مواجهة إسرائيل كمسؤوليّة إيمانيّة
مجلّة النور، السنة ٦٥، العدد ٥، ٢٠٠٩
"تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يوحنّا 8: 2)
تسعى جمعيّات ومنظّمات عدّة حول العالم إلى مقاومة الاحتلال الاسرائيليّ ومقاومة إسرائيل كدولة تمييز عنصريّ؛ ويلتقي في هذا السعي أناس من اتّجاهات وأفكار ومبادئ مختلفة، من مختلف الدول والأديان والمذاهب الفلسفيّة. وهذا السعي يتمّ بطُرُق النضال اللاعنفيّ، من تحرّكات نقابيّة وطلاّبيّة وشعبيّة وإعلام ومقاطعة أكاديميّة وثقافيّة واقتصاديّة. وما يميّز هذه التحرّكات هي لا مركزيّتها، وتواصلها البسيط حتّى اليوم، بحيث أنّ كلّ مجموعة تعمل في حقلها الخاص مع تنسيق في المدينة أو المقاطعة نفسها؛ وعلى الصعيد العالميّ لا يوجد تنسيق منظّم حتّى الآن.
لكن لماذا يجب على الإنسان المسيحيّ أن يشترك في جهود مقاومة إسرائيل؟ هذا ما سنحاول أن نشير إليه في هذه المقالة، انطلاقاً من الإيمان المسيحيّ.
1. وقائع سريعةلكي نبدأ سنحاول أن نرى سريعاً ما هي الوجوه الكامنة وراء ادّعاءات الدعاية الاسرائيليّة بأنّ إسرائيل دولة ديموقراطيّة، وبأنّها تسعى إلى السلام، وبانّ لها حقّ "إلهيّ" في أرض فلسطين.
1.1 إسرائيل ديموقراطيّة أم عنصريّة؟إنّ الانتخابات في دولة إسرائيل تتمّ بطريقة ديموقراطيّة، بمعنى وحيد ألا وهو أنّ الذين يحقّ لهم الانتخاب يَختارون بحرّية نسبيّة ممثّليهم في البرلمان. ولكن هذه الديموقراطيّة الشكليّة تتواجد مع تضييق واضح ضدّ العرب، تمثّل مؤخّراً بمنع أحزاب عربيّة من خوض الانتخابات[1]، ومع رغبة مُعلَنَة بترحيل الفلسطينيّين، ومع قوانين تمنع تشكيل أيّ حزب يعارض مبدأ إسرائيل كـ"دولة يهوديّة" ممّا دفع البروفيسور إسرائيل شاحاك إلى القول إلى أنّ دولة إسرائيل ليست ديموقراطيّة[2].
ثمّ إنّ واقع وجود إنتخابات لا يمكنه أن يخفي الاحتلال المتواصل منذ 1948، واستمرار احتلال الضفّة الغربيّة وغزّة والجرائم المتواصلة بحقّ السكّان، كما لا يمكنه أن يُخفي داخل أراضي 1948 (أي دولة إسرائيل) واقع التمييز العنصريّ القائم بحقّ الفلسطينيّين (الذين يحتاج البعض ان يتذكّر أنهم بشر مثلهم)؛ ونستطيع أن نذكر بشكل سريع هنا بعض وجوه التمييز العنصريّ في دولة إسرائيل:
· شقّ طرقات لليهود فقط[3]
· حرمان الفلسطينيّين (حاملي الجنسيّة الاسرائيليّة) من حقّ الاجتماع العائليّ بحيث إن تزوّج أحدهم من شريك فلسطينيّ يسكن في الضفّة الغربيّة أو غزّة فلا يحقّ لشريكه أن ينتقل إلى إسرائيل. وهو قانون عُمل به منذ عام 2003 وتمّ تجديده للمرّة الثامنة عام 2008[4].
· حرمان الفلسطينيّين من حقّ شراء أراضٍ، فالأراضي الفلسطينيّة تمّ الاستيلاء عليها وتوزّع على اليهود فقط[5]
· حرمان البلدات الفلسطينيّة في دولة إسرائيل[6] ، كما وفي القدس الشرقيّة[7]، من التمويل اللازم
· التمييز في تمويل المدارس العربيّة في دولة إسرائيل[8]
· التمييز الصحّي ضدّ الفلسطينيّين الساكنين في دولة إسرائيل[9]
· التمييز في حقوق الإنسان المتمثّل بمنع الفلسطينيّين في أيّة بقعة من العالم من العودة إلى مدنهم، مع أنّ هذا حقّ إنسانيّ مشروع[10]، كما ومنع الذين يغادرون القدس من العودة إليها[11]
· التمييز العنصريّ في النظام التعليميّ الذي يغيّب الفلسطينيّين وحقيقة أوضاعهم وتاريخهم في الكتب المدرسيّة، عبر عنصريّة نخبويّة[12] تصوّرهم كمشكلة وعبء وخطر وتهديد[13]
أمّا بالنسبة للفلسطينيّين الساكنين تحت الاحتلال القائم في الضفّة الغربيّة وغزّة منذ عام 1967 (إثر الهجوم الإسرائيليّ وليس العربيّ باعتراف رئيس وزراء دولة إسرائيل[14])، فَهُم يتعرّضون لسياسة التحكّم بتنقّلهم، والتحكّم بطريقة حياتهم، والإذلال والتنكيل وتهديم المنازل، وتجريف الحقول، والقتل، والاعتقال، والعزل بواسطة حائط الفصل العنصريّ الذي أقرّت محكمة العدل الدوليّة بانّه، كما كلّ بناء إسرائيليّ في الضفّة وغزّة والقدس الشرقيّة، غير مشروع[15]. ويتعرّض الفلسطينيّون أيضاً لسياسة قضم متزايد للأراضي، وتسارع للاستعمار (الإسم الحقيقي للـ"إستيطان") الذي تضاعف بعد اتّفاق "السلام"[16]، والذي تفاقم في السنوات الأخيرة بحيث أنّ عدد الأبنية الجديدة في مستعمرات الضفّة الغربيّة في النصف الأوّل من العام 2008 بلغ تقريباً ضعف ما كانه في 2007[17]، كما بدأت الحكومة الصهيونيّة خطّة بناء تهدف إلى مضاعفة عدد المستعمرين الموجودين حاليّاً في الضفّة الغربيّة بهدف "تدمير إمكانيّة الحلّ القائم على دولتين" كما تعبّر منظّمة "السلام الآن" الإسرائيليّة[18]. أمّا غزّة فتتعرّض لحصار قاتل بحيث لا يدخلها من حاجات السكّان إلاّ ما يكفي لمنع حدوث مجاعة، كما صرّح ريتشارد فالك المقرّرُ الخاص للأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة[19]. وبالرغم من الانسحاب من غزّة، والذي تمّ بقصد تجميد عمليّة "السلام" كما يعترف المسؤولون الإسرائيليّون[20]، تبقى غزّة قانوناً تحت الاحتلال، بسبب التحكّم الفعليّ بحدودها وجوّها وأرضها وبحرها وكهربائها ومائها[21]، وبسبب من كون الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تشكّل بالنسبة للأمم المتّحدة وحدة كاملة: الضفّة وغزّة معاً، فطالما بقيت إحدى المنطقتين خاضعة للاحتلال فبحسب الأمم المتّحدة تكون الضفّة وغزّة معاً في حالة احتلال[22].
هذه وقائع، وليست اتّهامات[23]، وهي ما دعت الكثير من الأكاديميّن والناشطين والرسميّين في الأمم المتّحدة ومنهم إسرائيليّن ويهود، إلى التحدّث عن إسرائيل كدولة تمييز عنصريّ[24].
1.2 إسرائيل تسعى إلى السلام أم إلى الهيمنة؟إنّ الوقائع حول التدمير المنهجيّ في عمليّة "السلام" وتسارع عمليّة قضم الأراضي والاستعمار، واستمرار الاحتلال، تدلّ بشكل واضح أنّ الحكومات الإسرائيليّة متّفقة، يساراً ويميناً، أن تستمرّ بالاحتلال وأن تقضم ما أمكن من الأراضي، وأن تُبقي السكّان الفلسطينيّين في معازل (أراضي معزولة مقطّعَة الأوصال) كما كانت الحال في جنوب أفريقيا تحت نير التمييز العنصريّ. وبالتالي فإنّ مسعى إسرائيل ليس إلى السلام، بل إلى الهيمنة. ومن هنا الدعوات إلى المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة لإسرائيل من أجل عزلها ودفع النظام العنصريّ إلى السقوط ليتأسّس مكانه نظام يتساوى فيه الإنسان بالإنسان الآخر، فيعيش الإنسان الفلسطينيّ حقوقه كاملةً، ومنها حقّ الحرّية والعودة والتنقّل والسكن، إلخ. لا شيء يمنع من أن يعيش كلّ الناس في سلام في فلسطين كلّها، مهما تكن ديانتهم أو طوائفهم، في ظلّ دولة واحدة. هذا ما يحدث في عدّة بلدان، حيث يعيش المسيحيّون والمسلمون واليهود، أيّاً تكن بلادهم الأصليّة، دون صدام، في ظلّ حماية دولة تحترم حقوق الإنسان. دولة واحدة لأناسٍ متساوين، هذا هو الحلّ العادل.
1.3 هل لإسرائيل حقّ إلهيّ في أرض فلسطين لأنّها "أرض الميعاد" الإلهيّ "للشعب المختار"؟كان من المفترض من الشعب اليهودي أن يكون "شعب الله" بأن يعمل لتحقيق مقاصده، وهذه المقاصد هي المحبّة والحياة، كما نعرف بيسوع؛ هذا هو معنى "الاختيار"، فالاختيار ليس امتيازاً أعطاه الله لشعب، وإنّما مسؤوليّة دعوة الناس لعبادة إله واحد، إله حبّ وحياة. إنّ وجود دولة إسرائيل، كدولة لليهود فقط، يعني استعمال الله في خدمة مصالح هذا الشعب، وهذا يعني قلب مفهوم الشعب المختار ليحلّ محلّه مفهوم "الإله" المُختار، فالصهيونيّة تختار اسم "الله" كصنم حرب تستعمله لتحقيق مقاصدها، مقاصد السؤدد والتسلّط. تأسيس الصهيونيّة لدولة إسرائيل هو نتيجة الانغلاق العنصريّ،نتيجة كفر عمليّ بالله وتعبّد لصنم الذات الجماعيّة.
أمّا بالنسبة للمسيحيّين فقد تحقّقت الرسالة التي أراد لها الله أن تتحقّق بواسطة شعب العهد القديم، تحقّقت بيسوع المسيح، ماسّيا، فهو الذي حقّق وعد الله بتحقيق الأخوّة البشرية، في كنف أبوّة الله، انطلاقًا من الشعب اليهودي الذي أتى يسوع جسديّاً منه. وبالتالي لم يعد من ضرورة لاستمرار الرسالة اليهوديّة، من وجهة نظر ميسحيّة، فشعب الله الجديد هو الكنيسة العاملة على توحيد البشر كإخوة، وأرض الميعاد الجديدة هي العالم كلّه كعائلة واحدة لله[25]. الوعد الإلهيّ ليس وعداً بأرض، إنّه وعد الله بتحرير البشر وسكناه معهم، وهذا ما حقّقه المسيح بفتح طريق التألّه بالروح القدس.
