الإيمان بين المحبّة وعبادة الأصنام: مقاربة إيمانيّة
|
ختم يوحنا الإنجيلي رسالته الأولى، متوجها الى المؤمنين، بقوله : " أيها الأولاد إحفظوا أنفسكم من الأصنام" ( 1 يو 5 : 21 ). ما هي الأصنام التي تواجه المؤمنين ؟ كيف يتلمّس كلّ واحد منّا مدى انسجام حياته وأفكاره مع بشارة الفرح التي أتى بها يسوع للعالم، و مع إيمانه بالله كإله حبّ وحياة ؟
بين أصنام الطبيعة والكون وأصنام الأنا الخائفة الى أصنام البنى الدينية والمجتمع، يكشف هذا الكتاب تجربة الصنمية في تنوع أشكالها في مقاربة كتابية إيمانية. يتجلى للقارئ في هذه الرحلة توق الإنسان الأصيل الى الله الذي لا يُروى إلا عن طريق محبّته في علاقة شخصيّة تمرّ حُكماً بمحبّة الناس حتى ينطلق الى رحاب الحرية الكبرى في لقاء الوجوه
بين أصنام الطبيعة والكون وأصنام الأنا الخائفة الى أصنام البنى الدينية والمجتمع، يكشف هذا الكتاب تجربة الصنمية في تنوع أشكالها في مقاربة كتابية إيمانية. يتجلى للقارئ في هذه الرحلة توق الإنسان الأصيل الى الله الذي لا يُروى إلا عن طريق محبّته في علاقة شخصيّة تمرّ حُكماً بمحبّة الناس حتى ينطلق الى رحاب الحرية الكبرى في لقاء الوجوه
المقدّمة
إنّ المتأمّل في مجتمعاتنا لا بدّ أن يُصاب بالصدمة من الفصام الواضح بين إعلان الغالبيّة العظمى من الناس إيمانهم بالله وبين الواقع الحياتيّ الذي نعيشه: استبداد، فساد، تكفير، تعصّب، طائفيّة، استعلاء دينيّ، استعلاء طائفيّ، كراهية، مذهبيّة، احتكار الله والخلاص، استعلاء عرقيّ (عنصريّة)، استعلاء وطنيّ (قوميّة متعصّبة)، لهاث وراء المال، لهاث وراء الشهرة، لهاث وراء السلطة، لهاث وراء الاستهلاك، عبادة الشخص في السياسة، عبادة الشخص في الدين، إلخ.بالطبع وسط كلّ هذا هناك الكثير من الجمالات، ومن الحبّ، ومن الصداقة، ومن البذل، ومن المشاركة، ومن النضال اللاعنفيّ، ومن التعاضد بين الناس، ولكن من الواضح أنّ بلادنا تمرّ بأزمات إنسانيّة عامّة، في أزمة إنسانيّة حقيقيّة، وهي أزمة إيمانيّة حقيقيّة، إذ أنّ الأمثلة السابقة تعكس انفصاماً بين الفكر والممارسة اليوميّة. ألا نلاحظ كلّنا انفصالاً واسعاً بين الفكر والكلام حول مقتضيات الإيمان من جهة، والممارسة الحياتيّة اليوميّة من جهة أخرى؟ ألا يبدو لنا أحيانا كثيرة بأنّ الإيمان بالله غدا لفظيّاً، إذ أنّ مقتضياته غائبة عن الحياة اليوميّة؟ لا يمكننا إلاّ أن نلاحظ أنّه كثيراً ما نقيم في أذهاننا وقلوبنا صنماً للعبادة عوض الله، أكانت ذلك الصنم صنم العشيرة العائليّة، أو القبيلة الدينيّة، أو القبيلة الطائفيّة، أو المال، أو التسلّط، أو الشهرة، أو الرموز الدينيّة والوطنيّة، أي في النهاية صنم الأنا، أكانت فرديّة تلك الأنا أم جماعيّة.
لقد لاحظ كتّاب مسيحيّون عديدون الانزلاق إلى تعامل صنميّ مع الله، وتطرّقوا لماماً إلى هذه الظاهرة، كلّ من منظار. فرادة هذا الكتاب تكمن في أنّه يتطرّق إلى الموضوع مواجهة وبشكل مركّز، فيتتّبع آثاره في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، وفي التاريخ الكنسيّ، ثمّ يُلقي نظرة فاحصة على مجتمعاتنا اليوم لكي يشير إلى الأصنام الحاليّة المتخفّية، والتي نعبدها أحيانا دون وعيٍ، فيختلط زؤان الصنميّة فينا بقمح الإيمان. علّ هكذا نظرة فاحصة، على صعوبتها، وما تثيره فينا من رفض وإنكار، ومن غضب أحياناً، تساهم إيجاباً في مسيرة الخروج بصنميّتنا إلى مستوى الوعي، لكيما نحاول على ضوء الإيمان بالله وعونه، وعون بعضنا البعض، أن ننقّي إيماننا ممّا اختلط به من أوهام.
