كلمات للضياع... حبيبة للمنفى
الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت، 2018
المقالة الأصليّة
يسوع مرآة الحنين قراءة في ديوان "كلمات للضياع حبيبة للمنفى، للشاعرخريستو المر"
مجلّة النور، عدد ٢، ٢٠١٩
د. جورج معلولي
يسوع مرآة الحنين قراءة في ديوان "كلمات للضياع حبيبة للمنفى، للشاعرخريستو المر"
مجلّة النور، عدد ٢، ٢٠١٩
د. جورج معلولي
" نجوم جريحة / تهاجر داخل داخلي / تكوكب أوجاعها بي قصائد / وتأمل "، كأن القصائد تكتب نفسها بنفسها في هذا الديوان أو تولد من الجراح إن لامسها ضوء الحب. هل تغدو الجراح نافذة من نور إن قالتها النفس صوراً في كلمات ؟ قسوة الجراح وجفاء المنفى يدفعان الإنسان المكلوم للتفتيش عن جنة ضائعة أو سماء. في هذا الإرتجاف يعود المجروح الى نفسه فيقول كما الشاعر : " أفتش خاصرتي عن سما ضائعة " فإن وجد فيها دليلان، أو دليلا في وجهين، الحب والله، يكتشف أن " الجراح نجوم / عميقة / عميقة " تعانق داخله و أعمق.
يقول جلال الدين الرومي في إحدى قصائده: "دخلت قلبي لأرى كيف هو. شيء ما هناك جعلني أسمع كل العالم يبكي": بكاء الحنين الى الموطن الأول كحنين الناي النائحة الى حقل القصب الذي أخذت منه. غير أن الكلمات في ديوان خريستو المر تأتي من الضياع حكايات مهداة للأبرياء و كل المحبين و الى الله المصلوب في الأبرياء و كل المحبين في كل منفى. يكتبها أو يكتب عنهم أريجاً ليشفى قلبه و " يشفى من الغصة / الآخرون ". هنا أيضا الرجوع من بابل - المنفى هو المبتغى، له و لهم. فلا أحد "حراً إن قمع الآخرون ... لا أحد حراً إن صلب الآخرون". بعد هذا الألم لا يبقى إلا الرحيل القائل بقلم الشاعر: " إني أنزف نجوما وراء نجوم / تضيق تفاصيل حزن قديم / و ينكمش المستحيل / سنرحل .../ كلانا شراع كوعد الحكايات .../ سنرحل / جرحاً / أو اثنين / علّ السماء تدلّي جدائلها ". الحبيبة المسحورة مسجونة في برج ما أو هي السماء تتخذ وجه الحبيبة طريقاً الى الكنز الدفين أو توأماً مرافقاً للشاعر الهائم.
الآلام عديدة وقديمة تقول للطفل : "أترك جناحك خارجاً و اكتب هنا: أفكارنا صفرٌ، مشاعرنا صفرٌ". تباغته فتخنق كلماته و تجرّعه السمّ قسراً سارقة منه كل قدرة على قول " لا". تقصّ له أجنحته. فإن صنع له أجنحة من شمع ليطير تحرقه نيران الظلم و الحروب و الأحقاد فيسقط كما سقط إيكار. في هذا الإختناق يقول بجهد: " أدور / على الكلمات / فلا تتفوه طريقا". الألم الكبير صامت. يمكن للصمت أن يكون موتاً ويمكن أن يكون مخاضاً عسيراً لتولد الكلمات، حتى تتعلّم من جديد أن تقول " لا". في مياه الطوفان الطاغية يغدو الغريب أو الطفل أو المهجّر مثل نوح ولكن من غير أمل: " بعثت الغراب يحلّق فوق الماء / فأنهكه الحزن واكتأبا / فهوى / بعثت الحمامة / فعادت ومن خيبة في مخالبها / يتدلى الصدى". تتماهى الطيور و العصافير في لغة الشعر والأحلام و الأساطير مع الأفكار أو تبدو صورة عنها و عن قوى النفس. هي أيضا هنا مقصوصة الأجنحة فلا تطير إلا مثقلة بالحزن و الخيبات فتهوي كملائكة فقدت كل حيويتها بعد أن " عاندتها ذئاب السماء". " الحرب صارت دواراً .../ وموتاً يأكل الشرفات" فغادر الكل: " الناس و الحجر / الحب و القمر". هل الطفل " شيء صغير / قليل بدا من جسد "؟
