المقالة الأصليّة
الإنسان والمبادئ: حملة المقاطعة لإسرائيل نموذجاً
صحيفة الأخبار، السبت 3 حزيران 2017
عندما قامت "حملة مقاطعة إسرائيل" في لبنان بحملة تدعو لمقاطعة فيلم "المرأة الخارقة" كون بطلة الفيلم دعمت على الملأ جرائم جيش الاحتلال الاسرائيليّ خلال حربه على غزّة، خالفهم البعض ودعوا إلى عدم طلب منع الفيلم والاكتفاء بالتوعية ودعوة الناس إلى المقاطعة الطوعية، وأخذوا على المنظّمين أنّهم لم يطالبوا بمنع أفلام أخرى لممثّلات ومخرجات تحملن جنسيّة من دولة الاحتلال. وانتقد البعض الآخر منظّمي الحملة من ناحية المبدأ، معتبرين أنّ المنع إمّا أن يكون شاملا أو لا يكون، إذ أنّ المقاطعة لا يمكنها أن تكون انتقائيّة برأيهم، وبما أنّه لا يمكن، وغير مستحبّ، منع استعمال اختراع ما صنع في دولة الاحتلال، أو منع دواء اخترعه حامل للجنسيّة فيها، فبرأيهم، أنّ المقاطعة لا معنى لها من الأساس. أمّا البعض فاتّهم القائمين بالحملة بالـ"فاشيّة" بسبب فرض مجموعة صغيرة من الناس المقاطعة على الباقين-الأكثريّة، وضربهم بذلك لحرّياتهم الشخصيّة. لنتمكّن من نقد هذا الأفكار، وبعضها وجيه، هناك ضرورة ألاّ نخلط الأمور ببعضها البعض
هل من تضارب بين المطالبة بمنع ثقافيّ أو أكاديميّ وبين الدفاع عن حرّية التعبير؟يمكن للإنسان أن يكون – بل يجب أن يكون- مدافعا عن حرّية التعبير والرأي والفنّ عندما تمنع السلطات في بلد عربيّ ما صحيفة أو كتاب أو مجلّة (مجلّة الآداب مثلاً)، وعندما تمنع أو تحاول أن تمنع السلطات اللبنانيّة مسرحيّة ("لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71 ") أو فيلما ("تنّورة ماكسي") أو دعاية ("طرقات الزفت") أو أغنية ("أنا يوسف يا أبي" مارسيل خليفة) لخدشها الشعور الدينيّ أو ما شابه، وذلك أنّه لا يمكن لأحد أن ينصّب نفسه وليّاً على أفكار وثقافة إنسان آخر ومزاجه الفكريّ، إذ ينبغي القبول بالتنوّع الفكريّ في مجتمع واحد طالما أنّ هذا الفكر لا يدعو للكراهية أو يحضّ على القتل أو العنصريّة أو ما شابه من الأمور التي تجرّمها القوانين، كما ينبغي، في الكثير من دول العالم.
ويمكنه أيضاً المطالبة بمنع فيلم بطلته تدعو لقتل الفلسطينيّين، دون أن يشكّل ذلك تضاربا. فالإنسان الذي يقاوم منعاً لفكر ومشاعر تعبّر عن نفسها في كتاب أو مسرحية أو أغنية بمطالبته بحرّية التعبير، هو في الحقيقة يقف ضدّ استلاب فكر الناس وحياتهم ومع حرّيتهم وكرامتهم البشريّة؛ ولهذا يمكنه أن يقف بنفس القوّة ضدّ الظالم الذي يُمعن في استلاب وقمع شعب آخر، دعما لحرّية ذاك الشعب، بأسلوب آخر ألا وهو أسلوب الضغط المعنويّ والماليّ-الاقتصاديّ على هذا الظالم ومَن يدعمه، من خلال منع بيع بضائعه ومنع التعامل مع كلّ ما يشكّل دعما ماليّا وعمليّاً أو حتّى رمزيّاً للظالم.
في الحالتين الإنسان يقاوم الظلم ويقف مع المظلوم، يقاوم القمع الفكريّ والجسديّ ويقف مع المقموع، وإن يكن الأسلوب متعارض: مرّة بالمطالبة بالسماح بالتعبير ومرّة بالمطالبة بمنع "تعبير" الظالم. الهدف يبقى نفسه ألا وهو الدفاع عن حياة الإنسان المظلوم المعنويّة والجسديّة.
المبادئ من أجل الإنسان لا الإنسان من أجل المبادئيتكلّم البعض عن المنع كأنّه شيء مرفوض من ناحية المبدأ، هذا موقف فيه شيء من عدم الوضوح ويحتاج لشيء من التمييز. الواقع أنّ المنع مفيد في بعض الحالات. فكما أنّ العنف سيّء إن كان يشكّل اعتداءً سافرا على حياة إنسان (خاصّة الأطفال)، فهو قد يكون ضروريّاً ومبرّرا عند حادث اعتداء على حياة الناس، ولهذا تحتاج الدول لشرطة وجيش يعملان تحت القانون. وهكذا أيضاً بالنسبة للمنع، فالمنع أمر تمارسه جميع الشعوب، فالمجتمعات تمنع السرقة والقتل وغيرهما من الأمور التي تشكّل اعتداء على الحياة الإنسانيّة.
عندما يقف الإنسان موقفا مبدئيّاً مع حرّية الرأي لا يفعل ذلك لأنّه ضدّ مبدأ المنع بحدّ ذاته، وإنّما لأنّه مع انتعاش حياة الإنسان وبالتالي ضدّ القمع الفكريّ الذي يمثّله منع كتاب أو فيلم أو مسرحيّة أو مجلّة. عند الدفاع عن حرّية التعبير ليس مبدأ رفض المنع هو لبّ القصيد، وإنّما لبّ القصيد هو الحياة الإنسانيّة التي يجب الدفاع عنها.
من هذه الزاوية يمكننا أن نفهم أنّه عندما تستطيع شفاء إنسان بسبب دواء لا بديل له، اخترعه شخص ينتسب لجهة ظالمة، وتعود أرباح مبيعاته لمؤسّسات تدعم ظلما ما حول الكوكب، فيمكنك أن تسمح لنفسك باستعمال ذاك الدواء، لأنّه نافع للإنسان المريض. ولكن إن نشرت كتابا أو روّجت لنتاج ثقافيّ يروّج للظلم أو يعود بالفائدة ولو حتّى المعنويّة على المحتلّ والظالم، أو دعمت مؤسّسة تدعم ظالماً، فإنّ عملك يصبّ في خدمة الظلم؛ ولهذا، انطلاقا من نفس المبدأ، مبدأ الدفاع عن الحياة الإنسانيّة وكرامة البشر، تقاطعين وتقاطع. تقاطعين وتقاطع لأنّ ذاك الكتاب أو النتاج أو المؤسّسة يخدم نظاما ظالماً، لأنّه بُرغيّ في آلة قمع إنسان أو شعب، وأنت تهدفين وتهدف أن يحيا الإنسان بكرامة وعدل.
فإن لم نقاطع (الدواء) أو قاطعنا (منتجات أُخرى) فللحياة الإنسانيّة نحن. نحن نقف مع الحياة الإنسانيّة التي هي أهمّ من المبادئ الصمّاء (حرّية تعبير، منع) التي يتمسّك بها البعض دون تمييز بين الحقّ والباطل، بين متى يجب الدفاع عن الحرّية ومتى يجب المطالبة بالمنع. مرّ رجل يوماً في فلسطين وقال ما معناه أنّ المبادئ جُعلت من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل المبادئ، وهذا الرجل المبدئيّ بالأساس والذي مات متمسّكا بمواقفه ليس بأقلّ من يسوع المسيح. المقاطعة ليست هدفا بحدّ ذاتها، هي وسيلة تحرير ضمن مجموعة ممكنة من الوسائل، وهي وسيلة شريفة تنسجم فيها الغاية مع الوسيلة.
كلّ شيء أو لا شيء!؟المقاطعة الثقافيّة والاقتصاديّة لإسرائيل هي مقاومة سلميّة أثبتت فاعليّة لا مجال لشرحها هنا، وهي أقلّ ما يمكن أن يقوم به مَن يؤمنون بمبدأ تحرير الإنسان من الظلم. هؤلاء يمكنهم أن يختلفوا على أهمية حملة مقاطعة ما، ولكن من غير الحكيم أن يُطالِب الإنسانُ نفسَه، أو غيره، بمقاطعة كلّ شيء أو لا شيء. فمن الذكاء والحكمة أن تختار المجموعة التي تقود المقاطعة في بلد ما، حملة مقاطعة تراها مناسبة بحسب تقديرها هي للعوامل المحيطة، ومنها عامل أهمية الموضوع الذي تسعى لمقاطعته، ومدى عودة حملة المقاطعة بالنفع على قضيّة التحرير الأساسيّة، حتى ولو كان النفع مجرد تسليط الضوء الإعلامي على مبدأ المقاطعة، وإيقاظ المواطنين من واقع الاستسلام والتخدير. لا يشكّل منع الفيلم اليوم خسارة مالية ضخمة لدولة الاحتلال، ولكنّه يشكّل بلا شكّ نصرا معنويّاً، والوضع المعنويّ أمر لا يستهان به في الصراعات كما يعرف تماماً كلّ من يتابع الألعاب الرياضيّة بين فرق متنافسة، فكيف بين دول.
ثمّ إنّ مجموعة المقاطعة في بلد ما ليست لامتناهية الجهد، أو لامتناهية العدد، أو لامتناهية الموارد (لا توجد موارد لا متناهية في أرض الواقع)، وبالتالي فإنّه من الحكمة والذكاء عدم هدر الجهود المحدودة على حملة قد تكون – باجتهاد المعنيين- غير نافعة حاليّاً، ولا تخدم جهود التحرير في الأوضاع والظروف القائمة في تلك اللحظة. إنّ الإصرار على خيار "كلّ شيء أو لا شيء" لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع، وبالتالي فيه الكثير من التسرّع. من يعتقد بالمقاطعة فليضع يده بيد الآخرين لتنمو قدرات المقاطعة، او فليقم بحملات مقاطعة ثقافية أو اقتصادية أو أكاديميّة أخرى يرى أنّ غيره مقصّراً بها. لا بأس من الاختلاف في وجهات النظر على أن يتمّ النقاش بشكل منطقيّ بهدف التعاون على الخير، لئلاّ تضيع الجهود في صراعات جانبية ومماحكات شبه هذيانيّة أحيانا، تهدر طاقات مهمّة. يكفي تشرذم الطوائف لا نضيفنّ إليه تشرذم المناضلين، وهم قلائل.
المنع فاشيّة؟اما النقد الذي يعتبر أنّ نجاح مجموعة صغيرة، بقوّة القانون، بفرض مقاطعة على أكثريّة بلد ما، يجعل منها مجموعة فاشيّة تتحكّم بالحرّية الشخصيّة للأكثرية (على افتراض أنّها أكثريّة، وقد تكون كذلك)، فمن المؤكد انّه نقد في غير محلّه لسببين: أولاً، يستطيع مَن يريد ان يشاهد الفيلم ان يشاهده على الانترنت إن هو أحب بعد بضعة أسابيع، كما يمكنه – إن أراد- ان يسعى الى ازالة القانون الذي يحظر التعامل مع اسرائيل. ثانياً، لأنّ من حقّ حتّى مجموعة صغيرة أن تستخدم القوانين المتاحة في بلد ما للدفع بخطّ ما ولو أثّر على الأكثرية، وأن تخالف هذه الأكثريّة، وأن تخالف قوانين حاليّة جائرة لفرض قوانين أكثر إنسانيّة، وأن تقاوم فكرَ أكثريّةِ لحظةٍ تاريخيّةٍ ما، بقوّة المنطق والحجّة والعمل الجاد والنشر والقوانين المتاحة. من يراجع التاريخ يرى أنّ الكثير من التقدّم النوعيّ للبشريّة قامت به أقلّية وحاربته الأكثريّة: كرويّة الأرض، دوران الأرض حول الشمس، فكرة المساواة بين البشر، حقوق العمّال، الإخاء بين البشر. عندما قامت تظاهرات بقيادة مارتن لوثر كينغ لتطالب بحقوق الأفارقة الأميركيين لم تكن تلك المجموعات المتظاهرة سوى أقلّية وكانت مخالفة للقانون الرسميّ! ليس من الفاشيّة أن تقوم مجموعة صغيرة، هي بالضرورة أقلّية، أثناء قيامها بتظاهرة بمنع المواطنين من السير بسيّاراتهم. ليس من الفاشية أن تقوم مجموعة صغرى من صحافيين بمنع تمرير أجندات الأكثرية الفاسدة من السياسيين في وسائل الإعلام، والاستمرار بالتحقيق في قضايا فساد. ليس من الفاشيّة أن تقوم أقلّية بالضغط على دور السينما لمنع عرض فيلم تقوم ببطولته إنسانة تدعم إسرائيل في قمعها لشعب بأكمله، وقتلها وسجنها للعديد من بناته وأبنائه وأطفاله. بالطبع هذا لا يعني ألاّ تستمرّ المجموعة الأقلّية السعي لإقناع الأكثرية بمبدأ المقاطعة.