2. مسؤوليّة حماية إخوة يسوع الصغارإنّ المسيحيّين، مهما كان عددهم، ومهما تكن التحدّيات أمامهم، لا يمكنهم أن يكونوا مسيحيّين دون المسيح، ولهذا فإنّ العلاقة به هي أساس مسيحيّتهم؛ فالهويّة المسيحيّة للإنسان تتحقّق بالفعل عندما يسير في خطّ التوحّد بالمسيح. كلّ ما عدا ذلك هو مسيحيّة إسميّة تخون المسيح.
لكن إلى ماذا دعانا المسيح؟ وكيف أبلغنا أنّه يمكننا أن نكون معه واحداً؟
إنّ سرّ الشكر (القدّاس الإلهيّ) هو المكان المميّز للتوحّد بالمسيح. فبتناول جسد ودم المسيح نتّحد بشخصه (الجسد رمز الشخص) و تتدفّق فينا حياته (الدم رمز الحياة). لكنّ سرّ الشكر، ككلّ الأسرار، لا يفعل سحريّاً في الإنسان. نحن لسنا في مجال السحر بل في مجال السرّ، أي مجال إطلالة الله إلى الإنسان من خلال مواد الطبيعة، لكنّها إطلالة إن لم يلاقِها الإنسان بإطلالة منه، فيتحرّك إليها ويستقبلها ثمّ يتحرّك بها في العالم عاملاً مع الله، بحسب مبدأ التناغم (synergy) بين الله والإنسان، فإنّ إطلالة الله (أي حضوره) تبقى غير فاعلة في الإنسان. لهذا فإنّ الاتّحاد بالمسيح في سرّ الشكر يبقى مُعَطَّلاً إلاّ إذا تحرّك الإنسان نتيجة سرّ الشكر ليتمّم "سرّ الأخ"، أي سرّ خدمة الناس. فماذا قال المسيح إذاً عن سرّ الأخ؟
"كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه"، هذه مسؤوليّة المسيحيّين الشخصيّة والجماعيّة، أمام وجوه الموجوعين والمظلومين: هل يتحرّك المسيحيّون للتوحّد بالمسيح من خلال رفع الظلم والعزلة والألم أمْ لا؟ المسيح في كلمته هذه يؤكّد على أهمّية ما يُدعى عامَّةً "فعل الخير". ولكنّه يحمّل جملته كشفاً هائلاً أنّه هو وإخوته "الصغار" واحد، أنّ الله موجود في وجوه المستضعَفين المقهورين، والمتألمّين، والعطاش، والجياع، والمرضى، والمسجونين. ويتابع المسيح بتصريح أكثر جذريّةً "كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه" وهنا يتجاوز المسيح تحميل المسيحيّين مسؤوليّة السير في خطّ التوحّد به بتوحّدهم بالموجوعين، ليقول أنّ عدم فعل الشرّ لا يكفي، ليقول أنّ الانسحاب أمام الظلم ليس أمراً حيادِيّاً، ليس "عدم" فعل، ليقول أنّ الانسحاب أمام الظلم فعلُ ابتعادٍ عن الحقّ، عن المسيح، فِعْلُ تَخَلٍّ عنه في وجوه المسحوقين. إنّ حماية الصغار كما حمّلنا إياها المسيح هي مسؤوليّة إيمانيّة لا يمكن الانسحاب منها إلاّ بالانسحاب من خطّ التوحّد بالمسيح نفسه، وبالتالي من خطّ التوحّد بالله نفسه.
الناس الأكثر اضطهاداً والأكثر مصلوبيّةً أمام أعيننا، وفي منطقتنا، هم الفلسطينيّون. الصدفة التاريخيّة شاءت أنّ هؤلاء الناس الذين عاشوا في أرض فلسطين، هم الذين قُتِلوا هُجِّروا وتشرّدوا ولم يعد لهم "مِنْ مكانٍ يسندون إليه رؤوسهم"، مثلهم مثل يسوع. لا يمكن أن يُمحى هذا الواقع فقط لأنّ هناك جريمة أو جرائم ارتكبها إناسٌ فلسطينيّون، فلدى كلّ شعب الكثير من الناس الذين ارتكبوا الكثير من الجرائم والمجازر. وبالتالي فإنّ إعطاء أيّ سبب، للحكم على شعب بأكمله، أو للانسحاب من الدفاع عن شعب بأكمله، لا يجوز؛ إذ أنّه لا يعدو كونه تبريراً لموقف حاقدٍ مُسْبَق، ولا يعدو كونه تركٌ للمسيح وابتعاد عن الحقّ، الحقّ الذي هو وجه المسيح، وبالتالي وجوه الفلسطينيّين أيضاً.
ألا يوجد لدينا غير قضيّة الفلسطينيّين؟ طبعاً يوجد، ولكن تغييب الفلسطينيّين عن خارطة المظلومين في قلوبنا، خَطِرٌ روحيّاً، لأنّه يخفي موقفاً حاقداً أو طائفيّاً، ولأنّ روحيّاً لا أولويّات في الحبّ؛ مَنْ يحبّ يحبّ، ولا يبخل بحبّه على البعض، ويحصره بالبعض الآخر. وجه المسيح هُوَ هُوَ في كلّ المظلومين. بالإضافة إلى ذلك، فإنّه من البديهيّ أنّ كلّ حالات الظلم الموجودة في مجتمعنا يعيشها الفلسطينيّون مضاعفةً بسبب تشريدهم وحالة اللامكان واللاأمان[26]، التي يعيشون فيها. وبالتالي فمادّياً ووجدانيّاً ظُلْمُهم مُضاعَفٌ. السعي إلى إحقاق العدل للفلسطينيّين هو مسؤوليّة روحيّة تجاه الله وتجاه أنفُسِنا.
3. مسؤوليّة تحقيق الملكوت وتثبيت أطر المحبّةإنّ مقاومة إسرائيل هي أيضاً ضرورة روحيّة مسيحيّة بسبب من البعدِ الأخرويّ لوصيّة العناية بالإخوة "الصغار"، ألا وهو رسمُ أُطرٍ لتجسيدِ ملكوت الحرّية، ملكوت الروح. هذا ما نفهمه من دعوة المسيح للآب "لا أطلب منك أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرّير"، "أنتم في العالم ولكنّكم لستم من العالم"؛ فـ"ما بالُكُم واقِفينَ تَنظُرونَ إلى السَّماءِ" (أعمال 1: 11)، أنظروا إلى الأرض فناسها يحتاجون إليكم[27]، وأنا فيهم، إنّ وجودكم في العالم هو لأجل إتمام عملي، إتمام الساعة التي "تأتي وهي الآن حاضرة"، "فاذهبوا وبشّروا كلّ الأمم" أنّ ملكوت المحبّة مفتوح منذ أسلَمْتُ الروحَ فقُمتُ على الصليب، وأعلنتُ قيامتي في اليوم الثالث. وهذا يعني يا أحبّائيّ أن تغيّروا هذا العالم ليصير "أرضاً جديدةً وسماءً جديدة" أو تمتمةً لهما، على أن يكتمل التجديد في اليوم الأخير. لهذا يا أحبّائي قاوموا الظلم، بلا تمييز، أينما رأيتموه في وجهٍ موجوعٍ، فكّل وجوه الناس وجهي، "كلّ وجوه الناس جنسيّتي"[28] فلا أحتاج جنسيّاتكم، ولا جوازات سفركم، ولا جوازات طوائفكم. لا تحبسوني بطوائفكم، ولا بأوطانكم، فأنا ساكن وجوهٍ وعابرُها بآن.
لكن بالإضافة إلى مسؤوليّة تحقيق الملكوت فإنّ هناك مسؤوليّة أساس في كلّ إيمان توحيديّ، ألا وهي مسؤوليّة عبادة الله الواحد، إلهاً فوق كلّ المخلوقات. إنّ الاحتلال الصهيونيّ لأرض فلسطين، وتنكيل دولة الاحتلال المستمرّ بالفلسطينيّين، قد وضع الإنسان اليهوديّ، كما والإنسان العربيّ، أمام تجارب إيمانيّة خطرة تتلخّص بخيانة الله والانزلاق إلى عبادة الأصنام.
4. مسؤوليّة عبادة الإله الواحد4.1 الصهيونيّة والفكر القوميّلقد رأت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة أنّ الصهيونيّة هي "شكل من أشكال العنصريّة" عام 1975[29] (قبل أن تعود للأسف عن هذا القرار في التسعينات إثر محادثات "السلام"). في بدايةِ الصهيونيّة كان المتديّنون اليهود يرفضونها على أساس دينيّ (قلّة قليلة تفعل ذلك حاليّاً) لاعتقادهم بأنّ ماسّيا (المسيح) المنتظر هو وحده له أن يقيم دولة لليهود؛ ولكن ما مهّد لتنامي الصهيونيّة هو تنامي اللاساميّة العلمانيّة في أوروبا إثر انتشار القوميّة[30]، وتلقّت دعمها النهائيّ إثر مذابح النظام النازيّ بحقّ اليهود (وغيرهم).
الصهيونيّة هي إبنة الفكر القوميّ المنغلق. الفكر القوميّ هو فكر جديد نسبيّاً في تاريخ البشريّة، فقد انتشر في أوروبا القرن الثامن عشر، كفكر تقدّميّ يحاول أن يجمع الناس تحت عنوان آخر غير الملك، عنوان تحريريّ يذهب بولاية ملكٍ مطلقِ الصلاحية، وصاحب "حقّ إلهيّ" ابتدعته الكنيسة الرسميّة في أوروبا. لكنّ الفكر القوميّ الأوروبيّ تدهور إلى فكرةٍ تجمع قوماً في عداءٍ لقوم "آخرين"، وهكذا أنتج الفكر القوميّ، وليس الدِيْن، حربَيْن عالميتَيْن. الصهيونيّة أتت بجذورها من القوميّة المنغلقة على ذاتها، أي من العنصريّة. والعنصريّة ليست أمراً محصوراً بدين أو بفكرة (كالقوميّة) بل هي وضع روحيّ عابرٌ للدين وللفكر العلمانيّ على السواء؛ ففي العمق العنصريّة هي وليدةُ حركةِ انغلاقِ الإنسان على أخيه الإنسان، أي في النهاية وليدةُ الخطيئة الأصليّة التي ستبقى تجربة إنسانيّة لا يمكن محوها بتغيير اجتماعيّ أو آخر.
4.2 تجربة اليهود: أصنام الذات الجماعيّة، الدولة، والسؤددصنم الذات الجماعيّةإنّ التجربة الأولى للمؤمن اليهوديّ، كما لغير المؤمن الذي يرى نفسه "يهوديّاً" بالوراثة، هو التمسّك بحقّ له كـ"شعب مختار" بمعنى فوقيّ للعبارة، على أرض فلسطين كـ"أرض موعودة"، أي كملكيّة خاصّة.
من المريع أنّ معظم المجتمع الإسرائيليّ دَعَمَ مذبحة غزّة الأخيرة[31]، ودعموا بالتالي معنويّاً ما ارتُكِبَ فيها من مجازر؛ بالرغم من الأصوات اليهوديّة الشجاعة والتي كانت تتجاوب مع أفضل ما في التراث اليهوديّ، والتي بقيت معارضةً للحرب وللتمييز العنصريّ[32]. وحتّى في أوقات اللاحرب، ترى إسرائيل-الدولة في فلسطينيّي غزّة والضفّة مصدرَ سوقَ عمالةٍ بخسة الثمن، بسبب الفقر الذي لم يأتِ نتيجة تنمية متدنّية (under development) بل نتيجة سياسة إسرائيليّة مقصودة لتدمير التنمية (deliberate de-development) كما يعبّر البروفيسور في العلاقات الدوليّة أفي شلايم[33]. وهذا ما يعبّر عن تدهور رؤية الإنسان ليرى الآخرين أقلّ إنسانيّة منه، وهذا هو لبّ العنصريّة: أن يكون "الغريب" عن العنصر (اللون أو الدين أو الطائفة أو الوطن) أقلّ إنسانيّة. إنّ العنصريّة إجراميّة بالكمون، بالإمكانيّة (potentially)، وهي إجراميّة بالفعل في الحالة الإسرائيليّة التي نحن الآن بصددها[34]، ومن ناحية روحيّة هي كُفْرٌ بإله تلك الوصايا الموجودة في العهد القديم التي تجعل من معاملة الغريب أساساً إيمانيّاً، فالعهد القديم يورد على لسان الله أن "لا تَظلِمِ الغريـبَ ولا تُضَايِقْهُ، فأنتُم كُنتُم غُرَباءَ في أرضِ مِصْرَ"(خروج 22: 20)، و"ليَكنْ عِندَكُمُ الغريـبُ النَّزيلُ فيما بَينكُم كالأصيلِ مِنكُم. أحِبُّوه مِثلما تُحبُّونَ أنفسَكُم لأنَّكُم كُنتُم غُرَباءَ في أرضِ مِصْرَ" (لاويين 19: 34)، "فأحِبُّوا الغريـبَ لأنَّكم كُنتُم غُرباءَ في أرضِ مِصْرَ"(تثنية 10: 19).
إنّ في العنصريّة الصهيونيّة عودةٌ لما ندّد به حزقيال حينما هاجم أهل أورشليم لأنّهم "يُعامِلونَ الغريـبَ بالظُّلمِ، ويضطهدونَ اليتيمَ والأرملةَ" و"حتّى وجهاءُ الشَّعبِ يغتصبونَ المِسكينَ ويَسرقونَهُ ويستغلونَ البائسَ ويُعامِلونَ الغريـبَ بغَيرِ حَقٍّ"(حزقيال 22: 7 و 29). أمّا الحصار القاتل المفروض على غزّة، وسياسة تدمير التنمية، فهما بمثابة بَصْقَةٍ على الآية التالية من التراث اليهوديّ "قلّة من الطعام هي حياة الفقراء، من يحـرمهم منها يـرتكب اغتيالاً، إنّه قـاتل قريبه ذاك الذي ينتزع منه قوته، إنه يهرق الدم من يحرم الأجير حقّه" (حكمة يشوع بن سيراخ 34: 20-22).
إنّ دولة إسرائيل العنصريّة تسعى عمليّاً (رغم كلّ الدعوات الكلاميّة إلى السلام) إلى استعباد الفلسطينيّين بشكل غير مباشر عن طريق استعمالهم كخزّان يد عاملة بخسة الثمن، وفرض وضعهم كبشر دون اليهود حقوقاً، وبالتالي إنسانيّة. هذه العنصريّة، التي بيّنّا بعض وجوهها، هي في العمق دعوة لعبادة صنمٍ، صنمِ الذات الجماعيّة.
صنم الدولة والسؤددإنّ المؤمنين بإسرائيل بلداً مرفوعاً على جثث الفلسطينيّين وأنقاض قراهم، يعبدون في الحقيقة دولة إسرائيل، كرمز للذات الجماعيّة العنصريّة، كبعلٍ جديد، تصرّفهم استعادة لتجربة عبادة العجل عند الخروج من مصر، لأنّ عنصريّتهم تعبّر عمليّاً عن ترك الله وعبادة عجل مصنوع ليس من ذهب، ولكن من أفكار وقوانين ومؤسّسات وعسكر. وهذا ما صرّح به البروفيسور إسرائيل شاحاك قائلاً عن الصهيونيّين "إنّهم مع ذلك متديّنون، ولكنْ إلههم إنّما هو الأمّة اليهوديّة"[35]. وهذا ما عناه كوستي بندلي عندما قال أنّ الصهيونيّة بعثٌ للانحراف اليهوديّ القديم "إذ تحوّل هي أيضًا الشعب اليهودي من شعب يستمدّ كيانه من الله مبرّر وجوده... إلى "أمّة" تسخّر الله لتفرض ذاتها في حلبة الصراع بين الأمم، على المصالح والهيمنة"[36]. إنّ اللهاث الإسرائيليّ المتسارع من حرب إلى حرب، لا يبرّره إطلاقاً "عدائيّة" مُفْتَرَضَةٍ للعرب تجاه اليهود، بل يمكن ان يُفهم من منظار نزعة الصهيونيّة، كتيّار عنصريّ، إلى رؤية البشر "الغرباء" وسائل عيش، ووسائل سؤدد. إنّ في ذلك انزلاق متواصل ومتسارع إلى توظيف كلّ شيء، ختّى الناس المنتمين إلى اليهوديّة، من أجل الدولة-الإله، من أجل رمز الذات الجماعيّة.
إنّ القبول بوجود إسرائيل كدولةِ جريمةٍ مرئيّةٍ ومتواصلةٍ، كما هي اليوم، هو عمليّاً عودة إلى عبادة الأصنام: صنم الذات الجماعيّة (رمزها الدولة الاستعماريّة)، وتوأمه صنم السؤدد-التسلّط.
4.3 تجربة العرب: أصنام الذات الجماعيّة والتسلّطمن جهة العرب فإنّ الظلم الفادح اللاحق بالفلسطينيّين، متغذّياً بالظُلمَيْن السياسيّ والاقتصاديّ الذي يرزحون تحته، فقد يدفعهم إلى التدهور نحو العنصريّة، وذلك بسبب الالتباس الذي أنشأه وجود دولة إسرائيل بين الانتساب إلى دولة مُغتَصِبَة للحقوق، إستعماريّة، وقامعة، وإجراميّة، وبين الانتماء إلى الدين اليهوديّ. وهذا ما نسمعه أحياناً حين يختلط في حديث البعض كلمة إسرائيليّ وكلمة يهوديّ، والإثنان في الحقيقة ليسا واحداً. إنّ رفض الظلم الإسرائيليّ يجعل البعض يرفض اليهود بدون تمييز بين إسرائيل كدولة (غير مشروعة أخلاقيّاً ولو هي شرعيّة في الأمم المتّحدة) وبين أناس ينتمون إلى دينٍ معيّن. ولا شكّ أنّ هذا التمييز صعب لأنّ إسرائيل نفسها تعرّف عن ذاتها كدولة يهوديّة، وتسعى، بشكل واضح وجليّ مؤخّراً، إلى جعل الدولة الإسرائيليّة دولة صفاء دينيّ بترحيل كلّ فلسطينيّ منها[37] (وهو ما حاوله تاريخيّاً منظّمو مجازر 1948[38]). ولكن وإنْ كان من الصعب لأوّل وهلة التمييز بين الإسرائيليّ الصهيونيّ وبين اليهوديّ، كما وبين اليهود الساكنين في فلسطين المُحتلّة والمعارضين للنظام القمعيّ والعنصريّ(ولو هم قلّة)، وبين مَنْ هم ساكنين فيها وداعمين لذاك النظام، فإنّه يبقى من الضروريّ إيمانيّاً وأخلاقيّاً أن نتنبّه إلى ضرورة إقامة هذا التمييز، وذلك كي لا نقع في العنصريّة ذاتها. إنّنا كعرب، وبسبب جرائم دولة إسرائيل المتواصلة، مهدَّدون بسمّ الحقد، وبالتالي بالجنوح نحو العنصريّة، أي نحو صنم الذات الجماعيّة.
ومن جهة أُخرى فإنّ الطموح المشروع إلى إزالة دولة إسرائيل كدولة تمييز عنصريّ - وليس إزالة اليهود كبشر- قد يدفع الناس إلى التمسّك بالعَسْكَرة ومظاهر القوّة والسلطة، من أجل ذاتها، أي كغاية وليس كوسيلة؛ فنصير مُهّدَّدين بالجنوح إلى التسلّط من حيث لا ندري، ومُهّدَّدين بالتالي بالانحناء أمام صنم الذات الجماعيّة (القوميّة أو الدينيّة) وصنم التسلّط المرافق له؛ فنقع في نفس الخطيئة الروحيّة التي تهدّد اليهود المنحنين أمام "دولة إسرائيل" بعلاً جديداً، والمقدّمين "الأضاحي" البشريّة أمام صنم السؤدد-التسلّط منذ احتلالهم فلسطين.
ولهذا فإن كانت المقاومة لدولة إسرائيل، ككيان إجراميّ، ضروريّة، وواجب إيمانيّ من أجل حماية "إخوة يسوع الصغار"، فإنّ أيّة مقاومة لا بدّ لها أن ترتبط بأقصى درجات الحيطة الروحيّة، والإعلام المتنوّر، لتفادي جنوح محرِّري الغد إلى قامعيّ بعد غد؛ وإلى تسميم الحياة الروحيّة للجميع، اليوم. وفي هذا الإطار للمسيحيّين العرب دور أساس مع المسلمين في الإضائة إلى هذا الخطر الروحيّ الذي يتهدّد الجميع، والذي ينبغي على الجميع السعي إلى تجنّبه دون التخلّي عن مقاومة مشروعَ إسرائيل، ومقاومة مشروع أيّ فكر عنصريّ آخر.
5. خاتمةإنّ مسؤوليّة البشارة المسيحيّة، وعبادة الإله الواحد، تدفعنا إلى مواجهة إسرائيل من منظار كونها دولة قائمة على الجريمة والظلم، دولةٌ يشكّل نظامها العنصريّ انزلاقاً لليهود إلى عبادة صنم الذات الجماعيّة (الدولة العنصريّة) وصنم السؤدد-التسلّط، كما يشكّل دعوةً مفتوحةً في المنطقة إلى عبادة تلك الأصنام.
أمّا الفلسطينيّون وبقيّة العرب فمهدّدون، بفعل الجرائم الاسرائيليّة المتواصلة، وبفعل معاناتهم في ظلّ أوضاع لا تتوافق مع حريّة الإنسان وكرامته، بالانزلاق إلى العنصريّة (القوميّة والدينيّة) المنغلقة، وبالتالي إلى عبادة صنم الذات الجماعيّة وصنم التسلّط.
مواجهة إسرائيل تعني تحمّل مسؤوليّة الإيمان المسيحيّ الذي يتمحور حول المسيح الذي وحّد نفسه بالمستضعفين، والعودة إلى مزاوجة سرّ الشكر وسرّ الأخ، الذي أشار إليه يوحنّا الذهبيّ الفم، كما والسعي لإقامة العدل إنطلاقاً من مقتضيات المحبّة. وهذا يقتضي مقاومة الصهيونيّة كتيّار وثنيّ يتّخذ غطاءَ الإيمان الإبراهيميّ، تيّارٍ يدعو باسم الله فيما يعبد القوميّة والتسلّط.