إنّ هذا الكتاب ينطلق من رؤية أساس ألا وهي أنّ الإنسان ليس آلة معقّدة، وإنّما شخص. لا يمكن لإنسان أن يعرف إنساناً آخر بالعقل وبالتحليل فقط، أو بالمشاعر فقط، وإنّما من خلال علاقة شخصيّة به تتضمّن كلّ الكيان. من خلال هذه العلاقة قد يؤخذ الإنسان بأوهامه حول شخص الآخر، أو أحلامه بالشخص الآخر، أو مخاوفه من الشخص الآخر، وعندها لا يمكنه أن يعرف هذا الآخر، بل يبقى يدور في محور ذاته وأفكاره عن الآخر، كمن ينظر في مرآة، ويبقى هكذا الآخر غريبا إلى حدّ كبير أو صغير عنه. وبالعكس، يمكن للإنسان أن يحاول أن يتجاوز أحلامه ورغباته ومخاوفه ليلاقي الآخر في حقيقته الفريدة، وعندها يعرفه من خلال اللقاء العميق به أي من خلال محبّته، وهذه مسيرة تستمرّ طوال العمر.
الله شخص وليس هو مجرّدة قوّةٍ ما خلقت الكون. ولأنّ الله شخص، لا يُعرَفُ الله حقيقةً إلاّ من خلال العلاقة؛ من هنا فإنّ معرفة الله تكمن في الدخول بعلاقة معه. ولكن إن اختزلت العلاقة بأوهامنا وأحلامنا وحاجاتنا ومخاوفنا عن الله، فإنّنا نبقى في غربة عنه كشخص، ونبقى أسيرين أنفسنا: مشاريعنا التي نريد الله أن يحقّقها، مصالحنا التي نريد من الله أن يدافع عنها، مخاوفنا التي نرى من خلالها الله. أي في النهاية، نبقى، كما في حالة التعامل مع إنسان آخر، غريبين إلى حدّ ما عن شخص الآخر-الله. إذاً كما في علاقتنا مع إنسان آخر، لكي تكون علاقة له علاقة معه هو، ومعرفتنا له معرفة له هو، يجب أن نحقّق لقاءً عميقاً به هو، وذلك بأن نحبّه،. لنعرف الله يجب أن ندخل بعلاقة محبّة معه هو بحقيقته، هو الآخر المطلق، هو مَنْ هو.
ولكن مَنْ هو الله؟ إنّ الله محبّة، كما قال يوحنّا. هذا هو التعريف الأبرز الذي يَرِدُ في الإنجيل عن الله. لكن بما أنّ الله محبّة فإنّ معرفة الله، أي الدخول بعلاقة مع الله، لا يمكن أن يتمّ إلاّ بممارسة علاقة محبّة معه ومع الناس، وذلك لكي يكون الإنسان قادرا على التواصل مع الله-المحبّة. عندما نقول أنّ الله محبّة، هذا يعني أنّ الثالوث هو ثالوث محبّة، أنّ المحبّة هي طريقة الحياة الإلهيّة في الثالوث، ولهذا تحدّث القدّيس مكسيموس عن "حركة الحبّ الأبديّة" في الثالوث. إن أحبّ الإنسان، الله (والآخرين حُكماً)، يمكنه عندها أن يكون في تناغم مع طريقة الحياة الإلهيّة، وأن ينفتح بالتالي على هذه الحياة الإلهيّة، على الله، ليتّحد به، و"يعرفه" بالخبرة، إن صحّ التعبير. بالطبع، الله هو الـمحبّة، وهو الخالق، هو إذاً نبع المحبّة الإنسانيّة، وبالتالي لا يتمكّن الإنسان من المحبّة فعلاً، إلاّ بنعمة من الله، أي بمعونة الله، لأنّ الله هو الذي يمدّنا بطاقة المحبّة كلّ لحظة، كما يمدّنا بالوجود كلّ لحظة.
إذا كانت معرفة الله هي في محبّته، إلاّ أنّنا نعلم أنّ الإنسان لا يمكنه أن يحبّ الله الذي لا يراه إلاّ إذا أحبّ الإنسان الآخر الذي يراه أمامه، كما قال يوحنّا. معرفة الله هي، إذا، في الوقت نفسه محبّة الله ومحبّة الآخر. هذه المعرفة-العلاقة، تمدّ الإنسان بالحياة الإلهيّة، تؤلّهه بالنعمة، ليصير ابنا لله بالتبنّي. إنّ الإيمان بالله، في المسيحيّة، يرتكز على هذه الرؤية، فـ"الإله أصبح إنسانا ليصير الإنسان إلها"، كما قال القدّيس أثناسيوس الكبير، وقبله القدّيس إيريناوس؛ ويعتقد المسيحيّون أنّ هذا التألّه يتمّ بيسوع المسيح، في الكنيسة،كنيسة الروح القدس.
