التجسّد في حياتنا اليوميّة
|
من الكتاب
"كلّ فكر ينظر إلى جسد الإنسان نظرة احتقار وتجنّب وخجل (ولا أقول حياء) وعار، أي نظرة سلبيّة، هو فكر غير أرثوذكسيّ ويضرب بالتجسّد عرض الحائط، أراد أم لم يرد، علم أم لم يعلم. كلّ فكر سلبيّ نحو الجسد هو فكر أفلاطوني، أو مانويّ، يرى العالم مقسوما لروح خيّرة ومادة شرّيرة، ولا علاقة له بديانة التجسّد والفداء. في المقابل النظرة التي تقف عن حدود جسد الإنسان، وتختصر الإنسان بجسده، هي نظرة مختزلة للإنسان وتشوّهه بمسخه بمجرّد مجموعة خلايا، وحاجات بيولوجيّة. هكذا نظرة، لا تستقيم مع الإيمان الأرثوذكسيّ بالتجسّد تجسُّدُ ابنِ الله قد افتدى الجنس أيضاً، بحيث أنّ النعمة التي احتضنت الإنسان، احتضنت الجنس أيضاً. وكما يمنحنا الله نعمة الروح القدس لكي نلاقيه بأجسادنا، ونلاقيه بفكرنا، يمنحنا أن نلاقيه بجنسنا، إذ يصير الجنس فينا طاقة لقاء بالآخرين، طاقة ترفد المحبّة، وتضخّ فينا الحيويّة، والبهجة، إن عِشنا هذه الطاقة باللقاء الجسديّ بين الحبيب والحبيبة، أم عشناها بإعلائها كطاقة حياة تُفَتِّح قلوبَنا للّقاءِ بعمقٍ مع الآخرين. الجنس بلا وجه هو انغلاق على الذات، وبالتالي خطيئة لأنّنا نكون قد أخطأنا الهدف: المحبّة، لقاء الآخرين والله في الآخرين؛ أمّا إن كان الوجه هو المسعى، تحوَّلَ الجنس إلى طاقة لقاء. أنّ النسك في أصالته غير موجّه ضدّ الجسد إطلاقاً، ولا هو تعبير عن كراهية للجسد أو احتقار له (فهذا كلّه مناف للإيمان بالتجسّد) وإنّما هو موجّه ضدّ الأهواء السيّئة. النسك هو صراع ضدّ الخطيئة وليس ضدّ الجسد، هو صراع ضدّ "إخطاء الهدف" (وهذا المعنى الأصلي لكلمة "الخطيئة")، هو نشاطٌ من أجل تصويب الهدف. الجسد مكان لقاءٍ، أمّا عندما يصير مكان انغلاق، فعندها يكون "لحميّاً"، ونكون في خطيئة لأنّنا نخطئ هدف الإنسان، ألا وهو أن يلاقي اللهَ والآخرين بكلّية وجوده، ومن ضمن هذا الوجود الجسد. الصراع هو كي لا يصير الجسد "لحما"، أي في حالة انفصال عن محبّة الله والآخرين؛ ولهذا كان الأب الراهب بيمن يقول بأنّه "لقد تعلّمنا أن نقهر الأهواء لا أن نقهر الجسد"، وكبرى الخطايا هي خطيئة غير "جسديّة"(بالتعبير الشائع)، ألا وهي الكبرياء، فـ"الخطيئة تبدأ وتنتهي بإرادة الإنسان"، كما يقول القدّيس نيلوس السينائيّ، إرادة الإنسان التي تنفتح على نعمة الله، أو تنغلق عليها. هناك خطران إيـمانيّان يتهدّدانا كمسيحيّين: الخطر الأوّل هو نسيان أولويّة الله الكيانيّة والانغماس في هذا العالم والبقاء في حدوده، ممّا يجعلنا على شاكلة هذا العالم، من هذا العالم (مخالفين بذلك الرؤية القائمة في صلاة يسوع)؛ والخطر الثاني هو الهروب من هذا العالم في نوع من أنواع المونوفيزيّة، في طهريّة (وليس طهارة) تتنكّر للعالم المخلوق والمُفتدى، طُهريّة تتصرّف وكأنّ هذا العالم شرّ لا بدّ منه، بينما هو مخلوق محبوب من الله الذي تجسّد متّخذاً مادة هذا العالم، هذه المادّة التي صارت بعد قيامة يسوع بالجسد، في قلب الثالوث. في الإطار العربيّ قضيّتا الحرّية والعدالة الاجتماعيّة، معاً، هما أولويّة في كلّ بلد؛ والأولويّة الكبرى هي للظلم الأكبر الواقع على شعب بأكمله تهجّر من أرضه وهو مشتّت اليوم في البلاد العربيّة كلّها، ويعاني من بقي منه في أرض أجداده التمييزَ العنصريّ والقمع والتقتيل والتجويع، إنّه الشعب الفلسطينيّ. إنّ أيّة كراهية وحقد على شعب بأكمله هي عنصريّة مهما كانت الأسباب "المنطقيّة" التي يمكن أن تُعطى؛ بل بناء على إنجيل الدينونة. كلّ توانٍ عن دعم قضيّة الشعب الفلسطينيّ، كما عن أيّة قضيّة إنسانيّة مُحِقَّة، يبعد قلوبنا عن المسيح، إذ لن نستطيع أن نقول له "يا ربّ متى رأيناك مشرّدا وجائعا ومظلوما ومفقّراً ومهجّراً مطروداً ومسحوقاً ومعتدى عليك ولم ندافع عنك"، لأنّه سيجيبنا "كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء المظلومين فبي لم تفعلوه".