الفرق بين من يمنع ما يدعم الاحتلال والظلم، ومن يمنع كتابا أو مسرحيّة أو فيلما لأنّه يمسّ بمشاعره الدينيّة أو الفكريّة هو أنّ الأوّل يهدف من خلال المنع إلى الدفاع عن حياة الناس وكرامتهم وهذا هدف سامٍ ومتعارف عليه أنّه خير، في كلّ المعايير الأخلاقيّة حول العالم؛ أمّا الثاني فيهدف من خلال المنع إلى فرض نظام واحد من الرؤية للوجود يجعل البشر يحيون في شبه عبوديّة. العبرة ليست في ضرورة رفض المنع بشكل مطلق وإنّما العبرة في الغاية والهدف من المنع. بالطبع قد تكون الوسائل قاتلة للأهداف (كأن يمنع الأب ابنه من الحيويّة لكي "يربّيه" أو يُخضع حاكم شعبا للقمع لأنّه يريد أن "يحميه") ولكن هذا ليس هو الوضع في حالتنا هذه. في حالتنا، حالة المقاطعة، الوسيلة تنسجم مع الغاية.
إن الحملة التي تطالب بمنع فيلم "المرأة الخارقة" هي حملة شريفة في أهدافها؛ والمنع الذي تسعى إليه مشروع حتّى ولو كان غير شرعيّ ومخالفاً للقانون (وهو ليس كذلك في لبنان). أمّا حملات منع أفلام وكتب فقط لأنّها تطرح فكرا مختلفا عن المتعارف عليه، فكرا غير عنصريّ ولا يدعو إلى الكراهية، فهي غير شريفة وغير مشروعة حتّى ولو كانت شرعيّة وقانونيّة.
ان لم تكن هذه الحملة الشريفة والمقاوِمَة لقوى الموت والظلام، لتؤدّي إلى منع الفيلم موضوع الحملة، فيكفيها أنّها تكون قد أبقت شعلة النقاش مشتعلة، وخضّت ضمير العديدين (وحتّى ولو كانوا أكثريّة)، وهي بذلك تكون قد نجحت وساهمت في التقدّم نحو النصر.
خريستو المرّ
هل من تضارب بين المطالبة بمنع ثقافيّ أو أكاديميّ وبين الدفاع عن حرّية التعبير؟يمكن للإنسان أن يكون – بل يجب أن يكون- مدافعا عن حرّية التعبير والرأي والفنّ عندما تمنع السلطات في بلد عربيّ ما صحيفة أو كتاب أو مجلّة (مجلّة الآداب مثلاً)، وعندما تمنع أو تحاول أن تمنع السلطات اللبنانيّة مسرحيّة ("لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71 ") أو فيلما ("تنّورة ماكسي") أو دعاية ("طرقات الزفت") أو أغنية ("أنا يوسف يا أبي" مارسيل خليفة) لخدشها الشعور الدينيّ أو ما شابه، وذلك أنّه لا يمكن لأحد أن ينصّب نفسه وليّاً على أفكار وثقافة إنسان آخر ومزاجه الفكريّ، إذ ينبغي القبول بالتنوّع الفكريّ في مجتمع واحد طالما أنّ هذا الفكر لا يدعو للكراهية أو يحضّ على القتل أو العنصريّة أو ما شابه من الأمور التي تجرّمها القوانين، كما ينبغي، في الكثير من دول العالم.
ويمكنه أيضاً المطالبة بمنع فيلم بطلته تدعو لقتل الفلسطينيّين، دون أن يشكّل ذلك تضاربا. فالإنسان الذي يقاوم منعاً لفكر ومشاعر تعبّر عن نفسها في كتاب أو مسرحية أو أغنية بمطالبته بحرّية التعبير، هو في الحقيقة يقف ضدّ استلاب فكر الناس وحياتهم ومع حرّيتهم وكرامتهم البشريّة؛ ولهذا يمكنه أن يقف بنفس القوّة ضدّ الظالم الذي يُمعن في استلاب وقمع شعب آخر، دعما لحرّية ذاك الشعب، بأسلوب آخر ألا وهو أسلوب الضغط المعنويّ والماليّ-الاقتصاديّ على هذا الظالم ومَن يدعمه، من خلال منع بيع بضائعه ومنع التعامل مع كلّ ما يشكّل دعما ماليّا وعمليّاً أو حتّى رمزيّاً للظالم.