هذا الواقع، هذا الطريق في الحياة، طريق التألّه بالمحبّة، موجودٌ لأنّ الله محبّة ولأنّه خلق الإنسان على صورته ومثاله، على صورة المحبّة. إنّ الطريق التي تسمح للإنسان بأن يكون إنساناً، أي أن يحقّق ملء إنسانيّته، هي طريق تفعيل طاقة المحبّة فيه، طريق عيش المحبّة وتنميتها؛ أي بتعبير كتابيّ، هي طريق الانطلاق من صورة الله فينا، لنحقّق مثال الله، لنتألّه. وكلمة الله أمدّنا يإمكانيّة هذا العيش بتجسّده وموته وقيامته وارساله الروح القدس في العنصرة.
التألّه يُعاش عن طريق عيش المحبّة لله والآخرين، إذاً. لكنّ كي يحبّ الإنسان يقتضي أن يكون حرّاً لأنّ الحرّية هي شرط الحبّ. بدون حرّية لا نصل إلى حبّ ولقاء وإنّما إلى تسلّط وخضوع. لهذا لكي نحبّ يجب أن نكون أحراراً.
إلاّ أنّ المحبّة بدورها هي أيضاً شرط الحرّية، لأنّ بدون المحبّة ننغلق على ذواتنا، ونصير بالتالي عبيداً لهذا الانغلاق، وللشهوات الناتجة عنه (أنانيّة، تسلّط...)، ونفقد بالتالي حرّيتنا، لأنّ تلك الشهوات تصير تسيّرنا، تستعبدنا، تستعملنا لتنمو، تضعضع إنسانيّتنا وتمزّقنا من الداخل. ولهذا لكي نكون أحراراً يجب أن نحبّ.
هكذا، فمن أجل أن يحقّق الإنسان إنسانيّته، ويحيا بالفعل إيمانه بالله، يجب أن يكون مُحِبّاً وحرّا في نفس الوقت. أن يحبّ الإنسان (الله والآخرين) وان يكون حرّاً، هو السبيل الوحيد لكي يصبح على شبه الله، لأن بالحب والحرية نصبح واحدا مع الله-المحبّة.
لكنّ ما معنى أن نحبّ؟ المحبّة ليست إلاّ العيش بحسب نمط الحياة الإلهيّة، نمط حياة الله-الثالوث، إلى الحدّ الأقصى، وهذا يعني: أن يكون المرء متّحداً مع أشخاص آخرين دون أن يفقد تمايزه، أي أن يحيا كما يحيا الثالوث الواحد. فالثالوث ليس حقيقة مجرّدة، أو فكرة، بل واقع الحياة نفسها، وجذر وجودنا، بل هو الوجود الحقّ نفسه. أن يحبّ الإنسان هو أن يتّحد بآخر دون أن يفقد ذاته، هو أن يسعى إلى الوحدة بآخر، محافظاً على التمايز بينهما، على صورة الثالوث.
يسعى هذا الكتاب إلى إيضاح هذه الرؤية الإيمانيّة، ويبيّن كيف أنّ معطيات علوم النفس تؤكّد هذا اللاهوت الأرثوذكسيّ، ويُظهر كيف أن انحراف الإنسان عن هذه الحقيقة، حقيقة الحبّ والحرية، حقيقة الاتّحاد في التمايز، حقيقة الله-الثالوث، يسمّم علاقته بالله، وبالآخرين، وبنفسه، ويدفعه إلى خلق أصنام مدمّرة له ولغيره.
خلال حياتنا، نحن لا محالة أمام خيارين: إمّا أن نختار بين أن نعيش حياة حقيقيّة، مع الله والآخرين، من خلال إيمان حقّ بالله مترجماً محبّة له وللناس، أو أن نختار أن نعيش في الأوهام، في عبادة الأصنام. الخيار الذي أمامنا هو خيارٌ بين المحبّة وبين عبادة الأصنام. إن لم يؤدِّ الإيمان إلى تقدّم في المحبّة تدهورَ لا محالة إلى عبادات صنميّة. لماذا؟ لأنّنا مخلوقات لا يمكنها أن تعيش في عزلة، لهذا نسعى للمحبّة أي للوحدة في التمايز، ولهذا إن لم نتّحد بالآخرين عن طريق المحبّة والحبّ، سنجد أنفسنا مدفوعين أن نسعى إلى تحقيق الاتّحاد بالآخرين وهميّاً. إن لم يؤمن الإنسانُ حقيقةً، إن لم يسِر حقيقةً في درب المحبّة، درب تنقية إيمانه من أوهامه، سوف يندفع كي يختار أوهاماً يظنّها تحقّق له وحدةً مع الآخرين، يندفع أن يختار إمّا أتّحاداً وهميّاً عن طريق التحكّم بالآخرين أو عن طريق الخضوع لهم، لأنّ في الحالتين يشعر الإنسان وهميّاً بأنّه غير معزول، ولكنّه في الحالتين يكون يُقيم صنماً وينحني له، أكان ذلك الصنم صنم التسلّط، أو الخضوع، أو القبيلة، أو الوطن، أو الدين، أو الطائفة، أو العائلة، أو المال، أو الفكر، أو الذات...
