الانقلاب على المبادئ: هل من تقييم أخلاقيّ؟
مجلّة الآداب، العدد 9-10، 2009
لكلّ إنسانٍ الحقُّ في أن يغيّر موقفَه، ولو إلى النقيض؛ ولولا هذا الحقّ (بل القدرة) لما تطوّرَ تاريخُ البشريّة. إلاّ أنّ الانتقالَ من النقيض إلى النقيض قد يدعو إلى التساؤل أو العجب؛ فقد تساءل أسعد أبو خليل، مثلاً، عن الأسباب التي دفعتْ بمفكّرين شيوعيّين في لبنان[1] إلى الانتقال للدفاع عن مسؤولين سياسيّين انتهجوا مواقفَ رأسماليّةً متوحّشةً، وعن أنظمةٍ كان يمْكن تسميتُها رجعيّةً في إطارهم الفكريّ السابق. وهذا الأمرُ في الواقع غيرُ محصور في لبنان؛ فبورديو يذْكر مثلاً تحوّلاتٍ مشابهةً لأبناء جيله من الفرنسيّين.[2] في هذه المقالة سأسعى إلى الإشارة إلى جوانبَ إنسانيّةٍ مختلفةٍ قد تساعد في إلقاء الضوء على أسباب هذه التحوّلات.
1 المحبّة الحرّة: الوحدة والتمايز في بيئة الحرّيةليس بإمكان الإنسان أن يحتمل العزلةَ التامةَ عن الناس:[3] فهو بحسب أرسطو حيوانٌ اجتماعيّ، أي علائقيّ. ومن هنا فإنّه مدفوعٌ داخليّاً إلى التواصل مع الناس حوله تواصلاً عميقًا؛ فالاتصال السطحيّ يبعث على السأم لأنّه يتركنا معزولين، أمّا التواصل العميق مع الآخرين (الصداقة، الحبّ، المشاركة، النضال...) فيولّد الإحساسَ بالفرح والإشباع العميق، كما نختبر وتدلّ الأبحاثُ النفسيّةُ أيضًا.[4] التواصل بالآخرين هو في النهاية مسعى وحدة.
يُضاف إلى دافع التواصل العميق من أجل تجاوز العزلة، مُحرِّكٌ حيويٌّ آخر، هو دافعُ الحرّية. فالإنسان يولد مع طاقة حرّية؛ وهو مدفوعٌ ـ أثناء نموّه ـ إلى تحقيق حرّيته، فينمّي بذلك إنسانيّتَه، وينطلق إلى تحقيق مقاصده الشخصيّة والجماعيّة، مُفَعِّلاً طاقاته الفريدة.
لكنّ المسعى إلى التواصل وإلى الحرّية متداخلان؛ فبسبب محوريّة مسعى التواصل مع الآخرين تتجلّى حرّية الإنسان في علاقاته بغيره. ولكنْ من أجل تحقيق الإنسان لحرّيته في أيّة علاقة تواصل، لا بدّ من المحافظة على مبدأين لا ينفصلان: مبدأ الوحدة مع الآخر، ومبدأ التمايز عنه. ومن هنا فإنّ تحقيق الحرّية والتواصل العميق يقتضي تحقيق الوحدة والتمايز في آنٍ واحد.