في الحالتين الإنسان يقاوم الظلم ويقف مع المظلوم، يقاوم القمع الفكريّ والجسديّ ويقف مع المقموع، وإن يكن الأسلوب متعارض: مرّة بالمطالبة بالسماح بالتعبير ومرّة بالمطالبة بمنع "تعبير" الظالم. الهدف يبقى نفسه ألا وهو الدفاع عن حياة الإنسان المظلوم المعنويّة والجسديّة.
المبادئ من أجل الإنسان لا الإنسان من أجل المبادئيتكلّم البعض عن المنع كأنّه شيء مرفوض من ناحية المبدأ، هذا موقف فيه شيء من عدم الوضوح ويحتاج لشيء من التمييز. الواقع أنّ المنع مفيد في بعض الحالات. فكما أنّ العنف سيّء إن كان يشكّل اعتداءً سافرا على حياة إنسان (خاصّة الأطفال)، فهو قد يكون ضروريّاً ومبرّرا عند حادث اعتداء على حياة الناس، ولهذا تحتاج الدول لشرطة وجيش يعملان تحت القانون. وهكذا أيضاً بالنسبة للمنع، فالمنع أمر تمارسه جميع الشعوب، فالمجتمعات تمنع السرقة والقتل وغيرهما من الأمور التي تشكّل اعتداء على الحياة الإنسانيّة.
عندما يقف الإنسان موقفا مبدئيّاً مع حرّية الرأي لا يفعل ذلك لأنّه ضدّ مبدأ المنع بحدّ ذاته، وإنّما لأنّه مع انتعاش حياة الإنسان وبالتالي ضدّ القمع الفكريّ الذي يمثّله منع كتاب أو فيلم أو مسرحيّة أو مجلّة. عند الدفاع عن حرّية التعبير ليس مبدأ رفض المنع هو لبّ القصيد، وإنّما لبّ القصيد هو الحياة الإنسانيّة التي يجب الدفاع عنها.
من هذه الزاوية يمكننا أن نفهم أنّه عندما تستطيع شفاء إنسان بسبب دواء لا بديل له، اخترعه شخص ينتسب لجهة ظالمة، وتعود أرباح مبيعاته لمؤسّسات تدعم ظلما ما حول الكوكب، فيمكنك أن تسمح لنفسك باستعمال ذاك الدواء، لأنّه نافع للإنسان المريض. ولكن إن نشرت كتابا أو روّجت لنتاج ثقافيّ يروّج للظلم أو يعود بالفائدة ولو حتّى المعنويّة على المحتلّ والظالم، أو دعمت مؤسّسة تدعم ظالماً، فإنّ عملك يصبّ في خدمة الظلم؛ ولهذا، انطلاقا من نفس المبدأ، مبدأ الدفاع عن الحياة الإنسانيّة وكرامة البشر، تقاطعين وتقاطع. تقاطعين وتقاطع لأنّ ذاك الكتاب أو النتاج أو المؤسّسة يخدم نظاما ظالماً، لأنّه بُرغيّ في آلة قمع إنسان أو شعب، وأنت تهدفين وتهدف أن يحيا الإنسان بكرامة وعدل.
فإن لم نقاطع (الدواء) أو قاطعنا (منتجات أُخرى) فللحياة الإنسانيّة نحن. نحن نقف مع الحياة الإنسانيّة التي هي أهمّ من المبادئ الصمّاء (حرّية تعبير، منع) التي يتمسّك بها البعض دون تمييز بين الحقّ والباطل، بين متى يجب الدفاع عن الحرّية ومتى يجب المطالبة بالمنع. مرّ رجل يوماً في فلسطين وقال ما معناه أنّ المبادئ جُعلت من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل المبادئ، وهذا الرجل المبدئيّ بالأساس والذي مات متمسّكا بمواقفه ليس بأقلّ من يسوع المسيح. المقاطعة ليست هدفا بحدّ ذاتها، هي وسيلة تحرير ضمن مجموعة ممكنة من الوسائل، وهي وسيلة شريفة تنسجم فيها الغاية مع الوسيلة.