سنحاول في هذا الكتاب تتبّع هذا الصراع الإنسانيّ بين الإيمان بالله وبين عبادة الأصنام، كما تجلّى في العهد القديم وفي العهد الجديد، ملقين الضوء على مسيرة يسوع بيننا من خلال هذه الزاوية، زاوية الصراع بين المحبّة التي تقتضيها العلاقة بالله، وخطر الانزلاق إلى وهم الأصنام. ثمّ سنشير إلى التصرّفات الصنميّة في التاريخ المسيحي، لنصل إلى مقاربة لهذه الصنميّة في تاريخنا الحاليّ. قد يختلف القارئ معي أو يتّفق في أمر أو آخر، وفي الحالتين أرجو أن يكون التحليل الوارد في هذا الكتاب - كما كان لي- مجالاً ليعيد النظر بالمسلّمات التي يراها في مجتمعه اليوم، وفي حياته الشخصيّة، فيراجع مواقفه الإيمانيّة-الحياتيّة العميقة. وبطبيعة الحال لا يمكن لهذا التحليل، أن يكون شاملاً لموضوع الصنميّة، ولا شاملاً للتاريخ الكنسيّ، ولا لمختلف الأصنام المعاصرة، ونحن نتوقّع من القارئ أن يغيّر هذا الكتاب في طريقة تقييمه لخبرات حياته والحياة حوله ليتنبّه إلى أصنام لم يذكرها الكاتب في هذا الكتاب، وأن يوصل رأيه إلى الكاتب بالبريد الإلكتروني إن أراد ([email protected])، كما نأمل أن تقوم مجموعات إيمانيّة، بالنقاش بينها حول الأصنام المعاصرة التي يرونها تهدّد إيمانهم، وتهدّد حياتهم النفسيّة والروحيّة وحتّى الجسديّة.
في نهاية الكتاب قد يتكوّن عند القارئ جملة من الأسئلة، منها التالية، كيف يحدث الانزلاق إلى الأصنام؟ وهل من ظروف تؤثّر فينا وتدفعنا في اتّجاهٍ حياتيّ معاكس للمحبّة، في اتّجاهِ عبادة الأصنام؟ لم كلّ هذا التدهور إلى الكراهية واستخدام الله والدين والطائفة لتحقيق المصالح ولقمع الآخرين وسحقهم؟ لم هذه الشراهة للتسلّط والشهرة والمال؟ لم هذا التدهور الإنسانيّ في القتل والاستعلاء والعنصريّة؟ لم هذه العبوديّة لحمّى الاستهلاك؟ لم كلّ هذه الأصنام التي نراها حولنا هنا وهناك؟ هل نحن مخلوقون هكذا، ولا يمكننا أن نغيّر مصيرنا على هذه الأرض؟ هل أنّ "قَدَرَ" مصيرنا أن يكون موسوماً بالحروب، والاستغلال، والتسلّط والخضوع؟ هل هذا الواقع هو من "طبيعة" الإنسان ولا مجال لتغييره؟ أم أنّ هناك عالماً آخر ممكنٌ؟ وكيف يكون ممكناً؟ كيف يمكننا أن نخرج من هذا الوضع؟ كيف يمكننا أن نتوب؟ أي كيف يمكننا أن نتغيّر (والتوبة تعني بالأصل تغيير الذهن) كي نتّجه نحو الهدف من جديد، كي لا نخطئ الهدف (وكلمة "الخطيئة" تعني بالأصل "إخطاء الهدف")؟ كيف يمكننا أن نتيح لبعضنا البعض المجال كي لا نخطئ هدف التألّه، هدف ترجمة الإيمان محبّة لله والبشر، في ملكوتِ مشاركةٍ نرسم تباشيره منذ اليوم؟ على هذه الأسئلة سنحاول أن نجيب في كتاب قادم، انتهى اعداده، كتابٌ يحلّل الأسباب الكامنة وراء هذا الانزلاق إلى التعامل الصنميّ من خلال ثلاثة مستويات: المستوى الروحي (الإيمان المسيحيّ)، المستوى النفسي، والمستوى الاجتماعي-السياسي-الاقتصاديّ؛ ثمّ يطرح رؤية للآفاق التي تكمن فيها مشاريع حلول للخروج من العبادات الصنميّة.