أ ـ غياب مبدإ الوحدة:إنْ أقام الإنسانُ علاقةً بآخر وانغلق عنه مستهينًا بمبدإ الوحدة، لم يبقَ أمامه سوى الانعزال. ولأنّه ليس بمقدور أحدٍ أن ينعزل بشكلٍ كلّيّ عن الناس، فإنّه لا يفرّط عادةً بمبدإ الوحدة. ب ـ غياب مبدإ التمايز: قد يتسنّى للإنسان إيهامُ ذاته بأنّه في وحدةٍ مع آخر إذا ما فرّط بمبدإ التمايز. فهو يستطيع عندها أن يذوِّب الآخرَ (فردًا أو جماعة) في ذاته فيتحكّمَ به، أو يذوبَ هو في الآخر فيخضعَ له. وفي الحالتين تصاب شخصيّتُه بالوهن، لأنّه يعيش في حالة اتّكالٍ كيانيٍّ على وجود الآخر. وهكذا فإنّ المسَيْطِر والمُسَيطَر عليه يبقيان معزولين داخليّاً، لانتفاء تمايزهما، ولانعدام لقائهما الحقيقيّ من ثم بشخصيّتيهما المتمايزتَين. ولهذا فإنّ العلاقات الذوبانيّة، خضوعًا وتسلّطًا،[5] لا بدّ أن تُنتِجَ قلقًا عميقًا قد يدفع باتّجاه المزيد من الخضوع أو التسلّط، في حلقة مُفرَغَة.وبالطبع فإنّ لهذا الواقع أثرًا كبيرًا على الصعيد الجماعيّ، إذ يفسِّر ـ ولو جزئيّاً ـ أسبابَ اللجوء إلى التيّارات الشموليّة والعنصريّة والفاشيّة والطائفيّة. ذلك أنّ الفشل في تحقيق الوحدة الحقيقيّة مع الآخرين يؤدّي إلى قلقٍ يدفع إلى السعي إلى وهم الوحدة بإلغاءِ الذات، إمّا بالخضوع أو بالتسلّط.
2 المحبّة والخوفلخبرة العلاقة التي تحافظ على الوحدة في التمايز اسمٌ هو المحبّة؛ أمّا الحبّ فحالةٌ خاصّةٌ من حالات المحبّة. والمحبّة ليست علاقةً شعوريّةً جميلة، وإنّما علاقةٌ يسعى فيها الإنسانُ إلى اللقاء الحرّ العميق بآخر، أيْ إلى تحقيق الوحدة معه في التمايز، مع ما يتضمّن ذلك من مشاعر وتناغمٍ ورعايةٍ ومسؤوليّةٍ واحترامٍ ومعرفة،[6] بالإضافة إلى اللقاء الجنسيّ في حالة الحبّ.
إلاّ أنّ عيش المحبّة مسيرةُ حياةٍ يسعى الإنسانُ فيها أن يحيا "الوحدةَ في التمايز" بشكلٍ أفضل. وأحدُ الحواجز التي نحتاج إلى تجاوزها لعيش المحبّة هو الخوف: الخوفُ من التمايز، وما يحمله من اعترافٍ بالاختلاف، ومن مجازفةِ قبول العزلة أحيانًا ثمنًا للحرّية؛ والخوفُ من مسيرةٍ طويلةٍ في طريق التوحّد مع الآخر، وما يحمله من اعترافٍ بمحدوديّتي وقبولٍ بمجازفةِ الخروج من ذاتي وطمأنينتها. لكنّ الخوف والمجازفة يعنيان لا يَقيْن ولا حتميّة؛ ومن هنا نفهم الجاذبيّة الهائلة للحتميّات، إذ إنّها تحْمل يقينًا يَقي من مواجهة خوفِ الحرّية والوحدة، ومجازفةِ الخروج من الذات.
3 الوجه الخضوعيّ في الانقلاب على المبادئمن هذا المنظور سنحاول أن نقدّم إجابةً ممكنةً عن أسباب انقلاب البعض من منظومةٍ فكريّةٍ إلى نقيضها، وتبنّيهم إيّاها بالحماسة نفسها، بل التعصّبِ لها، والتهجّمِ على كلّ ما يمثّل موقفَهم السابق. وسنعالج، كمثلٍ، وضعَ الشيوعيّين السابقين.