مواجهة إسرائيل تقتضي أيضاً مقاومةٌ روحيّةٌ لتجربة الصنميّة الكامنة خلف الصهيونيّة والتي تهدّدنا كلّنا، وذلك حتّى لا ينتصر فينا، تحت مُسَمّى آخر، الفكرُ الكامنُ وراءَ الصهيونيّةِ، فكر الخطيئة الأصليّة، خطيئة وضع الذات - الفرديّة أو الجماعيّة - مكان الله، وبالتالي تهديم الأخوّة البشريّة. ينبغي لكلّ مقاومة أن تشدّد على رؤية الإنسان، كلّ إنسان، ابنة أو ابنا لله في عائلته الواحدة القائمة على أبوّته الشاملة، وعلى المساواة في الكرامة الإنسانيّة، وإلاّ فلن تنتصر سوى قهقهة الشيطان خلف أيّ انتصار بشريّ.
أمام إسرائيل لا يجوز الانسحاب وإنّما المقاومة، وهي مقاومةٌ ينبغي أن تواجه بدون هوادة بُنى الظلم والموت، إنطلاقاً من المسؤوليّة الإيمانيّة التي تفترضها عبادة الله، إله الحياة؛ وأن تتسلّح أيضاً بأقصى درجات الصرامة الروحيّة لكي لا تنجرف إلى عبادة الأصنام؛ إنّها مقاومة تأخذ محمل الجدّ قول المسيح أنّه جاء "لتكون لكم الحياة وتكون أوفر" (يوحنّا 10: 10)، وأنّ "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنتَ الإله الحقيقيّ وحدكويعرفوا الذي أرْسَلْتَهُ يسوع المسيح" (يوحنا 17: 3)، رافضين كلّ صنمٍ[39].
خريستو المرّ
[1] Shahar Ilan and Roni Singer-Heruti, “Israel bans Arab parties from running in upcoming elections”, Haaretz, Jan 13, 2009
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1054867.html
[2] Israe lshahak, “Jewish History, Jewish Religion: The Weight of Three Thousand Years”, Pluto Press, 2008, p. 3
[3] B’Tselem, “Forbidden Roads: The Discriminatory West Bank Road Regime”, August 2004
http://www.btselem.org/English/Publications/Summaries/200408_Forbidden_Roads.asp[4] Ilan Pappe, “Citizenship law makes Israel an apartheid state”, June 30, 2008
http://ilanpappe.com/?p=75
[5] راجع المقال التالي على موقع التالي للمجموعة اليهوديّة المناهضة للصهيونيّة: "ليس باسمنا" (Not In Our Name)
Ismail Zayid, “The Jewish National Fund: A Colonial Racist Instrument”, Not in Our Name, accessed March 29, 2009
http://www.nion.ca/jnf-forum-zayid.htm
راجع أيضاً التقرير التالي:
عدالة، المركز القانونيّ الحقوقيّ لحقوق الأقلّية العربيّة في إسرائيل (تمّت الوصول إلى الموقع في: 29 آذار 2009)
http://www.adalah.org/eng/jnf.php#background
[6] Yair Ettinger, “Arab communities verging on 'catastrophe', leaders warn”, Haaretz, Dec. 3, 2003
http://www.haaretz.com/hasen/pages/ShArt.jhtml?itemNo=368070
[7] Philippe Rekacewicz et Dominique Vidal, “Comment Israël confisque Jérusalem-Est”, Le Monde Diplomatique, Fev. 2007
http://www.monde-diplomatique.fr/2007/02/REKACEWICZ/14411
راجع المقال بالإنكليزيّة:
Philippe Rekacewicz, “The Politics of Urban Planning”, Zmag, Feb. 19, 2007
http://www.zmag.org/znet/viewArticle/2007
[8] Human Rights Watch, “SECOND CLASS, Discrimination Against Palestinian Arab Children in Israel's Schools”, 2001,
http://www.hrw.org/legacy/reports/2001/israel2/ISRAEL0901-01.htm
http://www.hrw.org/legacy/reports/2001/israel2/index.htm#TopOfPage
[9] تمييـز في الصحـة، "الوضع الصحـي لدى الأقلية الفلسطينية العربيـة في إسرائيل"، المؤسّسة العربيّة لحقوق الإنسان، 25 شباط 2009
http://arabhra.org/HRA/SecondaryArticles/SecondaryArticlePage.aspx?SecondaryArticle=1741
[10] UN Commission for Human Rights “Geneva Convention relative to the Protection of Civilian Persons in Time of War”, 12 August 1949
http://www.unhchr.ch/html/menu3/b/92.htm
[11] راجع التقرير التالي الذي يذكر مثلاً حالة القياديّ الفلسطينيّ الطبيب مصطفى البرغوتي
CBS News Video, “Is Peace Out of Reach”
http://www.cbsnews.com/video/watch/?id=4752349n[12] Peled-Elhanan, N., “The Establishment of Israeli Identity through Racist Discourse”, The International Journal of Diversity in Organizations, Comumnities and Nations, 2008. 7(6).
[13] Peled-Elhanan, N., “The denial of Palestinian National and Territorial Identity in Israeli Schoolbooks of History and Geography 1996-2003”, in Analysing Identities in Discourse, R.D.J. Todolí, Editor. 2008, John Benjamin Publishers: Amsterdam ; Philadelphia
[14] "Excerpts from Begin Speech at National Defense College" New York Times, Aug. 21, 1982
مرجع مذكور عند:
Stephen Shalom, “Question and Answer on Gaza”, January 16, 2009http://www.zcommunications.org/znet/viewArticle/20269
[15] راجع وثيقة محكمة العدل الدوليّة والأمم المتّحدة بالعربيّة:
محكمة العدل الدولية، "الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة"، 13 تمّوز 2004
http://www.icj-cij.org/homepage/ar/advisory/advisory_2004-07-09.pdf
راجع أيضاً كامل الملفّ والوثائق بالإنكليزيّة في الموقع التالي على الإنترنت(زيارة الموقع تمّت في 28 آذار 2008):
http://www.icj-cij.org/docket/index.php?p1=3&p2=4&code=mwp&case=131&k=5a
BBC, “Un Rules against israeli barrier”, July 9, 2004
http://news.bbc.co.uk/1/hi/world/middle_east/3879057.stm
[16] Lara Friedman and Ori Nir, “Settlements in Focus Interview with Hagit Ofran”, Peace Now, August 2007
http://www.peacenow.org.il/site/en/peace.asp?pi=62&docid=2462
راجع أيضاً:
Amos Harel, “Peace Now report: Settlements build on just 9 percent of state-allocated land”, Haaretz, July 07, 2007
http://www.haaretz.com/hasen/spages/878925.html
[17] Peace Now, “Middle East Peace Reports”, September 2, 2008, Vol. 10, Issue 1
http://www.peacenow.org/mepr.asp?rid=&cid=5290
[18] Sara Miller, “Peace Now: Israel planning 73,300 new homes in West Bank”, Haaretz, March 02, 2009
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1068033.html[19] Richard Falk, “Gaza: Silence is not an option”, UN Press Release, Dec 09, 2008
http://domino.un.org/unispal.nsf/3822b5e39951876a85256b6e0058a478/31dd18391da1e61e8525751a004f5006!OpenDocument
[20] Ari Shavit, The big freeze, Haaretz, Oct 10 2004
http://www.haaretz.com/hasen/pages/ShArt.jhtml?itemNo=485929
[21] Human Rights Watch, “Q & A on Hostilities between Israel and Hamas”, December 31, 2008
http://www.hrw.org/en/news/2008/12/31/q-hostilities-between-israel-and-hamas[22] Amy Goodman, “A Debate on Israel’s Invasion of Gaza: UNRWA’s Christopher Gunness v. Israel Project’s Meagan Buren”, Democracy Now, 2009-01-05
[23] لقراءة تفنيدٍ للدعاية الصهيونيّة أثناء العدوان على غزّة كانون الأوّل 2008-كانون الثاني 2009 راجع:
خريستو المرّ،"دعاية مذبحة: الدعاية الإسرائيليّة أثناء مذبحة غزّة"، مجلّة الآداب، عدد 4-6، 2009[24] المرجع السابق
[25] كوستي بندلي، "إسرائيل بين الدعوة والرفض"، منشورات النور 1985، ص. 71-73
[26] في إحدى أغاني فيروز جملة معبّرة تقول "عندي بيت وأرض صغيرة فأنا الآن يسكنني الأمان"
[27] يعلّق الفيلسوف إيمانويل مونييه على هذه الآية قائلاً "إنّ الذي ذهب سوف يعود. إنّ مهمّتكم هي عند أقدامكم". راجع:
كوستي بندلي، "إله الإلحاد المُعاصر"، منشورات النور، بيروت، 1968، ص. 85
[28] هنا أتصرّف بجملة شعريّة لمحمود درويش، "كلّ قلوب الناس جنسيّتي" من قصيدة "جواز السفر"
محمود درويش، ديوان "حبيبتي تنهض من نومها"(1970)،الأعمال الأولى 1، رياض الريّس للكتب والنشر، 2005، ص. 371
[29] وقد ذكّرت الأمم المتّحدة، في القرار نفسه، بعلاقات الصهيونيّة بنظام الفصل العنصريّ القائم آنذاك في جنوب أفريقيا
United Nation, General Assembly, 30th session, Resolution No 3379, Nov. 10, 1975
http://daccessdds.un.org/doc/RESOLUTION/GEN/NR0/000/92/IMG/NR000092.pdf?OpenElement[30] وليد الخالديّ،"الصهيونيّة في مئة عام"، دار النهار، ط. 2، 2002، ص. 11-15
[31] Yossi Verter, “Poll: Most Israelis support continuing Gaza military op”, Haaretz, Jan 01, 2009
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1051852.html[32] خريستو المرّ، "دعاية مذبحة..."... مرجع مذكور
[33] Avi Shlaim, “How Israel brought Gaza to the brink of humanitarian catastrophe”, Guardian, 7 January 2009.
http://www.guardian.co.uk/world/2009/jan/07/gaza-israel-palestine[34] ينطبق هذا على العنصريّة في أيّ مكان ومنها العنصريّة المتفشّية في لبنان
[35] Pârequette Villeneuve, “Propos du Professeur Israel Shahak”, Témoignage Chrétien, Paris, No 1362, 13 Août 1970, pp. 9-10
مذكور عند:
كوستي بندلي، "إسرائيل بين الدعوة والرفض"، منشورات النور 1985، ص. 79[36] كوستي بندلي، "إسرائيل بين الدعوة والرفض"، منشورات النور 1985، ص. 78
[37] Haaretz Service and News Agencies, “Livni: National aspirations of Israel's Arabs can be met by Palestinian homeland”, Dec 11, 2008
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1045787.html[38] Ilan Pappe, “The Ethnic Cleansing of Palestine,” One World Oxford , 2007
[39] "يا أحبّائي، إهربوا من عبادة الأصنام" (1 كور 10: 14)
تسعى جمعيّات ومنظّمات عدّة حول العالم إلى مقاومة الاحتلال الاسرائيليّ ومقاومة إسرائيل كدولة تمييز عنصريّ؛ ويلتقي في هذا السعي أناس من اتّجاهات وأفكار ومبادئ مختلفة، من مختلف الدول والأديان والمذاهب الفلسفيّة. وهذا السعي يتمّ بطُرُق النضال اللاعنفيّ، من تحرّكات نقابيّة وطلاّبيّة وشعبيّة وإعلام ومقاطعة أكاديميّة وثقافيّة واقتصاديّة. وما يميّز هذه التحرّكات هي لا مركزيّتها، وتواصلها البسيط حتّى اليوم، بحيث أنّ كلّ مجموعة تعمل في حقلها الخاص مع تنسيق في المدينة أو المقاطعة نفسها؛ وعلى الصعيد العالميّ لا يوجد تنسيق منظّم حتّى الآن.