لقد فضّلنا أن نلقي الضوء على الواقع الفصاميّ وتعارضه مع مقتضيات الإيمان أوّلاً في هذا الكتاب، ثمّ نحلّل بعض أسباب هذا الواقع ونطرح رؤية للحلول الممكنة، في كتاب ثانٍ، وذلك حتّى لا يكون الكتاب ضخما بشكل تصعب قراءته في زمن خفتت فيه القراءة. ولكن بدا لنا لاحقا أنّ هناك إيجابيّة أُخرى لوضع الكتاب في جُزأين، ألا وهي أنّ ذلك سيمنح القارئ، والمجموعات التي يمكن أن تقرأ وتناقش محتوى هذا الجزء الأوّل، مجالاً كي يتفكّروا بهذا الواقع، ويحاولوا أن يتبيّنوا معا أسبابه، وسُبُلاً ممكنة للخروج منه، فيكون ذلك العمل الذاتيّ والجماعيّ مقدّمةً لقراءةٍ أكثر فائدة ومُتعةً للجزء الثاني القادم، إذ يمكنهم عندها أن يكونوا مشاركين بفعاليّة في القراءة، ويقوموا بقراءة نقديّة له.
إنّ المتأمّل في مجتمعاتنا لا بدّ أن يُصاب بالصدمة من الفصام الواضح بين إعلان الغالبيّة العظمى من الناس إيمانهم بالله وبين الواقع الحياتيّ الذي نعيشه: استبداد، فساد، تكفير، تعصّب، طائفيّة، استعلاء دينيّ، استعلاء طائفيّ، كراهية، مذهبيّة، احتكار الله والخلاص، استعلاء عرقيّ (عنصريّة)، استعلاء وطنيّ (قوميّة متعصّبة)، لهاث وراء المال، لهاث وراء الشهرة، لهاث وراء السلطة، لهاث وراء الاستهلاك، عبادة الشخص في السياسة، عبادة الشخص في الدين، إلخ.بالطبع وسط كلّ هذا هناك الكثير من الجمالات، ومن الحبّ، ومن الصداقة، ومن البذل، ومن المشاركة، ومن النضال اللاعنفيّ، ومن التعاضد بين الناس، ولكن من الواضح أنّ بلادنا تمرّ بأزمات إنسانيّة عامّة، في أزمة إنسانيّة حقيقيّة، وهي أزمة إيمانيّة حقيقيّة، إذ أنّ الأمثلة السابقة تعكس انفصاماً بين الفكر والممارسة اليوميّة. ألا نلاحظ كلّنا انفصالاً واسعاً بين الفكر والكلام حول مقتضيات الإيمان من جهة، والممارسة الحياتيّة اليوميّة من جهة أخرى؟ ألا يبدو لنا أحيانا كثيرة بأنّ الإيمان بالله غدا لفظيّاً، إذ أنّ مقتضياته غائبة عن الحياة اليوميّة؟ لا يمكننا إلاّ أن نلاحظ أنّه كثيراً ما نقيم في أذهاننا وقلوبنا صنماً للعبادة عوض الله، أكانت ذلك الصنم صنم العشيرة العائليّة، أو القبيلة الدينيّة، أو القبيلة الطائفيّة، أو المال، أو التسلّط، أو الشهرة، أو الرموز الدينيّة والوطنيّة، أي في النهاية صنم الأنا، أكانت فرديّة تلك الأنا أم جماعيّة.
لقد لاحظ كتّاب مسيحيّون عديدون الانزلاق إلى تعامل صنميّ مع الله، وتطرّقوا لماماً إلى هذه الظاهرة، كلّ من منظار. فرادة هذا الكتاب تكمن في أنّه يتطرّق إلى الموضوع مواجهة وبشكل مركّز، فيتتّبع آثاره في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، وفي التاريخ الكنسيّ، ثمّ يُلقي نظرة فاحصة على مجتمعاتنا اليوم لكي يشير إلى الأصنام الحاليّة المتخفّية، والتي نعبدها أحيانا دون وعيٍ، فيختلط زؤان الصنميّة فينا بقمح الإيمان. علّ هكذا نظرة فاحصة، على صعوبتها، وما تثيره فينا من رفض وإنكار، ومن غضب أحياناً، تساهم إيجاباً في مسيرة الخروج بصنميّتنا إلى مستوى الوعي، لكيما نحاول على ضوء الإيمان بالله وعونه، وعون بعضنا البعض، أن ننقّي إيماننا ممّا اختلط به من أوهام.
إنّ هذا الكتاب ينطلق من رؤية أساس ألا وهي أنّ الإنسان ليس آلة معقّدة، وإنّما شخص. لا يمكن لإنسان أن يعرف إنساناً آخر بالعقل وبالتحليل فقط، أو بالمشاعر فقط، وإنّما من خلال علاقة شخصيّة به تتضمّن كلّ الكيان. من خلال هذه العلاقة قد يؤخذ الإنسان بأوهامه حول شخص الآخر، أو أحلامه بالشخص الآخر، أو مخاوفه من الشخص الآخر، وعندها لا يمكنه أن يعرف هذا الآخر، بل يبقى يدور في محور ذاته وأفكاره عن الآخر، كمن ينظر في مرآة، ويبقى هكذا الآخر غريبا إلى حدّ كبير أو صغير عنه. وبالعكس، يمكن للإنسان أن يحاول أن يتجاوز أحلامه ورغباته ومخاوفه ليلاقي الآخر في حقيقته الفريدة، وعندها يعرفه من خلال اللقاء العميق به أي من خلال محبّته، وهذه مسيرة تستمرّ طوال العمر.