إنّ الردّة الدينيّة واضحةٌ في العالم وفي البلاد العربيّة. وقد تحوّل العديدُ من الشيوعيين بعد انهيار الاتحاد السوفياتيّ من الماركسيّة إلى الإيمان بالله، أو إلى تغييرٍ في منظومتهم الفكريّة، ربّما بعد طول تفكيرٍ وصراعٍ وتفتيشٍ داخليّ. وبعضُهم بقي على انفتاح فكرٍ وفعلٍ، كما ينبغي للمؤمن الحقّ بالله، أو بفكرٍ إنسانيٍّ حقٍّ، أن يكون. ولكنّ بعضهم انتقل من الإيمان بالماركسيّة[7] إلى التعصّب الدينيّ،[8] أو من اعتناق الحتميّة التاريخيّة إلى اعتناق حتميّة السوق والاقتصاد "الحرّ"[9] والدفاع عن الرأسماليّة وعن أنظمةٍ عربيّةٍ كانت "رجعيّة" بمفهوم ذلك البعض في السابق. وهذه المواقف المتنافرة في الظاهر تشترك في ناحيتين: الخضوع للحتميّات والذوبان في جماعة.
أ ـ إغراء الحتميّات: للحتميّات ألقٌ خاصٌّ في إطار تجربة الهروب من تحمّل مسؤوليّة المحبّة. ولا شكّ في أنّ الحتميّات موجودة في هذا الكون، إلاّ أنّها ليست شاملة حتّى على الصعيد العلميّ. ففي الفيزياء مثلاً، يقول فيزياءُ الكمّ (quantum) إنّ وجود إلكترونة في مكانٍ معيّنٍ في الذرّة ليس أمرًا حتميّاً بل ممكنٌ فقط (probable). وفي البيولوجيا، تدلّ الأبحاثُ الأخيرةُ على أنّ الجينات هي "ميْلُنا لا قدَرُنا،" على ما عبّر أحدُ الباحثين[10] الذي بيّن فريقُه أنّ جينات سرطان البروستات تبدّلتْ إثر تغيير نوعيّة الطعام وطريقة العيش (رياضة متتابعة، تمارين يوغا، تأمّل، ...)[11]؛ كما أنّ أبحاثًا أُخرى برهنتْ أنّ ظروف الحيوان قد تؤثّر في جيناته وتوجّهها: فكلّما ازداد اهتمامُ الفأرة بصغارها، حدث تغيّرٌ في الجينات يجعل الصغارَ أقلَّ عدوانيّةً.[12]أمّا على صعيد الإنسان، فإنّ حرّيته تبقى عصيّةً على الحتميّات الشاملة. بل إنّ التاريخَ نفسَه دليلٌ على إشراف الإنسان عليه: فلو كان الإنسانُ مجرّدَ نتيجةٍ لحتميّات التاريخ والطبيعة، لما كان قادرًا على الفعل فيهما؛ ولو بقي لينين على تزمّت "الحتميّة التاريخيّة" لما قام بثورةٍ أسّست نظامًا شيوعيّاً (مشوّهًا في رأيي) في بلدٍ لم يكن يعرف الرأسماليّةَ.
لكنّ للحتميّات جاذبيّةً خاصّةّ. فهي قد تُلبّي عدّة حاجات،[13] أهمُّها أنّها تُشَكّل إطارًا مناسبًا للتخلّص من عبء خوف المحبّة الذي حلّلناه آنفًا. فالحتميّة، إنْ كانت شاملة، تؤمّن للإنسان إمكانيّةَ الخضوع لها ولكهنتها (من اقتصاديّين وخبراء وسياسيّين وفلاسفة)،[14] والتخلّص بالتالي من عبء مجازفات التمايز والحرّية؛ كما أنّها تؤمّن إمكانيّة التخلّص من عبء مجازفة الاتّحاد بالآخر عبر الخروج من الذات والنضال المشترك لإيجاد جواب لمشاكل الإنسان.