لكن لماذا يجب على الإنسان المسيحيّ أن يشترك في جهود مقاومة إسرائيل؟ هذا ما سنحاول أن نشير إليه في هذه المقالة، انطلاقاً من الإيمان المسيحيّ.
1. وقائع سريعةلكي نبدأ سنحاول أن نرى سريعاً ما هي الوجوه الكامنة وراء ادّعاءات الدعاية الاسرائيليّة بأنّ إسرائيل دولة ديموقراطيّة، وبأنّها تسعى إلى السلام، وبانّ لها حقّ "إلهيّ" في أرض فلسطين.
1.1 إسرائيل ديموقراطيّة أم عنصريّة؟إنّ الانتخابات في دولة إسرائيل تتمّ بطريقة ديموقراطيّة، بمعنى وحيد ألا وهو أنّ الذين يحقّ لهم الانتخاب يَختارون بحرّية نسبيّة ممثّليهم في البرلمان. ولكن هذه الديموقراطيّة الشكليّة تتواجد مع تضييق واضح ضدّ العرب، تمثّل مؤخّراً بمنع أحزاب عربيّة من خوض الانتخابات[1]، ومع رغبة مُعلَنَة بترحيل الفلسطينيّين، ومع قوانين تمنع تشكيل أيّ حزب يعارض مبدأ إسرائيل كـ"دولة يهوديّة" ممّا دفع البروفيسور إسرائيل شاحاك إلى القول إلى أنّ دولة إسرائيل ليست ديموقراطيّة[2].
ثمّ إنّ واقع وجود إنتخابات لا يمكنه أن يخفي الاحتلال المتواصل منذ 1948، واستمرار احتلال الضفّة الغربيّة وغزّة والجرائم المتواصلة بحقّ السكّان، كما لا يمكنه أن يُخفي داخل أراضي 1948 (أي دولة إسرائيل) واقع التمييز العنصريّ القائم بحقّ الفلسطينيّين (الذين يحتاج البعض ان يتذكّر أنهم بشر مثلهم)؛ ونستطيع أن نذكر بشكل سريع هنا بعض وجوه التمييز العنصريّ في دولة إسرائيل:
· شقّ طرقات لليهود فقط[3]
· حرمان الفلسطينيّين (حاملي الجنسيّة الاسرائيليّة) من حقّ الاجتماع العائليّ بحيث إن تزوّج أحدهم من شريك فلسطينيّ يسكن في الضفّة الغربيّة أو غزّة فلا يحقّ لشريكه أن ينتقل إلى إسرائيل. وهو قانون عُمل به منذ عام 2003 وتمّ تجديده للمرّة الثامنة عام 2008[4].
· حرمان الفلسطينيّين من حقّ شراء أراضٍ، فالأراضي الفلسطينيّة تمّ الاستيلاء عليها وتوزّع على اليهود فقط[5]
· حرمان البلدات الفلسطينيّة في دولة إسرائيل[6] ، كما وفي القدس الشرقيّة[7]، من التمويل اللازم
· التمييز في تمويل المدارس العربيّة في دولة إسرائيل[8]
· التمييز الصحّي ضدّ الفلسطينيّين الساكنين في دولة إسرائيل[9]
· التمييز في حقوق الإنسان المتمثّل بمنع الفلسطينيّين في أيّة بقعة من العالم من العودة إلى مدنهم، مع أنّ هذا حقّ إنسانيّ مشروع[10]، كما ومنع الذين يغادرون القدس من العودة إليها[11]
· التمييز العنصريّ في النظام التعليميّ الذي يغيّب الفلسطينيّين وحقيقة أوضاعهم وتاريخهم في الكتب المدرسيّة، عبر عنصريّة نخبويّة[12] تصوّرهم كمشكلة وعبء وخطر وتهديد[13]
أمّا بالنسبة للفلسطينيّين الساكنين تحت الاحتلال القائم في الضفّة الغربيّة وغزّة منذ عام 1967 (إثر الهجوم الإسرائيليّ وليس العربيّ باعتراف رئيس وزراء دولة إسرائيل[14])، فَهُم يتعرّضون لسياسة التحكّم بتنقّلهم، والتحكّم بطريقة حياتهم، والإذلال والتنكيل وتهديم المنازل، وتجريف الحقول، والقتل، والاعتقال، والعزل بواسطة حائط الفصل العنصريّ الذي أقرّت محكمة العدل الدوليّة بانّه، كما كلّ بناء إسرائيليّ في الضفّة وغزّة والقدس الشرقيّة، غير مشروع[15]. ويتعرّض الفلسطينيّون أيضاً لسياسة قضم متزايد للأراضي، وتسارع للاستعمار (الإسم الحقيقي للـ"إستيطان") الذي تضاعف بعد اتّفاق "السلام"[16]، والذي تفاقم في السنوات الأخيرة بحيث أنّ عدد الأبنية الجديدة في مستعمرات الضفّة الغربيّة في النصف الأوّل من العام 2008 بلغ تقريباً ضعف ما كانه في 2007[17]، كما بدأت الحكومة الصهيونيّة خطّة بناء تهدف إلى مضاعفة عدد المستعمرين الموجودين حاليّاً في الضفّة الغربيّة بهدف "تدمير إمكانيّة الحلّ القائم على دولتين" كما تعبّر منظّمة "السلام الآن" الإسرائيليّة[18]. أمّا غزّة فتتعرّض لحصار قاتل بحيث لا يدخلها من حاجات السكّان إلاّ ما يكفي لمنع حدوث مجاعة، كما صرّح ريتشارد فالك المقرّرُ الخاص للأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة[19]. وبالرغم من الانسحاب من غزّة، والذي تمّ بقصد تجميد عمليّة "السلام" كما يعترف المسؤولون الإسرائيليّون[20]، تبقى غزّة قانوناً تحت الاحتلال، بسبب التحكّم الفعليّ بحدودها وجوّها وأرضها وبحرها وكهربائها ومائها[21]، وبسبب من كون الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تشكّل بالنسبة للأمم المتّحدة وحدة كاملة: الضفّة وغزّة معاً، فطالما بقيت إحدى المنطقتين خاضعة للاحتلال فبحسب الأمم المتّحدة تكون الضفّة وغزّة معاً في حالة احتلال[22].
هذه وقائع، وليست اتّهامات[23]، وهي ما دعت الكثير من الأكاديميّن والناشطين والرسميّين في الأمم المتّحدة ومنهم إسرائيليّن ويهود، إلى التحدّث عن إسرائيل كدولة تمييز عنصريّ[24].
1.2 إسرائيل تسعى إلى السلام أم إلى الهيمنة؟إنّ الوقائع حول التدمير المنهجيّ في عمليّة "السلام" وتسارع عمليّة قضم الأراضي والاستعمار، واستمرار الاحتلال، تدلّ بشكل واضح أنّ الحكومات الإسرائيليّة متّفقة، يساراً ويميناً، أن تستمرّ بالاحتلال وأن تقضم ما أمكن من الأراضي، وأن تُبقي السكّان الفلسطينيّين في معازل (أراضي معزولة مقطّعَة الأوصال) كما كانت الحال في جنوب أفريقيا تحت نير التمييز العنصريّ. وبالتالي فإنّ مسعى إسرائيل ليس إلى السلام، بل إلى الهيمنة. ومن هنا الدعوات إلى المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة لإسرائيل من أجل عزلها ودفع النظام العنصريّ إلى السقوط ليتأسّس مكانه نظام يتساوى فيه الإنسان بالإنسان الآخر، فيعيش الإنسان الفلسطينيّ حقوقه كاملةً، ومنها حقّ الحرّية والعودة والتنقّل والسكن، إلخ. لا شيء يمنع من أن يعيش كلّ الناس في سلام في فلسطين كلّها، مهما تكن ديانتهم أو طوائفهم، في ظلّ دولة واحدة. هذا ما يحدث في عدّة بلدان، حيث يعيش المسيحيّون والمسلمون واليهود، أيّاً تكن بلادهم الأصليّة، دون صدام، في ظلّ حماية دولة تحترم حقوق الإنسان. دولة واحدة لأناسٍ متساوين، هذا هو الحلّ العادل.
1.3 هل لإسرائيل حقّ إلهيّ في أرض فلسطين لأنّها "أرض الميعاد" الإلهيّ "للشعب المختار"؟كان من المفترض من الشعب اليهودي أن يكون "شعب الله" بأن يعمل لتحقيق مقاصده، وهذه المقاصد هي المحبّة والحياة، كما نعرف بيسوع؛ هذا هو معنى "الاختيار"، فالاختيار ليس امتيازاً أعطاه الله لشعب، وإنّما مسؤوليّة دعوة الناس لعبادة إله واحد، إله حبّ وحياة. إنّ وجود دولة إسرائيل، كدولة لليهود فقط، يعني استعمال الله في خدمة مصالح هذا الشعب، وهذا يعني قلب مفهوم الشعب المختار ليحلّ محلّه مفهوم "الإله" المُختار، فالصهيونيّة تختار اسم "الله" كصنم حرب تستعمله لتحقيق مقاصدها، مقاصد السؤدد والتسلّط. تأسيس الصهيونيّة لدولة إسرائيل هو نتيجة الانغلاق العنصريّ،نتيجة كفر عمليّ بالله وتعبّد لصنم الذات الجماعيّة.
أمّا بالنسبة للمسيحيّين فقد تحقّقت الرسالة التي أراد لها الله أن تتحقّق بواسطة شعب العهد القديم، تحقّقت بيسوع المسيح، ماسّيا، فهو الذي حقّق وعد الله بتحقيق الأخوّة البشرية، في كنف أبوّة الله، انطلاقًا من الشعب اليهودي الذي أتى يسوع جسديّاً منه. وبالتالي لم يعد من ضرورة لاستمرار الرسالة اليهوديّة، من وجهة نظر ميسحيّة، فشعب الله الجديد هو الكنيسة العاملة على توحيد البشر كإخوة، وأرض الميعاد الجديدة هي العالم كلّه كعائلة واحدة لله[25]. الوعد الإلهيّ ليس وعداً بأرض، إنّه وعد الله بتحرير البشر وسكناه معهم، وهذا ما حقّقه المسيح بفتح طريق التألّه بالروح القدس.
2. مسؤوليّة حماية إخوة يسوع الصغارإنّ المسيحيّين، مهما كان عددهم، ومهما تكن التحدّيات أمامهم، لا يمكنهم أن يكونوا مسيحيّين دون المسيح، ولهذا فإنّ العلاقة به هي أساس مسيحيّتهم؛ فالهويّة المسيحيّة للإنسان تتحقّق بالفعل عندما يسير في خطّ التوحّد بالمسيح. كلّ ما عدا ذلك هو مسيحيّة إسميّة تخون المسيح.