الله شخص وليس هو مجرّدة قوّةٍ ما خلقت الكون. ولأنّ الله شخص، لا يُعرَفُ الله حقيقةً إلاّ من خلال العلاقة؛ من هنا فإنّ معرفة الله تكمن في الدخول بعلاقة معه. ولكن إن اختزلت العلاقة بأوهامنا وأحلامنا وحاجاتنا ومخاوفنا عن الله، فإنّنا نبقى في غربة عنه كشخص، ونبقى أسيرين أنفسنا: مشاريعنا التي نريد الله أن يحقّقها، مصالحنا التي نريد من الله أن يدافع عنها، مخاوفنا التي نرى من خلالها الله. أي في النهاية، نبقى، كما في حالة التعامل مع إنسان آخر، غريبين إلى حدّ ما عن شخص الآخر-الله. إذاً كما في علاقتنا مع إنسان آخر، لكي تكون علاقة له علاقة معه هو، ومعرفتنا له معرفة له هو، يجب أن نحقّق لقاءً عميقاً به هو، وذلك بأن نحبّه،. لنعرف الله يجب أن ندخل بعلاقة محبّة معه هو بحقيقته، هو الآخر المطلق، هو مَنْ هو.
ولكن مَنْ هو الله؟ إنّ الله محبّة، كما قال يوحنّا. هذا هو التعريف الأبرز الذي يَرِدُ في الإنجيل عن الله. لكن بما أنّ الله محبّة فإنّ معرفة الله، أي الدخول بعلاقة مع الله، لا يمكن أن يتمّ إلاّ بممارسة علاقة محبّة معه ومع الناس، وذلك لكي يكون الإنسان قادرا على التواصل مع الله-المحبّة. عندما نقول أنّ الله محبّة، هذا يعني أنّ الثالوث هو ثالوث محبّة، أنّ المحبّة هي طريقة الحياة الإلهيّة في الثالوث، ولهذا تحدّث القدّيس مكسيموس عن "حركة الحبّ الأبديّة" في الثالوث. إن أحبّ الإنسان، الله (والآخرين حُكماً)، يمكنه عندها أن يكون في تناغم مع طريقة الحياة الإلهيّة، وأن ينفتح بالتالي على هذه الحياة الإلهيّة، على الله، ليتّحد به، و"يعرفه" بالخبرة، إن صحّ التعبير. بالطبع، الله هو الـمحبّة، وهو الخالق، هو إذاً نبع المحبّة الإنسانيّة، وبالتالي لا يتمكّن الإنسان من المحبّة فعلاً، إلاّ بنعمة من الله، أي بمعونة الله، لأنّ الله هو الذي يمدّنا بطاقة المحبّة كلّ لحظة، كما يمدّنا بالوجود كلّ لحظة.
إذا كانت معرفة الله هي في محبّته، إلاّ أنّنا نعلم أنّ الإنسان لا يمكنه أن يحبّ الله الذي لا يراه إلاّ إذا أحبّ الإنسان الآخر الذي يراه أمامه، كما قال يوحنّا. معرفة الله هي، إذا، في الوقت نفسه محبّة الله ومحبّة الآخر. هذه المعرفة-العلاقة، تمدّ الإنسان بالحياة الإلهيّة، تؤلّهه بالنعمة، ليصير ابنا لله بالتبنّي. إنّ الإيمان بالله، في المسيحيّة، يرتكز على هذه الرؤية، فـ"الإله أصبح إنسانا ليصير الإنسان إلها"، كما قال القدّيس أثناسيوس الكبير، وقبله القدّيس إيريناوس؛ ويعتقد المسيحيّون أنّ هذا التألّه يتمّ بيسوع المسيح، في الكنيسة،كنيسة الروح القدس.
هذا الواقع، هذا الطريق في الحياة، طريق التألّه بالمحبّة، موجودٌ لأنّ الله محبّة ولأنّه خلق الإنسان على صورته ومثاله، على صورة المحبّة. إنّ الطريق التي تسمح للإنسان بأن يكون إنساناً، أي أن يحقّق ملء إنسانيّته، هي طريق تفعيل طاقة المحبّة فيه، طريق عيش المحبّة وتنميتها؛ أي بتعبير كتابيّ، هي طريق الانطلاق من صورة الله فينا، لنحقّق مثال الله، لنتألّه. وكلمة الله أمدّنا يإمكانيّة هذا العيش بتجسّده وموته وقيامته وارساله الروح القدس في العنصرة.