ثم إنّ الارتماءَ في تيّار الحتميّات ينجّي من "عبء الحرّية" بطريقةٍ أُخرى. فالمحبّة تقتضي النضالَ من أجل الآخرين، والنضالُ يبدأ بإيمان، والإيمانُ يقتضي الحرّية. فمثلما أنّ المؤمنين بالله لا يروْنه بأمّ العين ولكنهم يؤمنون بوجوده، ويختبرونه على طريقتهم، وينبغي أن يعملوا للعدالة والحرّية انطلاقًا من إيمانهم؛ فإنّ الماركسيّين مثلاً يؤمنون بمبدإهم ويختبرون حقيقته في دواخلهم مع أنّهم لا يروْنه أمامهم، بل ينبغي أن يسعوا إليه. النضال، إذًا، يتطلّب الإيمانَ. والإيمانُ لاحتميٌّ، لأنّه فعلُ تصديقٍ بأنّ ما يسعى إليه الإنسانُ صحيحٌ ولو لم يره، ولو أنّه يشكّ أحياناً: فالماركسيّة مثلاً مبنيّةٌ على الإيمان بالإنسان، وإلاّ كيف كان لماركس أن يبدأ أيَّ تفكيرٍ في الفلسفة كأداةِ تغييرٍ للتاريخ؟
وكما يبدأ كلُّ نضالٍ بإيمان، يبدأ كلُّ إيمانٍ بحرّية: فلكي ينطلق الإيمانُ ينبغي أن يكون الإنسانُ حرّاً من حصريّةِ ما يراه أمامه، وبالتالي قادرًا على الإطلالة على ما يختبره في ذاته ولو لم يره.
وهكذا فإنّ الحتميّات الشاملة تشكّل حلاًّ سهلاً لهروب الناس من المحبّة والحرّية، تشدّهم رغبةٌ في الخضوع أو التسلّط، واتّجاهٌ نحو الاستقالة من مسؤوليّة الـ"أنا" والـ"نحن." لهذا فإنّ الانتقال من الإيمان بحتميّةٍ تاريخيّةٍ اقتصاديّة إلى الإيمان بحتميّةٍ ليبراليّةٍ اقتصاديّة، مثلاً، أمرٌ مُغرٍ لأنّه لا يشكّل تغييرًا حقيقيّاً في الذهنيّة، إذ لا يعدو كونَه انتقالاً من الخضوع لصنمٍ إلى الخضوع لصنمٍ آخر؛ والإثنان ينجّيان من القلق والشكّ المترافقيْن مع الاستمرار في مسيرة الإيمان والنضال والتحرّر والمحبّة.
ب ـ إغراءُ الجماعة: لكلّ إيمانٍ بُعد جماعيٌّ والسؤال المهمّ هنا هو حول نوعيّة هذا الانتماء الجماعيّ. إنّ الإيمان الحماسيّ بحتميّة مُحدِّدَة نهائيّاً للإنسان وللتاريخ يضْمن ارتماءَ الفرد في نهرِ الحتميّة الجارف مع جماعةٍ ما. وهذا الارتماءُ لا يعطي للحرّية الشخصيّة مجالاً للتفتّح. فإذا كان الإنسانُ في الماركسيّة مجرّدَ نتيجةٍ للظروف التاريخيّة الواقعيّة،[15] كان على الشيوعيّ في الاتّحاد السوفياتيّ السابق أن يقْبل بحركة التاريخ كما يفسّرها الحزبُ أو لجنتُه المركزيّةُ.[16] أمّا المؤمنُ بالاقتصاد الليبراليّ فيَخضع بلا نقاشٍ لأحكام السوق، التي لا مردّ لها،[17]كما يفسّرها كهنتُه (الخبراءُ والاقتصاديّون) ، وإلاّ عُدَّ خارجًا عن الإيمان القويم. والأمرُ عينُه في حالة التعصّب الدينيّ: فالتفسير الوحيد المقبول للإيمان هو ما يعطيه القائمون على المجموعة الدينيّة المتعصّبة، ويتصرّف هؤلاء على أنّهم يمتلكون اللهَ، فتصبح علاقةُ الأتباع بالله أشبهَ ما تكون بالاستقالة أمام صنم الجماعة.[18] إنّ الذوبان في حضن الجماعة يشكّل إغراءً كبيراً في كنف الحتميّات الشاملة، لأنّه يؤمّن مجالاً للاستغناء عن الحرّية، واختباراً لشعورٍ واهمٍ بالوحدة مع الآخرين في آن.
ج ـ من صنمٍ إلى صنم: لكنْ ماذا يحدث عندما ينهار صنمُ الحتميّة وصنمُ الجماعة المتعصّبة؟ ما إنْ ينهار صنمٌ بسببٍ من تغيير الظروف، حتّى يَشعر الإنسانُ الذي كان قد ارتمى أمامه بضياع وقلق عميقين. ومن هنا نفهم انتقالَه "الفجائيّ" من إيمانٍ إلى إيمان: من "الإيمان" المتعصّب الماركسيّ، مثلاً، إلى "الإيمان" المتعصّب الدينيّ ، أو إلى "الإيمان" المتعصّب الرأسماليّ.
فإذا لم يكن "الإيمانُ" داخليّاً، قائمًا على اختبارٍ شخصيٍّ لحقيقيّة المبدإ، كان إيماناً سطحيّاً بموضوع خارجيّ، قائمًا على وجود دولةٍ (كالاتّحاد السوفياتيّ) أو منظّمةٍ (كالحزب) أو مؤسّسةٍ (كالكنيسة) أو إنسانٍ (كالقائد)؛ فإذا به ينهار بمجرّد انهيار تلك الدولة أو المنظّمة أو المؤسّسة أو الإنسان. لكنّ حاجةَ ذاك "المؤمن" النفسيّة إلى صنمٍ يَخضع له، ويريحه من عبء حرّيته وممارسةِ محبّته، تبقى موجودةً. ولهذا يبحث عن صنمٍ آخر، خارجيٍّ هو الآخر، ليخضعَ له: السوق، الليبراليّة الاقتصاديّة، دين أو طائفة ما (أمّا الله، كشخصٍ يختبره الإنسانُ مُحرِّرًا ومُحِبّاً، في علاقةٍ شخصيّةٍ حرّة، فيبقى غائبًا).
وإذا كانت علاقةُ الإنسان بموضوع إيمانه علاقةً جماعيّةً ذوبانيّة، علاقةَ هروبٍ من المحبّة والحرّية، اندفعَ إلى عبادة صنمٍ آخر لكي يندمجَ بجماعةٍ أُخرى بالطريقة نفسها، فيتّقيَ القلقَ الحادَّ وشعورَ الخيبة، ويبلغَ يقينًا جديدًا لا يحتمل الحرّية والشكّ ولاحتميّات الحياة. ولكنّه بذلك لم يحقّقْ أيّة مفاجئة على الصعيد النفسيّ لأنّه لم يقم بأيّ انتقالٍ داخليّ؛ فتوجُّهُه بقي عبوديّاً.