لكن إلى ماذا دعانا المسيح؟ وكيف أبلغنا أنّه يمكننا أن نكون معه واحداً؟
إنّ سرّ الشكر (القدّاس الإلهيّ) هو المكان المميّز للتوحّد بالمسيح. فبتناول جسد ودم المسيح نتّحد بشخصه (الجسد رمز الشخص) و تتدفّق فينا حياته (الدم رمز الحياة). لكنّ سرّ الشكر، ككلّ الأسرار، لا يفعل سحريّاً في الإنسان. نحن لسنا في مجال السحر بل في مجال السرّ، أي مجال إطلالة الله إلى الإنسان من خلال مواد الطبيعة، لكنّها إطلالة إن لم يلاقِها الإنسان بإطلالة منه، فيتحرّك إليها ويستقبلها ثمّ يتحرّك بها في العالم عاملاً مع الله، بحسب مبدأ التناغم (synergy) بين الله والإنسان، فإنّ إطلالة الله (أي حضوره) تبقى غير فاعلة في الإنسان. لهذا فإنّ الاتّحاد بالمسيح في سرّ الشكر يبقى مُعَطَّلاً إلاّ إذا تحرّك الإنسان نتيجة سرّ الشكر ليتمّم "سرّ الأخ"، أي سرّ خدمة الناس. فماذا قال المسيح إذاً عن سرّ الأخ؟
"كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه"، هذه مسؤوليّة المسيحيّين الشخصيّة والجماعيّة، أمام وجوه الموجوعين والمظلومين: هل يتحرّك المسيحيّون للتوحّد بالمسيح من خلال رفع الظلم والعزلة والألم أمْ لا؟ المسيح في كلمته هذه يؤكّد على أهمّية ما يُدعى عامَّةً "فعل الخير". ولكنّه يحمّل جملته كشفاً هائلاً أنّه هو وإخوته "الصغار" واحد، أنّ الله موجود في وجوه المستضعَفين المقهورين، والمتألمّين، والعطاش، والجياع، والمرضى، والمسجونين. ويتابع المسيح بتصريح أكثر جذريّةً "كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه" وهنا يتجاوز المسيح تحميل المسيحيّين مسؤوليّة السير في خطّ التوحّد به بتوحّدهم بالموجوعين، ليقول أنّ عدم فعل الشرّ لا يكفي، ليقول أنّ الانسحاب أمام الظلم ليس أمراً حيادِيّاً، ليس "عدم" فعل، ليقول أنّ الانسحاب أمام الظلم فعلُ ابتعادٍ عن الحقّ، عن المسيح، فِعْلُ تَخَلٍّ عنه في وجوه المسحوقين. إنّ حماية الصغار كما حمّلنا إياها المسيح هي مسؤوليّة إيمانيّة لا يمكن الانسحاب منها إلاّ بالانسحاب من خطّ التوحّد بالمسيح نفسه، وبالتالي من خطّ التوحّد بالله نفسه.
الناس الأكثر اضطهاداً والأكثر مصلوبيّةً أمام أعيننا، وفي منطقتنا، هم الفلسطينيّون. الصدفة التاريخيّة شاءت أنّ هؤلاء الناس الذين عاشوا في أرض فلسطين، هم الذين قُتِلوا هُجِّروا وتشرّدوا ولم يعد لهم "مِنْ مكانٍ يسندون إليه رؤوسهم"، مثلهم مثل يسوع. لا يمكن أن يُمحى هذا الواقع فقط لأنّ هناك جريمة أو جرائم ارتكبها إناسٌ فلسطينيّون، فلدى كلّ شعب الكثير من الناس الذين ارتكبوا الكثير من الجرائم والمجازر. وبالتالي فإنّ إعطاء أيّ سبب، للحكم على شعب بأكمله، أو للانسحاب من الدفاع عن شعب بأكمله، لا يجوز؛ إذ أنّه لا يعدو كونه تبريراً لموقف حاقدٍ مُسْبَق، ولا يعدو كونه تركٌ للمسيح وابتعاد عن الحقّ، الحقّ الذي هو وجه المسيح، وبالتالي وجوه الفلسطينيّين أيضاً.
ألا يوجد لدينا غير قضيّة الفلسطينيّين؟ طبعاً يوجد، ولكن تغييب الفلسطينيّين عن خارطة المظلومين في قلوبنا، خَطِرٌ روحيّاً، لأنّه يخفي موقفاً حاقداً أو طائفيّاً، ولأنّ روحيّاً لا أولويّات في الحبّ؛ مَنْ يحبّ يحبّ، ولا يبخل بحبّه على البعض، ويحصره بالبعض الآخر. وجه المسيح هُوَ هُوَ في كلّ المظلومين. بالإضافة إلى ذلك، فإنّه من البديهيّ أنّ كلّ حالات الظلم الموجودة في مجتمعنا يعيشها الفلسطينيّون مضاعفةً بسبب تشريدهم وحالة اللامكان واللاأمان[26]، التي يعيشون فيها. وبالتالي فمادّياً ووجدانيّاً ظُلْمُهم مُضاعَفٌ. السعي إلى إحقاق العدل للفلسطينيّين هو مسؤوليّة روحيّة تجاه الله وتجاه أنفُسِنا.
3. مسؤوليّة تحقيق الملكوت وتثبيت أطر المحبّةإنّ مقاومة إسرائيل هي أيضاً ضرورة روحيّة مسيحيّة بسبب من البعدِ الأخرويّ لوصيّة العناية بالإخوة "الصغار"، ألا وهو رسمُ أُطرٍ لتجسيدِ ملكوت الحرّية، ملكوت الروح. هذا ما نفهمه من دعوة المسيح للآب "لا أطلب منك أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرّير"، "أنتم في العالم ولكنّكم لستم من العالم"؛ فـ"ما بالُكُم واقِفينَ تَنظُرونَ إلى السَّماءِ" (أعمال 1: 11)، أنظروا إلى الأرض فناسها يحتاجون إليكم[27]، وأنا فيهم، إنّ وجودكم في العالم هو لأجل إتمام عملي، إتمام الساعة التي "تأتي وهي الآن حاضرة"، "فاذهبوا وبشّروا كلّ الأمم" أنّ ملكوت المحبّة مفتوح منذ أسلَمْتُ الروحَ فقُمتُ على الصليب، وأعلنتُ قيامتي في اليوم الثالث. وهذا يعني يا أحبّائيّ أن تغيّروا هذا العالم ليصير "أرضاً جديدةً وسماءً جديدة" أو تمتمةً لهما، على أن يكتمل التجديد في اليوم الأخير. لهذا يا أحبّائي قاوموا الظلم، بلا تمييز، أينما رأيتموه في وجهٍ موجوعٍ، فكّل وجوه الناس وجهي، "كلّ وجوه الناس جنسيّتي"[28] فلا أحتاج جنسيّاتكم، ولا جوازات سفركم، ولا جوازات طوائفكم. لا تحبسوني بطوائفكم، ولا بأوطانكم، فأنا ساكن وجوهٍ وعابرُها بآن.
لكن بالإضافة إلى مسؤوليّة تحقيق الملكوت فإنّ هناك مسؤوليّة أساس في كلّ إيمان توحيديّ، ألا وهي مسؤوليّة عبادة الله الواحد، إلهاً فوق كلّ المخلوقات. إنّ الاحتلال الصهيونيّ لأرض فلسطين، وتنكيل دولة الاحتلال المستمرّ بالفلسطينيّين، قد وضع الإنسان اليهوديّ، كما والإنسان العربيّ، أمام تجارب إيمانيّة خطرة تتلخّص بخيانة الله والانزلاق إلى عبادة الأصنام.
4. مسؤوليّة عبادة الإله الواحد4.1 الصهيونيّة والفكر القوميّلقد رأت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة أنّ الصهيونيّة هي "شكل من أشكال العنصريّة" عام 1975[29] (قبل أن تعود للأسف عن هذا القرار في التسعينات إثر محادثات "السلام"). في بدايةِ الصهيونيّة كان المتديّنون اليهود يرفضونها على أساس دينيّ (قلّة قليلة تفعل ذلك حاليّاً) لاعتقادهم بأنّ ماسّيا (المسيح) المنتظر هو وحده له أن يقيم دولة لليهود؛ ولكن ما مهّد لتنامي الصهيونيّة هو تنامي اللاساميّة العلمانيّة في أوروبا إثر انتشار القوميّة[30]، وتلقّت دعمها النهائيّ إثر مذابح النظام النازيّ بحقّ اليهود (وغيرهم).
الصهيونيّة هي إبنة الفكر القوميّ المنغلق. الفكر القوميّ هو فكر جديد نسبيّاً في تاريخ البشريّة، فقد انتشر في أوروبا القرن الثامن عشر، كفكر تقدّميّ يحاول أن يجمع الناس تحت عنوان آخر غير الملك، عنوان تحريريّ يذهب بولاية ملكٍ مطلقِ الصلاحية، وصاحب "حقّ إلهيّ" ابتدعته الكنيسة الرسميّة في أوروبا. لكنّ الفكر القوميّ الأوروبيّ تدهور إلى فكرةٍ تجمع قوماً في عداءٍ لقوم "آخرين"، وهكذا أنتج الفكر القوميّ، وليس الدِيْن، حربَيْن عالميتَيْن. الصهيونيّة أتت بجذورها من القوميّة المنغلقة على ذاتها، أي من العنصريّة. والعنصريّة ليست أمراً محصوراً بدين أو بفكرة (كالقوميّة) بل هي وضع روحيّ عابرٌ للدين وللفكر العلمانيّ على السواء؛ ففي العمق العنصريّة هي وليدةُ حركةِ انغلاقِ الإنسان على أخيه الإنسان، أي في النهاية وليدةُ الخطيئة الأصليّة التي ستبقى تجربة إنسانيّة لا يمكن محوها بتغيير اجتماعيّ أو آخر.
4.2 تجربة اليهود: أصنام الذات الجماعيّة، الدولة، والسؤددصنم الذات الجماعيّةإنّ التجربة الأولى للمؤمن اليهوديّ، كما لغير المؤمن الذي يرى نفسه "يهوديّاً" بالوراثة، هو التمسّك بحقّ له كـ"شعب مختار" بمعنى فوقيّ للعبارة، على أرض فلسطين كـ"أرض موعودة"، أي كملكيّة خاصّة.