التألّه يُعاش عن طريق عيش المحبّة لله والآخرين، إذاً. لكنّ كي يحبّ الإنسان يقتضي أن يكون حرّاً لأنّ الحرّية هي شرط الحبّ. بدون حرّية لا نصل إلى حبّ ولقاء وإنّما إلى تسلّط وخضوع. لهذا لكي نحبّ يجب أن نكون أحراراً.
إلاّ أنّ المحبّة بدورها هي أيضاً شرط الحرّية، لأنّ بدون المحبّة ننغلق على ذواتنا، ونصير بالتالي عبيداً لهذا الانغلاق، وللشهوات الناتجة عنه (أنانيّة، تسلّط...)، ونفقد بالتالي حرّيتنا، لأنّ تلك الشهوات تصير تسيّرنا، تستعبدنا، تستعملنا لتنمو، تضعضع إنسانيّتنا وتمزّقنا من الداخل. ولهذا لكي نكون أحراراً يجب أن نحبّ.
هكذا، فمن أجل أن يحقّق الإنسان إنسانيّته، ويحيا بالفعل إيمانه بالله، يجب أن يكون مُحِبّاً وحرّا في نفس الوقت. أن يحبّ الإنسان (الله والآخرين) وان يكون حرّاً، هو السبيل الوحيد لكي يصبح على شبه الله، لأن بالحب والحرية نصبح واحدا مع الله-المحبّة.
لكنّ ما معنى أن نحبّ؟ المحبّة ليست إلاّ العيش بحسب نمط الحياة الإلهيّة، نمط حياة الله-الثالوث، إلى الحدّ الأقصى، وهذا يعني: أن يكون المرء متّحداً مع أشخاص آخرين دون أن يفقد تمايزه، أي أن يحيا كما يحيا الثالوث الواحد. فالثالوث ليس حقيقة مجرّدة، أو فكرة، بل واقع الحياة نفسها، وجذر وجودنا، بل هو الوجود الحقّ نفسه. أن يحبّ الإنسان هو أن يتّحد بآخر دون أن يفقد ذاته، هو أن يسعى إلى الوحدة بآخر، محافظاً على التمايز بينهما، على صورة الثالوث.
يسعى هذا الكتاب إلى إيضاح هذه الرؤية الإيمانيّة، ويبيّن كيف أنّ معطيات علوم النفس تؤكّد هذا اللاهوت الأرثوذكسيّ، ويُظهر كيف أن انحراف الإنسان عن هذه الحقيقة، حقيقة الحبّ والحرية، حقيقة الاتّحاد في التمايز، حقيقة الله-الثالوث، يسمّم علاقته بالله، وبالآخرين، وبنفسه، ويدفعه إلى خلق أصنام مدمّرة له ولغيره.
خلال حياتنا، نحن لا محالة أمام خيارين: إمّا أن نختار بين أن نعيش حياة حقيقيّة، مع الله والآخرين، من خلال إيمان حقّ بالله مترجماً محبّة له وللناس، أو أن نختار أن نعيش في الأوهام، في عبادة الأصنام. الخيار الذي أمامنا هو خيارٌ بين المحبّة وبين عبادة الأصنام. إن لم يؤدِّ الإيمان إلى تقدّم في المحبّة تدهورَ لا محالة إلى عبادات صنميّة. لماذا؟ لأنّنا مخلوقات لا يمكنها أن تعيش في عزلة، لهذا نسعى للمحبّة أي للوحدة في التمايز، ولهذا إن لم نتّحد بالآخرين عن طريق المحبّة والحبّ، سنجد أنفسنا مدفوعين أن نسعى إلى تحقيق الاتّحاد بالآخرين وهميّاً. إن لم يؤمن الإنسانُ حقيقةً، إن لم يسِر حقيقةً في درب المحبّة، درب تنقية إيمانه من أوهامه، سوف يندفع كي يختار أوهاماً يظنّها تحقّق له وحدةً مع الآخرين، يندفع أن يختار إمّا أتّحاداً وهميّاً عن طريق التحكّم بالآخرين أو عن طريق الخضوع لهم، لأنّ في الحالتين يشعر الإنسان وهميّاً بأنّه غير معزول، ولكنّه في الحالتين يكون يُقيم صنماً وينحني له، أكان ذلك الصنم صنم التسلّط، أو الخضوع، أو القبيلة، أو الوطن، أو الدين، أو الطائفة، أو العائلة، أو المال، أو الفكر، أو الذات...