يحصل التحوّلُ في المبادئ عندها من دون أن تتغيّر علاقةُ الإنسان بنفسه، بل تبقى علاقةً تتهرّب من تحمّل مسؤوليّة الذات، ومن مسؤوليّة تحقيق المحبّة والحرّية؛ كما يحصل ذلك التحوّل من دون أن تتغيّر علاقةُ الإنسان بغيره في الجماعة، فتبقى علاقةً ذوبانيّة. هؤلاء الذين استسلموا في الحياة لا مجال أمامهم سوى العبادات الهروبيّة الذوبانيّة، وما تولّده من موت، لأنّها لا تتطلّب نضالاً أو حرّيةً أو إيمانًا حقّاً. لقد كان فيكتور هوغو على حقّ عندما قال: "الأحياءُ إنما هم الذين يناضلون."[19]
4 التحوّل كقناعةمن الممكن بالطبع أن يعتنق الإنسانُ منظومةً فكريّةً أو إيمانيّةً معيّنةً وأن يغيّرَها بعد ذلك. ففي الإطار الدينيّ، هَدفتْ كلُّ دعوات الأنبياء إلى تحويل الناس عمّا كانوا عليه. وفي الميدان العلميّ لطالما اضطُرَّ الباحثون، ومعهم بقيّةُ الناس، إلى التحوّل من رأيٍ علميٍّ معيّن إلى آخر (من رؤية الأرض مسطّحةً، مثلاً، إلى رؤيتها دائريّةً). لكنّ مَن قاموا بهذه التحوّلات عادةً ما يُنظَرُ إلى تحوّلهم بأنّه أصيل، فكيف إذًا نُقَيِّم نوعيّةَ التحوّل؟
أعتقد أنّ التحوّل العلميّ الذي يسعى إلى تفسير الكون يُقَيَّم بمدى مقاربته لحقيقة هذا الكون، وذلك بوسائل علميّة. أمّا التحوّلات العقيديّة عند إنسانٍ ما، فالمهمّ فيها هو نوعيّة توجّهه الداخليّ، أيْ طبيعة علاقته بالأفكار التي كان عليها أو انتقل إليها. وإنْ كان لا بدّ من وسائل لتلمّس نوعيّة التحوّل العقيديّ، فإنّ مؤشّراتٍ كالتعصّب (السابقِ لتحوّله أو اللاحقِ عليه)، والتوجّهِ الخضوعيّ أو التسلطيّ في العلاقات بالآخرين وبالمبادئ والأفكار، يمكنها أن تشير إلى إصالة ذلك التحوّل وتعبيرِه عن قناعةٍ شخصيّةٍ أمْ إلى كونه انتقالٌ من عبادة صنمٍ إلى عبادة آخر.
5 هل من تقييم أخلاقيّ؟ولكنْ هل بإمكاننا أن نحْكم أخلاقيّاً على توجّهٍ أو آخر؟ أوَليس الإنسانُ حرّاً في أن يغيّر توجّهاته؟ الجواب هو نعم على السؤالين. بالطبع يمْكن كلَّ إنسانٍ أن يغيّر توجّهاتِه في الحياة (وإلاّ فما معنى دفاعنا عن حرّية الإنسان أعلاه؟)، ولكنْ أيضًا يمْكن الحكمُ أخلاقيّاً على توجّهٍ أو آخر. والبوصلة الأساسيّة التي تمكّننا من رؤية مدى ملاءمة توجّهٍ ما أو عدم ملائمته للإنسان هي مدى خدمته لحياته: فكلُّ توجّهٍ يُقزِّم الحياةَ في الإنسان، ويقلَّص طاقاتها ومواطنَ الفرح فيها، هو توجّهٌ سيّءٌ أخلاقيّاً؛ وكلُّ توجّهٍ يؤجِّج الحياةَ في عيش الإنسان هو توجّهٌ جيّدٌ أخلاقيّاً. واعتمادًا على ما سبق، فإنّ التوجّهين الأساسين في حياة الإنسان هما: مسعى الوحدة، ومسعى التمايز في بيئة الحرّية؛ أيْ، باختصار، مسعى المحبّة في الحرّية.[20] المحبّة هي بوصلةُ الإنسانيّة، وكلُّ توجّهٍ يُحْكَمُ عليه بمدى دفعه الإنسانَ لأن يحيا في حبٍّ وحرّية... أو بمدى دفعه لأن يصير راضخًا وخائفًا ومعزولاً ومتسلّطًا. كما يُحكَمُ على كلّ توجّهٍ بمدى دفعه المجتمعَ لكي يصير أكثرَ ملاءمةً مع تحقيق الإنسان لذاته وتنمية طاقة المحبّة فيه وحرّيته... أو بمدى دفعه المجتمعَ ليصير أكثرَ قمعًا لحرّية الإنسان، وأكثرَ عزلاً له، وأكثرَ دوسًا لفرادته، أيْ أكثرَ تكبيلاً لإمكانيّة عيشه لطاقة محبّته الحرّة.