من المريع أنّ معظم المجتمع الإسرائيليّ دَعَمَ مذبحة غزّة الأخيرة[31]، ودعموا بالتالي معنويّاً ما ارتُكِبَ فيها من مجازر؛ بالرغم من الأصوات اليهوديّة الشجاعة والتي كانت تتجاوب مع أفضل ما في التراث اليهوديّ، والتي بقيت معارضةً للحرب وللتمييز العنصريّ[32]. وحتّى في أوقات اللاحرب، ترى إسرائيل-الدولة في فلسطينيّي غزّة والضفّة مصدرَ سوقَ عمالةٍ بخسة الثمن، بسبب الفقر الذي لم يأتِ نتيجة تنمية متدنّية (under development) بل نتيجة سياسة إسرائيليّة مقصودة لتدمير التنمية (deliberate de-development) كما يعبّر البروفيسور في العلاقات الدوليّة أفي شلايم[33]. وهذا ما يعبّر عن تدهور رؤية الإنسان ليرى الآخرين أقلّ إنسانيّة منه، وهذا هو لبّ العنصريّة: أن يكون "الغريب" عن العنصر (اللون أو الدين أو الطائفة أو الوطن) أقلّ إنسانيّة. إنّ العنصريّة إجراميّة بالكمون، بالإمكانيّة (potentially)، وهي إجراميّة بالفعل في الحالة الإسرائيليّة التي نحن الآن بصددها[34]، ومن ناحية روحيّة هي كُفْرٌ بإله تلك الوصايا الموجودة في العهد القديم التي تجعل من معاملة الغريب أساساً إيمانيّاً، فالعهد القديم يورد على لسان الله أن "لا تَظلِمِ الغريـبَ ولا تُضَايِقْهُ، فأنتُم كُنتُم غُرَباءَ في أرضِ مِصْرَ"(خروج 22: 20)، و"ليَكنْ عِندَكُمُ الغريـبُ النَّزيلُ فيما بَينكُم كالأصيلِ مِنكُم. أحِبُّوه مِثلما تُحبُّونَ أنفسَكُم لأنَّكُم كُنتُم غُرَباءَ في أرضِ مِصْرَ" (لاويين 19: 34)، "فأحِبُّوا الغريـبَ لأنَّكم كُنتُم غُرباءَ في أرضِ مِصْرَ"(تثنية 10: 19).
إنّ في العنصريّة الصهيونيّة عودةٌ لما ندّد به حزقيال حينما هاجم أهل أورشليم لأنّهم "يُعامِلونَ الغريـبَ بالظُّلمِ، ويضطهدونَ اليتيمَ والأرملةَ" و"حتّى وجهاءُ الشَّعبِ يغتصبونَ المِسكينَ ويَسرقونَهُ ويستغلونَ البائسَ ويُعامِلونَ الغريـبَ بغَيرِ حَقٍّ"(حزقيال 22: 7 و 29). أمّا الحصار القاتل المفروض على غزّة، وسياسة تدمير التنمية، فهما بمثابة بَصْقَةٍ على الآية التالية من التراث اليهوديّ "قلّة من الطعام هي حياة الفقراء، من يحـرمهم منها يـرتكب اغتيالاً، إنّه قـاتل قريبه ذاك الذي ينتزع منه قوته، إنه يهرق الدم من يحرم الأجير حقّه" (حكمة يشوع بن سيراخ 34: 20-22).
إنّ دولة إسرائيل العنصريّة تسعى عمليّاً (رغم كلّ الدعوات الكلاميّة إلى السلام) إلى استعباد الفلسطينيّين بشكل غير مباشر عن طريق استعمالهم كخزّان يد عاملة بخسة الثمن، وفرض وضعهم كبشر دون اليهود حقوقاً، وبالتالي إنسانيّة. هذه العنصريّة، التي بيّنّا بعض وجوهها، هي في العمق دعوة لعبادة صنمٍ، صنمِ الذات الجماعيّة.
صنم الدولة والسؤددإنّ المؤمنين بإسرائيل بلداً مرفوعاً على جثث الفلسطينيّين وأنقاض قراهم، يعبدون في الحقيقة دولة إسرائيل، كرمز للذات الجماعيّة العنصريّة، كبعلٍ جديد، تصرّفهم استعادة لتجربة عبادة العجل عند الخروج من مصر، لأنّ عنصريّتهم تعبّر عمليّاً عن ترك الله وعبادة عجل مصنوع ليس من ذهب، ولكن من أفكار وقوانين ومؤسّسات وعسكر. وهذا ما صرّح به البروفيسور إسرائيل شاحاك قائلاً عن الصهيونيّين "إنّهم مع ذلك متديّنون، ولكنْ إلههم إنّما هو الأمّة اليهوديّة"[35]. وهذا ما عناه كوستي بندلي عندما قال أنّ الصهيونيّة بعثٌ للانحراف اليهوديّ القديم "إذ تحوّل هي أيضًا الشعب اليهودي من شعب يستمدّ كيانه من الله مبرّر وجوده... إلى "أمّة" تسخّر الله لتفرض ذاتها في حلبة الصراع بين الأمم، على المصالح والهيمنة"[36]. إنّ اللهاث الإسرائيليّ المتسارع من حرب إلى حرب، لا يبرّره إطلاقاً "عدائيّة" مُفْتَرَضَةٍ للعرب تجاه اليهود، بل يمكن ان يُفهم من منظار نزعة الصهيونيّة، كتيّار عنصريّ، إلى رؤية البشر "الغرباء" وسائل عيش، ووسائل سؤدد. إنّ في ذلك انزلاق متواصل ومتسارع إلى توظيف كلّ شيء، ختّى الناس المنتمين إلى اليهوديّة، من أجل الدولة-الإله، من أجل رمز الذات الجماعيّة.
إنّ القبول بوجود إسرائيل كدولةِ جريمةٍ مرئيّةٍ ومتواصلةٍ، كما هي اليوم، هو عمليّاً عودة إلى عبادة الأصنام: صنم الذات الجماعيّة (رمزها الدولة الاستعماريّة)، وتوأمه صنم السؤدد-التسلّط.
4.3 تجربة العرب: أصنام الذات الجماعيّة والتسلّطمن جهة العرب فإنّ الظلم الفادح اللاحق بالفلسطينيّين، متغذّياً بالظُلمَيْن السياسيّ والاقتصاديّ الذي يرزحون تحته، فقد يدفعهم إلى التدهور نحو العنصريّة، وذلك بسبب الالتباس الذي أنشأه وجود دولة إسرائيل بين الانتساب إلى دولة مُغتَصِبَة للحقوق، إستعماريّة، وقامعة، وإجراميّة، وبين الانتماء إلى الدين اليهوديّ. وهذا ما نسمعه أحياناً حين يختلط في حديث البعض كلمة إسرائيليّ وكلمة يهوديّ، والإثنان في الحقيقة ليسا واحداً. إنّ رفض الظلم الإسرائيليّ يجعل البعض يرفض اليهود بدون تمييز بين إسرائيل كدولة (غير مشروعة أخلاقيّاً ولو هي شرعيّة في الأمم المتّحدة) وبين أناس ينتمون إلى دينٍ معيّن. ولا شكّ أنّ هذا التمييز صعب لأنّ إسرائيل نفسها تعرّف عن ذاتها كدولة يهوديّة، وتسعى، بشكل واضح وجليّ مؤخّراً، إلى جعل الدولة الإسرائيليّة دولة صفاء دينيّ بترحيل كلّ فلسطينيّ منها[37] (وهو ما حاوله تاريخيّاً منظّمو مجازر 1948[38]). ولكن وإنْ كان من الصعب لأوّل وهلة التمييز بين الإسرائيليّ الصهيونيّ وبين اليهوديّ، كما وبين اليهود الساكنين في فلسطين المُحتلّة والمعارضين للنظام القمعيّ والعنصريّ(ولو هم قلّة)، وبين مَنْ هم ساكنين فيها وداعمين لذاك النظام، فإنّه يبقى من الضروريّ إيمانيّاً وأخلاقيّاً أن نتنبّه إلى ضرورة إقامة هذا التمييز، وذلك كي لا نقع في العنصريّة ذاتها. إنّنا كعرب، وبسبب جرائم دولة إسرائيل المتواصلة، مهدَّدون بسمّ الحقد، وبالتالي بالجنوح نحو العنصريّة، أي نحو صنم الذات الجماعيّة.
ومن جهة أُخرى فإنّ الطموح المشروع إلى إزالة دولة إسرائيل كدولة تمييز عنصريّ - وليس إزالة اليهود كبشر- قد يدفع الناس إلى التمسّك بالعَسْكَرة ومظاهر القوّة والسلطة، من أجل ذاتها، أي كغاية وليس كوسيلة؛ فنصير مُهّدَّدين بالجنوح إلى التسلّط من حيث لا ندري، ومُهّدَّدين بالتالي بالانحناء أمام صنم الذات الجماعيّة (القوميّة أو الدينيّة) وصنم التسلّط المرافق له؛ فنقع في نفس الخطيئة الروحيّة التي تهدّد اليهود المنحنين أمام "دولة إسرائيل" بعلاً جديداً، والمقدّمين "الأضاحي" البشريّة أمام صنم السؤدد-التسلّط منذ احتلالهم فلسطين.
ولهذا فإن كانت المقاومة لدولة إسرائيل، ككيان إجراميّ، ضروريّة، وواجب إيمانيّ من أجل حماية "إخوة يسوع الصغار"، فإنّ أيّة مقاومة لا بدّ لها أن ترتبط بأقصى درجات الحيطة الروحيّة، والإعلام المتنوّر، لتفادي جنوح محرِّري الغد إلى قامعيّ بعد غد؛ وإلى تسميم الحياة الروحيّة للجميع، اليوم. وفي هذا الإطار للمسيحيّين العرب دور أساس مع المسلمين في الإضائة إلى هذا الخطر الروحيّ الذي يتهدّد الجميع، والذي ينبغي على الجميع السعي إلى تجنّبه دون التخلّي عن مقاومة مشروعَ إسرائيل، ومقاومة مشروع أيّ فكر عنصريّ آخر.
5. خاتمةإنّ مسؤوليّة البشارة المسيحيّة، وعبادة الإله الواحد، تدفعنا إلى مواجهة إسرائيل من منظار كونها دولة قائمة على الجريمة والظلم، دولةٌ يشكّل نظامها العنصريّ انزلاقاً لليهود إلى عبادة صنم الذات الجماعيّة (الدولة العنصريّة) وصنم السؤدد-التسلّط، كما يشكّل دعوةً مفتوحةً في المنطقة إلى عبادة تلك الأصنام.
أمّا الفلسطينيّون وبقيّة العرب فمهدّدون، بفعل الجرائم الاسرائيليّة المتواصلة، وبفعل معاناتهم في ظلّ أوضاع لا تتوافق مع حريّة الإنسان وكرامته، بالانزلاق إلى العنصريّة (القوميّة والدينيّة) المنغلقة، وبالتالي إلى عبادة صنم الذات الجماعيّة وصنم التسلّط.
مواجهة إسرائيل تعني تحمّل مسؤوليّة الإيمان المسيحيّ الذي يتمحور حول المسيح الذي وحّد نفسه بالمستضعفين، والعودة إلى مزاوجة سرّ الشكر وسرّ الأخ، الذي أشار إليه يوحنّا الذهبيّ الفم، كما والسعي لإقامة العدل إنطلاقاً من مقتضيات المحبّة. وهذا يقتضي مقاومة الصهيونيّة كتيّار وثنيّ يتّخذ غطاءَ الإيمان الإبراهيميّ، تيّارٍ يدعو باسم الله فيما يعبد القوميّة والتسلّط.
مواجهة إسرائيل تقتضي أيضاً مقاومةٌ روحيّةٌ لتجربة الصنميّة الكامنة خلف الصهيونيّة والتي تهدّدنا كلّنا، وذلك حتّى لا ينتصر فينا، تحت مُسَمّى آخر، الفكرُ الكامنُ وراءَ الصهيونيّةِ، فكر الخطيئة الأصليّة، خطيئة وضع الذات - الفرديّة أو الجماعيّة - مكان الله، وبالتالي تهديم الأخوّة البشريّة. ينبغي لكلّ مقاومة أن تشدّد على رؤية الإنسان، كلّ إنسان، ابنة أو ابنا لله في عائلته الواحدة القائمة على أبوّته الشاملة، وعلى المساواة في الكرامة الإنسانيّة، وإلاّ فلن تنتصر سوى قهقهة الشيطان خلف أيّ انتصار بشريّ.