سنحاول في هذا الكتاب تتبّع هذا الصراع الإنسانيّ بين الإيمان بالله وبين عبادة الأصنام، كما تجلّى في العهد القديم وفي العهد الجديد، ملقين الضوء على مسيرة يسوع بيننا من خلال هذه الزاوية، زاوية الصراع بين المحبّة التي تقتضيها العلاقة بالله، وخطر الانزلاق إلى وهم الأصنام. ثمّ سنشير إلى التصرّفات الصنميّة في التاريخ المسيحي، لنصل إلى مقاربة لهذه الصنميّة في تاريخنا الحاليّ. قد يختلف القارئ معي أو يتّفق في أمر أو آخر، وفي الحالتين أرجو أن يكون التحليل الوارد في هذا الكتاب - كما كان لي- مجالاً ليعيد النظر بالمسلّمات التي يراها في مجتمعه اليوم، وفي حياته الشخصيّة، فيراجع مواقفه الإيمانيّة-الحياتيّة العميقة. وبطبيعة الحال لا يمكن لهذا التحليل، أن يكون شاملاً لموضوع الصنميّة، ولا شاملاً للتاريخ الكنسيّ، ولا لمختلف الأصنام المعاصرة، ونحن نتوقّع من القارئ أن يغيّر هذا الكتاب في طريقة تقييمه لخبرات حياته والحياة حوله ليتنبّه إلى أصنام لم يذكرها الكاتب في هذا الكتاب، وأن يوصل رأيه إلى الكاتب بالبريد الإلكتروني إن أراد ([email protected])، كما نأمل أن تقوم مجموعات إيمانيّة، بالنقاش بينها حول الأصنام المعاصرة التي يرونها تهدّد إيمانهم، وتهدّد حياتهم النفسيّة والروحيّة وحتّى الجسديّة.
في نهاية الكتاب قد يتكوّن عند القارئ جملة من الأسئلة، منها التالية، كيف يحدث الانزلاق إلى الأصنام؟ وهل من ظروف تؤثّر فينا وتدفعنا في اتّجاهٍ حياتيّ معاكس للمحبّة، في اتّجاهِ عبادة الأصنام؟ لم كلّ هذا التدهور إلى الكراهية واستخدام الله والدين والطائفة لتحقيق المصالح ولقمع الآخرين وسحقهم؟ لم هذه الشراهة للتسلّط والشهرة والمال؟ لم هذا التدهور الإنسانيّ في القتل والاستعلاء والعنصريّة؟ لم هذه العبوديّة لحمّى الاستهلاك؟ لم كلّ هذه الأصنام التي نراها حولنا هنا وهناك؟ هل نحن مخلوقون هكذا، ولا يمكننا أن نغيّر مصيرنا على هذه الأرض؟ هل أنّ "قَدَرَ" مصيرنا أن يكون موسوماً بالحروب، والاستغلال، والتسلّط والخضوع؟ هل هذا الواقع هو من "طبيعة" الإنسان ولا مجال لتغييره؟ أم أنّ هناك عالماً آخر ممكنٌ؟ وكيف يكون ممكناً؟ كيف يمكننا أن نخرج من هذا الوضع؟ كيف يمكننا أن نتوب؟ أي كيف يمكننا أن نتغيّر (والتوبة تعني بالأصل تغيير الذهن) كي نتّجه نحو الهدف من جديد، كي لا نخطئ الهدف (وكلمة "الخطيئة" تعني بالأصل "إخطاء الهدف")؟ كيف يمكننا أن نتيح لبعضنا البعض المجال كي لا نخطئ هدف التألّه، هدف ترجمة الإيمان محبّة لله والبشر، في ملكوتِ مشاركةٍ نرسم تباشيره منذ اليوم؟ على هذه الأسئلة سنحاول أن نجيب في كتاب قادم، انتهى اعداده، كتابٌ يحلّل الأسباب الكامنة وراء هذا الانزلاق إلى التعامل الصنميّ من خلال ثلاثة مستويات: المستوى الروحي (الإيمان المسيحيّ)، المستوى النفسي، والمستوى الاجتماعي-السياسي-الاقتصاديّ؛ ثمّ يطرح رؤية للآفاق التي تكمن فيها مشاريع حلول للخروج من العبادات الصنميّة.
لقد فضّلنا أن نلقي الضوء على الواقع الفصاميّ وتعارضه مع مقتضيات الإيمان أوّلاً في هذا الكتاب، ثمّ نحلّل بعض أسباب هذا الواقع ونطرح رؤية للحلول الممكنة، في كتاب ثانٍ، وذلك حتّى لا يكون الكتاب ضخما بشكل تصعب قراءته في زمن خفتت فيه القراءة. ولكن بدا لنا لاحقا أنّ هناك إيجابيّة أُخرى لوضع الكتاب في جُزأين، ألا وهي أنّ ذلك سيمنح القارئ، والمجموعات التي يمكن أن تقرأ وتناقش محتوى هذا الجزء الأوّل، مجالاً كي يتفكّروا بهذا الواقع، ويحاولوا أن يتبيّنوا معا أسبابه، وسُبُلاً ممكنة للخروج منه، فيكون ذلك العمل الذاتيّ والجماعيّ مقدّمةً لقراءةٍ أكثر فائدة ومُتعةً للجزء الثاني القادم، إذ يمكنهم عندها أن يكونوا مشاركين بفعاليّة في القراءة، ويقوموا بقراءة نقديّة له.