خريستو المرّ
"كلّ فكر ينظر إلى جسد الإنسان نظرة احتقار وتجنّب وخجل (ولا أقول حياء) وعار، أي نظرة سلبيّة، هو فكر غير أرثوذكسيّ ويضرب بالتجسّد عرض الحائط، أراد أم لم يرد، علم أم لم يعلم. كلّ فكر سلبيّ نحو الجسد هو فكر أفلاطوني، أو مانويّ، يرى العالم مقسوما لروح خيّرة ومادة شرّيرة، ولا علاقة له بديانة التجسّد والفداء. في المقابل النظرة التي تقف عن حدود جسد الإنسان، وتختصر الإنسان بجسده، هي نظرة مختزلة للإنسان وتشوّهه بمسخه بمجرّد مجموعة خلايا، وحاجات بيولوجيّة. هكذا نظرة، لا تستقيم مع الإيمان الأرثوذكسيّ بالتجسّد تجسُّدُ ابنِ الله قد افتدى الجنس أيضاً، بحيث أنّ النعمة التي احتضنت الإنسان، احتضنت الجنس أيضاً. وكما يمنحنا الله نعمة الروح القدس لكي نلاقيه بأجسادنا، ونلاقيه بفكرنا، يمنحنا أن نلاقيه بجنسنا، إذ يصير الجنس فينا طاقة لقاء بالآخرين، طاقة ترفد المحبّة، وتضخّ فينا الحيويّة، والبهجة، إن عِشنا هذه الطاقة باللقاء الجسديّ بين الحبيب والحبيبة، أم عشناها بإعلائها كطاقة حياة تُفَتِّح قلوبَنا للّقاءِ بعمقٍ مع الآخرين. الجنس بلا وجه هو انغلاق على الذات، وبالتالي خطيئة لأنّنا نكون قد أخطأنا الهدف: المحبّة، لقاء الآخرين والله في الآخرين؛ أمّا إن كان الوجه هو المسعى، تحوَّلَ الجنس إلى طاقة لقاء. أنّ النسك في أصالته غير موجّه ضدّ الجسد إطلاقاً، ولا هو تعبير عن كراهية للجسد أو احتقار له (فهذا كلّه مناف للإيمان بالتجسّد) وإنّما هو موجّه ضدّ الأهواء السيّئة. النسك هو صراع ضدّ الخطيئة وليس ضدّ الجسد، هو صراع ضدّ "إخطاء الهدف" (وهذا المعنى الأصلي لكلمة "الخطيئة")، هو نشاطٌ من أجل تصويب الهدف. الجسد مكان لقاءٍ، أمّا عندما يصير مكان انغلاق، فعندها يكون "لحميّاً"، ونكون في خطيئة لأنّنا نخطئ هدف الإنسان، ألا وهو أن يلاقي اللهَ والآخرين بكلّية وجوده، ومن ضمن هذا الوجود الجسد. الصراع هو كي لا يصير الجسد "لحما"، أي في حالة انفصال عن محبّة الله والآخرين؛ ولهذا كان الأب الراهب بيمن يقول بأنّه "لقد تعلّمنا أن نقهر الأهواء لا أن نقهر الجسد"، وكبرى الخطايا هي خطيئة غير "جسديّة"(بالتعبير الشائع)، ألا وهي الكبرياء، فـ"الخطيئة تبدأ وتنتهي بإرادة الإنسان"، كما يقول القدّيس نيلوس السينائيّ، إرادة الإنسان التي تنفتح على نعمة الله، أو تنغلق عليها. هناك خطران إيـمانيّان يتهدّدانا كمسيحيّين: الخطر الأوّل هو نسيان أولويّة الله الكيانيّة والانغماس في هذا العالم والبقاء في حدوده، ممّا يجعلنا على شاكلة هذا العالم، من هذا العالم (مخالفين بذلك الرؤية القائمة في صلاة يسوع)؛ والخطر الثاني هو الهروب من هذا العالم في نوع من أنواع المونوفيزيّة، في طهريّة (وليس طهارة) تتنكّر للعالم المخلوق والمُفتدى، طُهريّة تتصرّف وكأنّ هذا العالم شرّ لا بدّ منه، بينما هو مخلوق محبوب من الله الذي تجسّد متّخذاً مادة هذا العالم، هذه المادّة التي صارت بعد قيامة يسوع بالجسد، في قلب الثالوث. في الإطار العربيّ قضيّتا الحرّية والعدالة الاجتماعيّة، معاً، هما أولويّة في كلّ بلد؛ والأولويّة الكبرى هي للظلم الأكبر الواقع على شعب بأكمله تهجّر من أرضه وهو مشتّت اليوم في البلاد العربيّة كلّها، ويعاني من بقي منه في أرض أجداده التمييزَ العنصريّ والقمع والتقتيل والتجويع، إنّه الشعب الفلسطينيّ. إنّ أيّة كراهية وحقد على شعب بأكمله هي عنصريّة مهما كانت الأسباب "المنطقيّة" التي يمكن أن تُعطى؛ بل بناء على إنجيل الدينونة. كلّ توانٍ عن دعم قضيّة الشعب الفلسطينيّ، كما عن أيّة قضيّة إنسانيّة مُحِقَّة، يبعد قلوبنا عن المسيح، إذ لن نستطيع أن نقول له "يا ربّ متى رأيناك مشرّدا وجائعا ومظلوما ومفقّراً ومهجّراً مطروداً ومسحوقاً ومعتدى عليك ولم ندافع عنك"، لأنّه سيجيبنا "كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء المظلومين فبي لم تفعلوه".
خريستو المرّ