كطفل خائف يعود الى أمه، يعود المتألم الى الرحم. يفتش فيه عن حنان يروي و عن رحمة تستر من قسوة الزمن. فالأم، و إن "لم تأت أعجوبة"، تحضّر لولدها " أغنيات المساء / مكان ارتياح ". اللطف يُفتقد في أزمنة القسوة فتفتر محبة كثيرين و ينادي الشاعر : " ها أنا في مكان أنادي يدي / أو أخي / أو يسوعك / أو أي شيء لطيف". تصبح الأم أو صورها هي الملجأ : " أمي حمتني / و غاصت / ومن خوفها فتشت صدرها / بحثت عن هواء / لتعطيني / و عن آلهات / لتحميني ... / فأغمضت عيني كي أنتهي في يديها / وراء جفون الأبد ". قد تكون الأم والأرض و الحبيبة ومياه البحر مرادفات للّجة النفس العميقة التي يغطس فيها الوعي، بعد أن قاسى كثيرا، ليجد فيها قوة جديدة أو مشاعر جديدة أو كلمات جديدة، ليولد من جديد. وتصبح موسيقى الطبيعة، كما أنشودة " الأمطار فوق الحصى "، بوصلة تدلّ الرغبة الدفينة الى قطبها المشتهى بالحقيقة.
في هذه المسيرة لا بد من مرآة. يعوز الإنسان انعكاس ما ليفهم أو ليحاول أن يفهم بعد أن عطّلت المعاناة كل فهم. ويعوزه من يرافقه في الأتون أو في البئر التي رماها فيها إخوته البشر أو الظروف. في قلب الأتون وجه يشبه الإنسان والإنسان المنسكب على مذبح أوجاع البشر أيقونة لله: " وإني أشابه وجهي / أمام جراح الغريب / كما الله يشبه ذاته / فوق الصليب"... " وإذا نظرت ضلوعي / رأيت جراحاً كمرآة / ووجه يسوع يضيء عليّ ". " إلهي حديقة حبّ" ، و كلما تكثّف الحب عظم الألم كما يقول القديس سلوان. فالحب " مصباح نور / تضيئه طعنة / في عروق السماء". وبه يقول الشاعر: " نصبت جراحي أمام العرش / وأشعلت نار انكساري / وكان جمالكَ مرآتي/ فصرت أنا لك مرآة". المحبة الكبيرة صليب يأتي به الفرح لكل العالم. الحجّ دائم من مدينة الأنا الى مدينة الأنت. لا مفرّ. لذلك لا مقرّ. تتخذ الغربة هنا نكهة صوفية، تصاعدية، شكل امتداد دائم الى الأمام. " الله عشقك لا مقرّ " ففي الله تقفز أيائل النفس من مجد الى مجد وتهمس له: "تتبعت حبي، دعاني إليك". و في هذه الدعوة تجد النفس ذاتها فتقول، ليس من دون دهش: " تتبعت حبي / دعاني اليّ".
وقد يكون عشق الحبيبين مكان تجلّ للحبيبن و تذوّق لمحبة الله: " معا نتسلّق المعنى / منفى إثر منفى / لا ينام لنا اشتهاء / لا و لا وجع لنا يفنى". فشمس الفضاء تغيب ولكن شمس القلوب لا تغيب حسب قول الحلاج. تتكاثر التوائم في مسيرة الباحث عن المعنى في انعكاس مرآة الحبيب و مرآة النفس و مرآة الله في الآخر: فالجرح جرحان، والنهر ضفتان، و النجم نجمان : " نجم يهجر الجسم / ونجم شارقا يبقى". " هذي الأرض يسكنها نزيف / لنولد نجمتي حب و أجمل / فحقا حبنا معنى للامعنى". وكما في نشيد الأناشيد " يجتاح سر الله" بشرة الحبيبن و يعود الى طيور النفس قدرة التحليق: " كم أحب حمام السلام / الذي يتفتح نافذة نافذة / في جداري .../ ويشعل في حبنا حبا / أو هو يشعل فينا / إله الصباح". يتم للنفس عرسٌ سري كحبة الحنطة في بطن الأرض وتنبت الأزاهير حول القبر الفارغ.
بعد خبرة الجرح و خبرة الحب أو فيهما، يأتي اللهُ النفسَ فصحا سرّيا: " جاءني الله عميقا "، يقول المتألم و الحبيب، و تنبت " حقول الورد في الوريد". فالله أقرب إلينا من حبل الوريد. وتظلل غمامته مخاض البشر الأبرياء، المحبين ليولد هو نفسه فيهم. فهو إله يختبئ وإله يتجلى. إله مصلوب على الحب و إله قائم. وقد يكون شعر الشاعر " شهرزاد الصباح " الذي لا ينسى البداية ولا ينهي الحكاية.
يقول جلال الدين الرومي في إحدى قصائده: "دخلت قلبي لأرى كيف هو. شيء ما هناك جعلني أسمع كل العالم يبكي": بكاء الحنين الى الموطن الأول كحنين الناي النائحة الى حقل القصب الذي أخذت منه. غير أن الكلمات في ديوان خريستو المر تأتي من الضياع حكايات مهداة للأبرياء و كل المحبين و الى الله المصلوب في الأبرياء و كل المحبين في كل منفى. يكتبها أو يكتب عنهم أريجاً ليشفى قلبه و " يشفى من الغصة / الآخرون ". هنا أيضا الرجوع من بابل - المنفى هو المبتغى، له و لهم. فلا أحد "حراً إن قمع الآخرون ... لا أحد حراً إن صلب الآخرون". بعد هذا الألم لا يبقى إلا الرحيل القائل بقلم الشاعر: " إني أنزف نجوما وراء نجوم / تضيق تفاصيل حزن قديم / و ينكمش المستحيل / سنرحل .../ كلانا شراع كوعد الحكايات .../ سنرحل / جرحاً / أو اثنين / علّ السماء تدلّي جدائلها ". الحبيبة المسحورة مسجونة في برج ما أو هي السماء تتخذ وجه الحبيبة طريقاً الى الكنز الدفين أو توأماً مرافقاً للشاعر الهائم.
الآلام عديدة وقديمة تقول للطفل : "أترك جناحك خارجاً و اكتب هنا: أفكارنا صفرٌ، مشاعرنا صفرٌ". تباغته فتخنق كلماته و تجرّعه السمّ قسراً سارقة منه كل قدرة على قول " لا". تقصّ له أجنحته. فإن صنع له أجنحة من شمع ليطير تحرقه نيران الظلم و الحروب و الأحقاد فيسقط كما سقط إيكار. في هذا الإختناق يقول بجهد: " أدور / على الكلمات / فلا تتفوه طريقا". الألم الكبير صامت. يمكن للصمت أن يكون موتاً ويمكن أن يكون مخاضاً عسيراً لتولد الكلمات، حتى تتعلّم من جديد أن تقول " لا". في مياه الطوفان الطاغية يغدو الغريب أو الطفل أو المهجّر مثل نوح ولكن من غير أمل: " بعثت الغراب يحلّق فوق الماء / فأنهكه الحزن واكتأبا / فهوى / بعثت الحمامة / فعادت ومن خيبة في مخالبها / يتدلى الصدى". تتماهى الطيور و العصافير في لغة الشعر والأحلام و الأساطير مع الأفكار أو تبدو صورة عنها و عن قوى النفس. هي أيضا هنا مقصوصة الأجنحة فلا تطير إلا مثقلة بالحزن و الخيبات فتهوي كملائكة فقدت كل حيويتها بعد أن " عاندتها ذئاب السماء". " الحرب صارت دواراً .../ وموتاً يأكل الشرفات" فغادر الكل: " الناس و الحجر / الحب و القمر". هل الطفل " شيء صغير / قليل بدا من جسد "؟
كطفل خائف يعود الى أمه، يعود المتألم الى الرحم. يفتش فيه عن حنان يروي و عن رحمة تستر من قسوة الزمن. فالأم، و إن "لم تأت أعجوبة"، تحضّر لولدها " أغنيات المساء / مكان ارتياح ". اللطف يُفتقد في أزمنة القسوة فتفتر محبة كثيرين و ينادي الشاعر : " ها أنا في مكان أنادي يدي / أو أخي / أو يسوعك / أو أي شيء لطيف". تصبح الأم أو صورها هي الملجأ : " أمي حمتني / و غاصت / ومن خوفها فتشت صدرها / بحثت عن هواء / لتعطيني / و عن آلهات / لتحميني ... / فأغمضت عيني كي أنتهي في يديها / وراء جفون الأبد ". قد تكون الأم والأرض و الحبيبة ومياه البحر مرادفات للّجة النفس العميقة التي يغطس فيها الوعي، بعد أن قاسى كثيرا، ليجد فيها قوة جديدة أو مشاعر جديدة أو كلمات جديدة، ليولد من جديد. وتصبح موسيقى الطبيعة، كما أنشودة " الأمطار فوق الحصى "، بوصلة تدلّ الرغبة الدفينة الى قطبها المشتهى بالحقيقة.
في هذه المسيرة لا بد من مرآة. يعوز الإنسان انعكاس ما ليفهم أو ليحاول أن يفهم بعد أن عطّلت المعاناة كل فهم. ويعوزه من يرافقه في الأتون أو في البئر التي رماها فيها إخوته البشر أو الظروف. في قلب الأتون وجه يشبه الإنسان والإنسان المنسكب على مذبح أوجاع البشر أيقونة لله: " وإني أشابه وجهي / أمام جراح الغريب / كما الله يشبه ذاته / فوق الصليب"... " وإذا نظرت ضلوعي / رأيت جراحاً كمرآة / ووجه يسوع يضيء عليّ ". " إلهي حديقة حبّ" ، و كلما تكثّف الحب عظم الألم كما يقول القديس سلوان. فالحب " مصباح نور / تضيئه طعنة / في عروق السماء". وبه يقول الشاعر: " نصبت جراحي أمام العرش / وأشعلت نار انكساري / وكان جمالكَ مرآتي/ فصرت أنا لك مرآة". المحبة الكبيرة صليب يأتي به الفرح لكل العالم. الحجّ دائم من مدينة الأنا الى مدينة الأنت. لا مفرّ. لذلك لا مقرّ. تتخذ الغربة هنا نكهة صوفية، تصاعدية، شكل امتداد دائم الى الأمام. " الله عشقك لا مقرّ " ففي الله تقفز أيائل النفس من مجد الى مجد وتهمس له: "تتبعت حبي، دعاني إليك". و في هذه الدعوة تجد النفس ذاتها فتقول، ليس من دون دهش: " تتبعت حبي / دعاني اليّ".
وقد يكون عشق الحبيبين مكان تجلّ للحبيبن و تذوّق لمحبة الله: " معا نتسلّق المعنى / منفى إثر منفى / لا ينام لنا اشتهاء / لا و لا وجع لنا يفنى". فشمس الفضاء تغيب ولكن شمس القلوب لا تغيب حسب قول الحلاج. تتكاثر التوائم في مسيرة الباحث عن المعنى في انعكاس مرآة الحبيب و مرآة النفس و مرآة الله في الآخر: فالجرح جرحان، والنهر ضفتان، و النجم نجمان : " نجم يهجر الجسم / ونجم شارقا يبقى". " هذي الأرض يسكنها نزيف / لنولد نجمتي حب و أجمل / فحقا حبنا معنى للامعنى". وكما في نشيد الأناشيد " يجتاح سر الله" بشرة الحبيبن و يعود الى طيور النفس قدرة التحليق: " كم أحب حمام السلام / الذي يتفتح نافذة نافذة / في جداري .../ ويشعل في حبنا حبا / أو هو يشعل فينا / إله الصباح". يتم للنفس عرسٌ سري كحبة الحنطة في بطن الأرض وتنبت الأزاهير حول القبر الفارغ.
بعد خبرة الجرح و خبرة الحب أو فيهما، يأتي اللهُ النفسَ فصحا سرّيا: " جاءني الله عميقا "، يقول المتألم و الحبيب، و تنبت " حقول الورد في الوريد". فالله أقرب إلينا من حبل الوريد. وتظلل غمامته مخاض البشر الأبرياء، المحبين ليولد هو نفسه فيهم. فهو إله يختبئ وإله يتجلى. إله مصلوب على الحب و إله قائم. وقد يكون شعر الشاعر " شهرزاد الصباح " الذي لا ينسى البداية ولا ينهي الحكاية.