أمام إسرائيل لا يجوز الانسحاب وإنّما المقاومة، وهي مقاومةٌ ينبغي أن تواجه بدون هوادة بُنى الظلم والموت، إنطلاقاً من المسؤوليّة الإيمانيّة التي تفترضها عبادة الله، إله الحياة؛ وأن تتسلّح أيضاً بأقصى درجات الصرامة الروحيّة لكي لا تنجرف إلى عبادة الأصنام؛ إنّها مقاومة تأخذ محمل الجدّ قول المسيح أنّه جاء "لتكون لكم الحياة وتكون أوفر" (يوحنّا 10: 10)، وأنّ "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنتَ الإله الحقيقيّ وحدكويعرفوا الذي أرْسَلْتَهُ يسوع المسيح" (يوحنا 17: 3)، رافضين كلّ صنمٍ[39].
خريستو المرّ
[1] Shahar Ilan and Roni Singer-Heruti, “Israel bans Arab parties from running in upcoming elections”, Haaretz, Jan 13, 2009
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1054867.html
[2] Israe lshahak, “Jewish History, Jewish Religion: The Weight of Three Thousand Years”, Pluto Press, 2008, p. 3
[3] B’Tselem, “Forbidden Roads: The Discriminatory West Bank Road Regime”, August 2004
http://www.btselem.org/English/Publications/Summaries/200408_Forbidden_Roads.asp[4] Ilan Pappe, “Citizenship law makes Israel an apartheid state”, June 30, 2008
http://ilanpappe.com/?p=75
[5] راجع المقال التالي على موقع التالي للمجموعة اليهوديّة المناهضة للصهيونيّة: "ليس باسمنا" (Not In Our Name)
Ismail Zayid, “The Jewish National Fund: A Colonial Racist Instrument”, Not in Our Name, accessed March 29, 2009
http://www.nion.ca/jnf-forum-zayid.htm
راجع أيضاً التقرير التالي:
عدالة، المركز القانونيّ الحقوقيّ لحقوق الأقلّية العربيّة في إسرائيل (تمّت الوصول إلى الموقع في: 29 آذار 2009)
http://www.adalah.org/eng/jnf.php#background
[6] Yair Ettinger, “Arab communities verging on 'catastrophe', leaders warn”, Haaretz, Dec. 3, 2003
http://www.haaretz.com/hasen/pages/ShArt.jhtml?itemNo=368070
[7] Philippe Rekacewicz et Dominique Vidal, “Comment Israël confisque Jérusalem-Est”, Le Monde Diplomatique, Fev. 2007
http://www.monde-diplomatique.fr/2007/02/REKACEWICZ/14411
راجع المقال بالإنكليزيّة:
Philippe Rekacewicz, “The Politics of Urban Planning”, Zmag, Feb. 19, 2007
http://www.zmag.org/znet/viewArticle/2007
[8] Human Rights Watch, “SECOND CLASS, Discrimination Against Palestinian Arab Children in Israel's Schools”, 2001,
http://www.hrw.org/legacy/reports/2001/israel2/ISRAEL0901-01.htm
http://www.hrw.org/legacy/reports/2001/israel2/index.htm#TopOfPage
[9] تمييـز في الصحـة، "الوضع الصحـي لدى الأقلية الفلسطينية العربيـة في إسرائيل"، المؤسّسة العربيّة لحقوق الإنسان، 25 شباط 2009
http://arabhra.org/HRA/SecondaryArticles/SecondaryArticlePage.aspx?SecondaryArticle=1741
[10] UN Commission for Human Rights “Geneva Convention relative to the Protection of Civilian Persons in Time of War”, 12 August 1949
http://www.unhchr.ch/html/menu3/b/92.htm
[11] راجع التقرير التالي الذي يذكر مثلاً حالة القياديّ الفلسطينيّ الطبيب مصطفى البرغوتي
CBS News Video, “Is Peace Out of Reach”
http://www.cbsnews.com/video/watch/?id=4752349n[12] Peled-Elhanan, N., “The Establishment of Israeli Identity through Racist Discourse”, The International Journal of Diversity in Organizations, Comumnities and Nations, 2008. 7(6).
[13] Peled-Elhanan, N., “The denial of Palestinian National and Territorial Identity in Israeli Schoolbooks of History and Geography 1996-2003”, in Analysing Identities in Discourse, R.D.J. Todolí, Editor. 2008, John Benjamin Publishers: Amsterdam ; Philadelphia
[14] "Excerpts from Begin Speech at National Defense College" New York Times, Aug. 21, 1982
مرجع مذكور عند:
Stephen Shalom, “Question and Answer on Gaza”, January 16, 2009http://www.zcommunications.org/znet/viewArticle/20269
[15] راجع وثيقة محكمة العدل الدوليّة والأمم المتّحدة بالعربيّة:
محكمة العدل الدولية، "الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة"، 13 تمّوز 2004
http://www.icj-cij.org/homepage/ar/advisory/advisory_2004-07-09.pdf
راجع أيضاً كامل الملفّ والوثائق بالإنكليزيّة في الموقع التالي على الإنترنت(زيارة الموقع تمّت في 28 آذار 2008):
http://www.icj-cij.org/docket/index.php?p1=3&p2=4&code=mwp&case=131&k=5a
BBC, “Un Rules against israeli barrier”, July 9, 2004
http://news.bbc.co.uk/1/hi/world/middle_east/3879057.stm
[16] Lara Friedman and Ori Nir, “Settlements in Focus Interview with Hagit Ofran”, Peace Now, August 2007
http://www.peacenow.org.il/site/en/peace.asp?pi=62&docid=2462
راجع أيضاً:
Amos Harel, “Peace Now report: Settlements build on just 9 percent of state-allocated land”, Haaretz, July 07, 2007
http://www.haaretz.com/hasen/spages/878925.html
[17] Peace Now, “Middle East Peace Reports”, September 2, 2008, Vol. 10, Issue 1
http://www.peacenow.org/mepr.asp?rid=&cid=5290
[18] Sara Miller, “Peace Now: Israel planning 73,300 new homes in West Bank”, Haaretz, March 02, 2009
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1068033.html[19] Richard Falk, “Gaza: Silence is not an option”, UN Press Release, Dec 09, 2008
http://domino.un.org/unispal.nsf/3822b5e39951876a85256b6e0058a478/31dd18391da1e61e8525751a004f5006!OpenDocument
[20] Ari Shavit, The big freeze, Haaretz, Oct 10 2004
http://www.haaretz.com/hasen/pages/ShArt.jhtml?itemNo=485929
[21] Human Rights Watch, “Q & A on Hostilities between Israel and Hamas”, December 31, 2008
http://www.hrw.org/en/news/2008/12/31/q-hostilities-between-israel-and-hamas[22] Amy Goodman, “A Debate on Israel’s Invasion of Gaza: UNRWA’s Christopher Gunness v. Israel Project’s Meagan Buren”, Democracy Now, 2009-01-05
[23] لقراءة تفنيدٍ للدعاية الصهيونيّة أثناء العدوان على غزّة كانون الأوّل 2008-كانون الثاني 2009 راجع:
خريستو المرّ،"دعاية مذبحة: الدعاية الإسرائيليّة أثناء مذبحة غزّة"، مجلّة الآداب، عدد 4-6، 2009[24] المرجع السابق
[25] كوستي بندلي، "إسرائيل بين الدعوة والرفض"، منشورات النور 1985، ص. 71-73
[26] في إحدى أغاني فيروز جملة معبّرة تقول "عندي بيت وأرض صغيرة فأنا الآن يسكنني الأمان"
[27] يعلّق الفيلسوف إيمانويل مونييه على هذه الآية قائلاً "إنّ الذي ذهب سوف يعود. إنّ مهمّتكم هي عند أقدامكم". راجع:
كوستي بندلي، "إله الإلحاد المُعاصر"، منشورات النور، بيروت، 1968، ص. 85
[28] هنا أتصرّف بجملة شعريّة لمحمود درويش، "كلّ قلوب الناس جنسيّتي" من قصيدة "جواز السفر"
محمود درويش، ديوان "حبيبتي تنهض من نومها"(1970)،الأعمال الأولى 1، رياض الريّس للكتب والنشر، 2005، ص. 371
[29] وقد ذكّرت الأمم المتّحدة، في القرار نفسه، بعلاقات الصهيونيّة بنظام الفصل العنصريّ القائم آنذاك في جنوب أفريقيا
United Nation, General Assembly, 30th session, Resolution No 3379, Nov. 10, 1975
http://daccessdds.un.org/doc/RESOLUTION/GEN/NR0/000/92/IMG/NR000092.pdf?OpenElement[30] وليد الخالديّ،"الصهيونيّة في مئة عام"، دار النهار، ط. 2، 2002، ص. 11-15
[31] Yossi Verter, “Poll: Most Israelis support continuing Gaza military op”, Haaretz, Jan 01, 2009
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1051852.html[32] خريستو المرّ، "دعاية مذبحة..."... مرجع مذكور
[33] Avi Shlaim, “How Israel brought Gaza to the brink of humanitarian catastrophe”, Guardian, 7 January 2009.
http://www.guardian.co.uk/world/2009/jan/07/gaza-israel-palestine[34] ينطبق هذا على العنصريّة في أيّ مكان ومنها العنصريّة المتفشّية في لبنان
[35] Pârequette Villeneuve, “Propos du Professeur Israel Shahak”, Témoignage Chrétien, Paris, No 1362, 13 Août 1970, pp. 9-10
مذكور عند:
كوستي بندلي، "إسرائيل بين الدعوة والرفض"، منشورات النور 1985، ص. 79[36] كوستي بندلي، "إسرائيل بين الدعوة والرفض"، منشورات النور 1985، ص. 78
[37] Haaretz Service and News Agencies, “Livni: National aspirations of Israel's Arabs can be met by Palestinian homeland”, Dec 11, 2008
http://www.haaretz.com/hasen/spages/1045787.html[38] Ilan Pappe, “The Ethnic Cleansing of Palestine,” One World Oxford , 2007
[39] "يا أحبّائي، إهربوا من عبادة الأصنام" (1 كور 10: 14)
فلسطين
- الأرض لنا
- حدود البلدان وحدود القلب
- فلسطين
- الفلسطينيّون وجه المسيح
- الإيمان المسيحي والمقاطعة وفلسطين
- جسدُ المسيح المرفوع في غزّة
- الثقافة والمقاطعة: أيّة علاقة؟
- الإنسان والمبادئ: حملة المقاطعة لإسرائيل
- خطاب المثقف العربي للمحتلّ هو المقاطعة
- أمين معلوف والمقاطعة
- الحبّ والمقاومة: مخاطر في كلام مرسيل خليفة
- فلسطين: وسائل تحرير عنفيّة أم لا عنفيّة؟
- زيارة البطريرك الراعي لإسرائيل
- دعوى المال ضدّ المقاومة
- مواجهة إسرائيل كمسؤوليّة إيمانيّة
- دعاية مذبحة