمرّن الإنسان على ممارسة الحرّية والمحبّة، أي على احترام التمايز في الوحدة وعلى مسعى الوحدة في التمايز؟ سيكون خطأ تربويّا كبيرا أن تدعو جماعة بأن لا يتمّ حوار على الخلافات لأنّ الناس ليست ناضجة كفاية. هذا ما يقوله الخائفون، والديكتاتوريّون منهم يفرضون رأيهم على شعوب بأكملها. ألا تطرح المحبّة الخوف خارجا؟ أخشى أنّ الخوف يجمّد المبادرة والابداع. ما قلناه حول المحبّة كوحدة للمتمايزين في بيئة الحرّية، هو رؤيةٌ ضروريّة لكي يحفظ الإنسان نفسه، فردا وجماعة، من الشطط. ولكنّ هذه الرؤية ليست... وسيلةً... لحلِّ المشاكلِ المطروحةِ في عالم اليوم. من الكسل أن نبقى على الرؤية دون مواجهة الملموس والتخطيط للملموس. الخلافات الكبيرة داخل جسم واحد (السياسيّة مثلاً)، لا يقف منها الإنسان أو الجماعة موقف "لا أريد أن أكون طرفا في أيّ تحرُّكٍ ممكن أن يكون خلافيًّا"، بل يعمل على تفعيل الحوار وخلق بيئة تساعد على تقدّم الجماعة ونضوج الأشخاص، واتّخاذ المواقف المنسجمة مع الرؤية. بعدها كلّ إنسان حرّ، وتحترم الجماعة حرّية الشخص والشخص حرّية الجماعة، ولو كلّ منهم يرى الآخر على خطأ، ولكن كما الشخص لا ينبغي برأيي أن يفرض على نفسه الامتناع من اتّخاذ موقف حتّى لا يُقسم الناس، بل كلٌّ يشهد بما بدا له من حقّ ومن شاء أن يسمع فليسمع ومن يغضب فليغضب؛ كذلك الجماعة ينبغي أن تشهد، ومن يترك الجماعة لشهادتها فيتركها بحرّيته. فكلّ موقف يُتَّخّذ على هذه الأرض (مثلاً، الموقف الذي رفض عام 2012 تشكيل هيئة مدنية طائفيّة تمثّل الأرثوذكس) هو بالضرورة موقف غير حياديّ ويقسّم. لا يمكن تقديم أيّة شهادة على هذه الأرض دون أن تكون شهادتك قد قسمت العالم. إن اتّخذت موقفا أنّك مع العدالة الاجتماعيّة لا بدّ أن تقسم و«تجرح مشاعر» لأنّ هناك من يرى أنّ استغلال الناس هو مجرّد سعي «شرعيّ» للربح! رؤية التوازن بين الوحدة والتمايز، بين الجماعة والشخص، توحي وتحفّز وليست أداة حلّ، والمحبّة لا تقتضي النأي بالنفس وإخفاء الانقسامات وتناسي التحدّيات (سياسات فاشيّة، سياسات استغلاليّة، تسلّطـ، إذلال، اعتداء، تحرّش)، بل تقتضي ابتكار أنماط لإدارة التمايز والخلاف؛ واستخدام العلوم المختلفة وسائل لمواجهة التحدّيات. الرؤية ليست بديلا عن الفعل الخلاّق بل ينبغي أن تكون حافزا له. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |