دعوى المال ضدّ المقاومة
الآداب، العدد ١٠ – ١٢، ٢٠١١
أقام السيّد جهاد المرّ دعوى على الدكتور سماح إدريس (رئيس تحرير مجلة "الآداب")، وعلى "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان"، و"مركز حقوق اللاجئين ـ عائدون"، و"حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (بي. دي. إس)"، بتغريمهم مائة وثمانين ألف دولار أميركيّ بحجة قيامهم بحملة ضد فرقة "بلاسيبو" التي استقدمها المرّ إلى بيروت في حزيران 2010. ذلك أنّ تلك الدعوة إلى المقاطعة أضرّت، بحسب السيّد المرّ، بنسبة الحضور. الجدير ذكره أنّ بلاسيبو فرقة موسيقى بريطانيّة كانت قد أحيت حفلاً في تل أبيب، بعد مجزرة أسطول الحرية (9 شهداء وعشرات الجرحى)؛ وصرّح مغنّيها الأساسي، بريان مولكو، ردّاً على سؤال صحفيّ إنْ كان ينبغي دعمُ إسرائيل في تلك المرحلة : "أفترضُ ذلك إذا قرّرتَ أن تركبَ البحر!"، مشيراً بذلك إلى أنّ الخطر في رأيه يكمن في أسطول الحرّية، وداعماً ـ من ثم ـ الانقضاضَ على الأسطول وقتل مناضلين عُزّل.
إنّ الإطار الذي تأتي به الدعوى لا يجعل منها دعوى عاديّة بين فريقين. هذه الدعوى ببساطة هي محاولة تكميم أفواه المحتجّين على دولة التمييز العنصريّ الإسرائيليّة والداعين إلى المقاطعة الاقتصاديّة والأكاديميّة والثقافيّة لدولة عنصريّة تسعى إلى الهيمنة، وهي دولةٌ عدوّ للبنان في جميع الأحوال!
إنّ الموضوع المطروح لا يتعلّق بحرّية التعبير فقط، ولا بحرّية الأعمال، ولا بغيرها من الحرّيات، إنّ الموضوع يتعلّق بحياة البشر، وبحياتهم بحرّية وكرامة. فمن المعروف أنّ الإنسان ليس "حرّاً" أن يقتل غيره. حرّية الإنسان لا تستقيم عندما يكون تصرّفه جرائميّاً، أو داعماً لجريمة، أو متغاضياً عن وقوع جريمة، ومشجّعاً بالتالي على تكرارها. قد يكون كثيرون في بلد مثل لبنان، يُستباح فيه القانون كلّ يوم من طرف طبقة سياسيّة فاسدة، قد تعوّدوا الجريمة؛ لكن هذا لا يجعل من الجريمة أمراً مقبولاً.
بناءً عليه، فإنّ فرقة بلاسيبو - ولا يهمّنا هنا مدى رقيّ الفنّ الذي تقدّمه – لم تتغاضَ فحسب، من خلا تصريحات مغنّيها الأساسيّ، عن جريمة بل هي قلبت الموازين أيضاً، لتصنع من المجرم ضحيّة ومن الضحيّة مجرماً. أي أنّها كانت تسير عكس كلّ الحسّ الإنسانيّ منذ ما قبل حمورابي، المشرّع الشهير، ومنذ ما قبل موسى. إنّ تصرّف بلاسيبو، المتجسّد بذلك التصريح، منافٍ لكلّ القواعد الأخلاقيّة، وهو بمثابة تشجيعِ مجرمٍ على متابعة جرائمه. وأمام ذلك، ليس بمقدور مَن امتلك أدنى حسّ إنسانيّ أن يقف مكتوف اليدين، وأن يفصل اصطناعيّاً بين موسيقى وأغاني بلاسيبو من جهة، وتصريحاتها الداعمة لقتل أناس عُزَّل، والمستهترة بحياة الفلسطينيّين، من جهة أخرى. بكلام آخر، لا يمكن الفصلُ بين عنصرّية مغنّي بلاسيبو التي تفوح من تصريحاته، وبين الأغاني التي تقدّمها الفرقة.
إنّ الاحتجاج الذي ساقته المجموعات المناهضة لدولة الفصل العنصريّ الإسرائيليّة، وستتابعه مهما كانت نتائجُ الدعوة المقامة عليها، ينطلق من مسلّمة واضحة: أولويّة حياة الإنسان وكرامته على "حرّية" تصرّف مجرمٍ قتل ويسعى إلى القتل. ولهذا فإنّ أصحاب هذا الاحتجاج يدعون إلى موقفٍ حازمٍ لضرب مصالح الاقتصاد الإسرائيليّ، وسحبِ الستار الثقافيّ والأكاديميّ الذي تسْتر بهما إسرائيلُ عورةَ لاأخلاقيّتها؛ وهدفهم من ذلك: الدفاع عن الشعب الفلسطينيّ، والأمانة لكونهم بشراً لم يتحوّلوا إلى ماكينات جني مالٍ وبرستيج.
إنّ الفلسطينيّين يخضعون منذ ثلاثة وستّين عاماً لاحتلال دولة عنصريّة تميّز بين يهوديّ وغير يهوديّ، وهم يتعرّضون، إضافة إلى القتل، لشتى صنوف الإذلال، والتنكيل، وتهديم المنازل، وتجريف الحقول، والاعتقال، والعزل بواسطة حائط الفصل العنصريّ الذي أقرّت محكمةُ العدل الدوليّة بانّه ـ كما كلّ بناء إسرائيليّ في الضفّة وغزّة والقدس الشرقيّة ـ غير مشروع. ويتعرّض الفلسطينيّون أيضاً لسياسة قضم متزايد للأراضي، وتسارع للاستعمار (الإسم الحقيقي للـ"إستيطان"). وغزّة، بالذات، تتعرّض لحصار قاتل بحيث لا يدخلها من حاجات السكّان إلاّ ما يكفي لمنع حدوث مجاعة، كما صرّح ريتشارد فالك، المقرّرُ الخاصّ للأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة.
إنّ دولة كهذه تنبغي مواجهتها انطلاقاً من كلّ المبادئ الإنسانيّة التي قامت عليها البشريّة. وكان من الأسلم أخلاقيّاً للسيّد المرّ أن يلغي بنفسه تلك الأمسية في بيروت، على أن يحاول أن يبرّر أسباب استمرارها. وهو يمكنه اليوم أن يسحب الدعوى الشائنةَ التي أقامها ضدّ الدكتور سماح إدريس ورفاقه.
أخيراً، ومن وجهة نظر مسيحيّة، وهي الديانة التي ينتمي إليها المرّ، فإنّ مواجهة إسرائيل تعني: (1) تحمّل مسؤوليّة الإيمان المسيحيّ الذي يتمحور حول المسيح الذي وحّد نفسه بالمستضعفين، (2) والسعي إلى إقامة العدل انطلاقاً من مقتضيات المحبّة. والأمران يقتضيان مقاومة الصهيونيّة كتيّار يتّخذ غطاءَ الإيمان الإبراهيميّ، تيّارٍ يدعو باسم الله فيما هو يعبد الشوفينية والعنصرية والتسلّط.
إنّ حركة المقاطعة هي أحد وجوه مقاومة الصهيونية، وستبقى حتّى تسقط الصهيونية، وستسقط.
خريستو المرّ
إنّ الإطار الذي تأتي به الدعوى لا يجعل منها دعوى عاديّة بين فريقين. هذه الدعوى ببساطة هي محاولة تكميم أفواه المحتجّين على دولة التمييز العنصريّ الإسرائيليّة والداعين إلى المقاطعة الاقتصاديّة والأكاديميّة والثقافيّة لدولة عنصريّة تسعى إلى الهيمنة، وهي دولةٌ عدوّ للبنان في جميع الأحوال!
إنّ الموضوع المطروح لا يتعلّق بحرّية التعبير فقط، ولا بحرّية الأعمال، ولا بغيرها من الحرّيات، إنّ الموضوع يتعلّق بحياة البشر، وبحياتهم بحرّية وكرامة. فمن المعروف أنّ الإنسان ليس "حرّاً" أن يقتل غيره. حرّية الإنسان لا تستقيم عندما يكون تصرّفه جرائميّاً، أو داعماً لجريمة، أو متغاضياً عن وقوع جريمة، ومشجّعاً بالتالي على تكرارها. قد يكون كثيرون في بلد مثل لبنان، يُستباح فيه القانون كلّ يوم من طرف طبقة سياسيّة فاسدة، قد تعوّدوا الجريمة؛ لكن هذا لا يجعل من الجريمة أمراً مقبولاً.
بناءً عليه، فإنّ فرقة بلاسيبو - ولا يهمّنا هنا مدى رقيّ الفنّ الذي تقدّمه – لم تتغاضَ فحسب، من خلا تصريحات مغنّيها الأساسيّ، عن جريمة بل هي قلبت الموازين أيضاً، لتصنع من المجرم ضحيّة ومن الضحيّة مجرماً. أي أنّها كانت تسير عكس كلّ الحسّ الإنسانيّ منذ ما قبل حمورابي، المشرّع الشهير، ومنذ ما قبل موسى. إنّ تصرّف بلاسيبو، المتجسّد بذلك التصريح، منافٍ لكلّ القواعد الأخلاقيّة، وهو بمثابة تشجيعِ مجرمٍ على متابعة جرائمه. وأمام ذلك، ليس بمقدور مَن امتلك أدنى حسّ إنسانيّ أن يقف مكتوف اليدين، وأن يفصل اصطناعيّاً بين موسيقى وأغاني بلاسيبو من جهة، وتصريحاتها الداعمة لقتل أناس عُزَّل، والمستهترة بحياة الفلسطينيّين، من جهة أخرى. بكلام آخر، لا يمكن الفصلُ بين عنصرّية مغنّي بلاسيبو التي تفوح من تصريحاته، وبين الأغاني التي تقدّمها الفرقة.
إنّ الاحتجاج الذي ساقته المجموعات المناهضة لدولة الفصل العنصريّ الإسرائيليّة، وستتابعه مهما كانت نتائجُ الدعوة المقامة عليها، ينطلق من مسلّمة واضحة: أولويّة حياة الإنسان وكرامته على "حرّية" تصرّف مجرمٍ قتل ويسعى إلى القتل. ولهذا فإنّ أصحاب هذا الاحتجاج يدعون إلى موقفٍ حازمٍ لضرب مصالح الاقتصاد الإسرائيليّ، وسحبِ الستار الثقافيّ والأكاديميّ الذي تسْتر بهما إسرائيلُ عورةَ لاأخلاقيّتها؛ وهدفهم من ذلك: الدفاع عن الشعب الفلسطينيّ، والأمانة لكونهم بشراً لم يتحوّلوا إلى ماكينات جني مالٍ وبرستيج.
إنّ الفلسطينيّين يخضعون منذ ثلاثة وستّين عاماً لاحتلال دولة عنصريّة تميّز بين يهوديّ وغير يهوديّ، وهم يتعرّضون، إضافة إلى القتل، لشتى صنوف الإذلال، والتنكيل، وتهديم المنازل، وتجريف الحقول، والاعتقال، والعزل بواسطة حائط الفصل العنصريّ الذي أقرّت محكمةُ العدل الدوليّة بانّه ـ كما كلّ بناء إسرائيليّ في الضفّة وغزّة والقدس الشرقيّة ـ غير مشروع. ويتعرّض الفلسطينيّون أيضاً لسياسة قضم متزايد للأراضي، وتسارع للاستعمار (الإسم الحقيقي للـ"إستيطان"). وغزّة، بالذات، تتعرّض لحصار قاتل بحيث لا يدخلها من حاجات السكّان إلاّ ما يكفي لمنع حدوث مجاعة، كما صرّح ريتشارد فالك، المقرّرُ الخاصّ للأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة.
إنّ دولة كهذه تنبغي مواجهتها انطلاقاً من كلّ المبادئ الإنسانيّة التي قامت عليها البشريّة. وكان من الأسلم أخلاقيّاً للسيّد المرّ أن يلغي بنفسه تلك الأمسية في بيروت، على أن يحاول أن يبرّر أسباب استمرارها. وهو يمكنه اليوم أن يسحب الدعوى الشائنةَ التي أقامها ضدّ الدكتور سماح إدريس ورفاقه.
أخيراً، ومن وجهة نظر مسيحيّة، وهي الديانة التي ينتمي إليها المرّ، فإنّ مواجهة إسرائيل تعني: (1) تحمّل مسؤوليّة الإيمان المسيحيّ الذي يتمحور حول المسيح الذي وحّد نفسه بالمستضعفين، (2) والسعي إلى إقامة العدل انطلاقاً من مقتضيات المحبّة. والأمران يقتضيان مقاومة الصهيونيّة كتيّار يتّخذ غطاءَ الإيمان الإبراهيميّ، تيّارٍ يدعو باسم الله فيما هو يعبد الشوفينية والعنصرية والتسلّط.
إنّ حركة المقاطعة هي أحد وجوه مقاومة الصهيونية، وستبقى حتّى تسقط الصهيونية، وستسقط.
خريستو المرّ
فلسطين
- الأرض لنا
- حدود البلدان وحدود القلب
- فلسطين
- الفلسطينيّون وجه المسيح
- الإيمان المسيحي والمقاطعة وفلسطين
- جسدُ المسيح المرفوع في غزّة
- الثقافة والمقاطعة: أيّة علاقة؟
- الإنسان والمبادئ: حملة المقاطعة لإسرائيل
- خطاب المثقف العربي للمحتلّ هو المقاطعة
- أمين معلوف والمقاطعة
- الحبّ والمقاومة: مخاطر في كلام مرسيل خليفة
- فلسطين: وسائل تحرير عنفيّة أم لا عنفيّة؟
- زيارة البطريرك الراعي لإسرائيل
- دعوى المال ضدّ المقاومة
- مواجهة إسرائيل كمسؤوليّة إيمانيّة
- دعاية مذبحة