كلّ شيء أو لا شيء!؟المقاطعة الثقافيّة والاقتصاديّة لإسرائيل هي مقاومة سلميّة أثبتت فاعليّة لا مجال لشرحها هنا، وهي أقلّ ما يمكن أن يقوم به مَن يؤمنون بمبدأ تحرير الإنسان من الظلم. هؤلاء يمكنهم أن يختلفوا على أهمية حملة مقاطعة ما، ولكن من غير الحكيم أن يُطالِب الإنسانُ نفسَه، أو غيره، بمقاطعة كلّ شيء أو لا شيء. فمن الذكاء والحكمة أن تختار المجموعة التي تقود المقاطعة في بلد ما، حملة مقاطعة تراها مناسبة بحسب تقديرها هي للعوامل المحيطة، ومنها عامل أهمية الموضوع الذي تسعى لمقاطعته، ومدى عودة حملة المقاطعة بالنفع على قضيّة التحرير الأساسيّة، حتى ولو كان النفع مجرد تسليط الضوء الإعلامي على مبدأ المقاطعة، وإيقاظ المواطنين من واقع الاستسلام والتخدير. لا يشكّل منع الفيلم اليوم خسارة مالية ضخمة لدولة الاحتلال، ولكنّه يشكّل بلا شكّ نصرا معنويّاً، والوضع المعنويّ أمر لا يستهان به في الصراعات كما يعرف تماماً كلّ من يتابع الألعاب الرياضيّة بين فرق متنافسة، فكيف بين دول.
ثمّ إنّ مجموعة المقاطعة في بلد ما ليست لامتناهية الجهد، أو لامتناهية العدد، أو لامتناهية الموارد (لا توجد موارد لا متناهية في أرض الواقع)، وبالتالي فإنّه من الحكمة والذكاء عدم هدر الجهود المحدودة على حملة قد تكون – باجتهاد المعنيين- غير نافعة حاليّاً، ولا تخدم جهود التحرير في الأوضاع والظروف القائمة في تلك اللحظة. إنّ الإصرار على خيار "كلّ شيء أو لا شيء" لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع، وبالتالي فيه الكثير من التسرّع. من يعتقد بالمقاطعة فليضع يده بيد الآخرين لتنمو قدرات المقاطعة، او فليقم بحملات مقاطعة ثقافية أو اقتصادية أو أكاديميّة أخرى يرى أنّ غيره مقصّراً بها. لا بأس من الاختلاف في وجهات النظر على أن يتمّ النقاش بشكل منطقيّ بهدف التعاون على الخير، لئلاّ تضيع الجهود في صراعات جانبية ومماحكات شبه هذيانيّة أحيانا، تهدر طاقات مهمّة. يكفي تشرذم الطوائف لا نضيفنّ إليه تشرذم المناضلين، وهم قلائل.
المنع فاشيّة؟اما النقد الذي يعتبر أنّ نجاح مجموعة صغيرة، بقوّة القانون، بفرض مقاطعة على أكثريّة بلد ما، يجعل منها مجموعة فاشيّة تتحكّم بالحرّية الشخصيّة للأكثرية (على افتراض أنّها أكثريّة، وقد تكون كذلك)، فمن المؤكد انّه نقد في غير محلّه لسببين: أولاً، يستطيع مَن يريد ان يشاهد الفيلم ان يشاهده على الانترنت إن هو أحب بعد بضعة أسابيع، كما يمكنه – إن أراد- ان يسعى الى ازالة القانون الذي يحظر التعامل مع اسرائيل. ثانياً، لأنّ من حقّ حتّى مجموعة صغيرة أن تستخدم القوانين المتاحة في بلد ما للدفع بخطّ ما ولو أثّر على الأكثرية، وأن تخالف هذه الأكثريّة، وأن تخالف قوانين حاليّة جائرة لفرض قوانين أكثر إنسانيّة، وأن تقاوم فكرَ أكثريّةِ لحظةٍ تاريخيّةٍ ما، بقوّة المنطق والحجّة والعمل الجاد والنشر والقوانين المتاحة. من يراجع التاريخ يرى أنّ الكثير من التقدّم النوعيّ للبشريّة قامت به أقلّية وحاربته الأكثريّة: كرويّة الأرض، دوران الأرض حول الشمس، فكرة المساواة بين البشر، حقوق العمّال، الإخاء بين البشر. عندما قامت تظاهرات بقيادة مارتن لوثر كينغ لتطالب بحقوق الأفارقة الأميركيين لم تكن تلك المجموعات المتظاهرة سوى أقلّية وكانت مخالفة للقانون الرسميّ! ليس من الفاشيّة أن تقوم مجموعة صغيرة، هي بالضرورة أقلّية، أثناء قيامها بتظاهرة بمنع المواطنين من السير بسيّاراتهم. ليس من الفاشية أن تقوم مجموعة صغرى من صحافيين بمنع تمرير أجندات الأكثرية الفاسدة من السياسيين في وسائل الإعلام، والاستمرار بالتحقيق في قضايا فساد. ليس من الفاشيّة أن تقوم أقلّية بالضغط على دور السينما لمنع عرض فيلم تقوم ببطولته إنسانة تدعم إسرائيل في قمعها لشعب بأكمله، وقتلها وسجنها للعديد من بناته وأبنائه وأطفاله. بالطبع هذا لا يعني ألاّ تستمرّ المجموعة الأقلّية السعي لإقناع الأكثرية بمبدأ المقاطعة.
الفرق بين من يمنع ما يدعم الاحتلال والظلم، ومن يمنع كتابا أو مسرحيّة أو فيلما لأنّه يمسّ بمشاعره الدينيّة أو الفكريّة هو أنّ الأوّل يهدف من خلال المنع إلى الدفاع عن حياة الناس وكرامتهم وهذا هدف سامٍ ومتعارف عليه أنّه خير، في كلّ المعايير الأخلاقيّة حول العالم؛ أمّا الثاني فيهدف من خلال المنع إلى فرض نظام واحد من الرؤية للوجود يجعل البشر يحيون في شبه عبوديّة. العبرة ليست في ضرورة رفض المنع بشكل مطلق وإنّما العبرة في الغاية والهدف من المنع. بالطبع قد تكون الوسائل قاتلة للأهداف (كأن يمنع الأب ابنه من الحيويّة لكي "يربّيه" أو يُخضع حاكم شعبا للقمع لأنّه يريد أن "يحميه") ولكن هذا ليس هو الوضع في حالتنا هذه. في حالتنا، حالة المقاطعة، الوسيلة تنسجم مع الغاية.
إن الحملة التي تطالب بمنع فيلم "المرأة الخارقة" هي حملة شريفة في أهدافها؛ والمنع الذي تسعى إليه مشروع حتّى ولو كان غير شرعيّ ومخالفاً للقانون (وهو ليس كذلك في لبنان). أمّا حملات منع أفلام وكتب فقط لأنّها تطرح فكرا مختلفا عن المتعارف عليه، فكرا غير عنصريّ ولا يدعو إلى الكراهية، فهي غير شريفة وغير مشروعة حتّى ولو كانت شرعيّة وقانونيّة.
ان لم تكن هذه الحملة الشريفة والمقاوِمَة لقوى الموت والظلام، لتؤدّي إلى منع الفيلم موضوع الحملة، فيكفيها أنّها تكون قد أبقت شعلة النقاش مشتعلة، وخضّت ضمير العديدين (وحتّى ولو كانوا أكثريّة)، وهي بذلك تكون قد نجحت وساهمت في التقدّم نحو النصر.
خريستو المرّ
فلسطين
- الأرض لنا
- حدود البلدان وحدود القلب
- فلسطين
- الفلسطينيّون وجه المسيح
- الإيمان المسيحي والمقاطعة وفلسطين
- جسدُ المسيح المرفوع في غزّة
- الثقافة والمقاطعة: أيّة علاقة؟
- الإنسان والمبادئ: حملة المقاطعة لإسرائيل
- خطاب المثقف العربي للمحتلّ هو المقاطعة
- أمين معلوف والمقاطعة
- الحبّ والمقاومة: مخاطر في كلام مرسيل خليفة
- فلسطين: وسائل تحرير عنفيّة أم لا عنفيّة؟
- زيارة البطريرك الراعي لإسرائيل
- دعوى المال ضدّ المقاومة
- مواجهة إسرائيل كمسؤوليّة إيمانيّة
- دعاية مذبحة