إنّ توجّهات الإنسان الفكريّة والعمليّة هي توجّهاتُ حياةٍ أو توجّهاتُ موت: فهي تسهِّل إمكانيّة عيش المحبّة أو تصعِّبها، وتفتحُ أبوابَ الحياة أو تفتح أبوابَ الموت. ومن هنا فإنّ محبّة الحياة، إنْ كانت محبّةً أصيلة، تفترض توجّهاتٍ عمليّةً لمقاومة كلّ ظلمٍ وقمعٍ واستغلال، لأنّ هذه تؤدّي إلى ضمورٍ في المحبّة والحرّية، بإضعافها الفرادة ومسعى الوحدة مع الآخرين. ومن دون توجّهاتٍ كهذه، تصير "محبّةُ الحياة" شعارَ عبادةٍ صنميّةٍ جماعيّة.
خلاصة
الإنسان المُعتقِد بفكرٍ إنسانيّ حقّ، كما المؤمنُ الحقُّ بالله كشخصٍ يدخل معه الإنسانُ في علاقة محبّة، يأخذ على عاتقه مسؤوليّةَ حرّيته، فيسعى إلى أن يعيش المحبّةَ والحبَّ في حرّية، محافظًا على مبدأي الوحدة والتمايز، ويقارب الحقائقَ مُعْمِلاً عقلَه وقلبَه في الحياة الإنسانيّة، من دون عبادة أصنام. ذلك الإنسان تعْرفه من "ثماره،" من نضاله، من تعاضده الأخويّ مع البشر، ولاسيّما المظلومون و"الغرباء،"[21] وهو تعاضدٌ يجعله يعمل جادّاً حتّى يعيش إخوتُه في عدلٍ وحرّية. وبالنسبة للمؤمن بالله فعلاقته بالله نفسه عليها أن تكون مغامرة حبٍّ مصلوبٍ على خشبتي الوحدة والتمايز، ومسيرةُ توبةٍ عن أصنام الله، وتشويهات رغبات الناس، ومخاوفهم، وأوهامهم، له (الله).
خريستو المر
[1] يقول: "لماذا فرّختْ منظّمةُ العمل الشيوعيّ... عددًا كبيرًا من كتّاب التعليقات... الذين يتملّقون عائلة الحريري..." (الأخبار، 28/9/ 2007).
[2] Pierre Bourdieu, Contre Feux, (Raisons d’Agir, Paris, 1998), p. 56.
[3] أثبتتْ أبحاثٌ في جامعة McGill الكنديّة في الخمسينيّات أنّ قطع الإنسان عن المؤثّرات الحسّية يُدخله في اضطرابات عديدة، بالرغم من تلبية كلّ حاجاته الجسديّة. راجع مثلاً:
Bexton, W. H., Heron, W., & Scott, T. H. (1954). Effect of Decreased Variation in the Sensory Environment. Canadian Journal of Psychology, 8(2).
Scott, T. H., Bexton, W. H., Heron, W., & Doane, B. K. (1959). Cognitive effects of perceptual isolation. Canadian Journal of Psychology, 13(3), 200-209.
مذكورة عند:
Erich Fromm, The Anatomy of Human Destructivenes (Fawcett Crest, 1975), p. 268.
[4] تشير الأبحاث النفسيّة إلى أنّ الإشباع الجنسيّ نفسه لا يبلغ قمّته إلاّ مع آخر محبوب. راجع: كوستي بندلي، الجنس ومعناه الإنسانيّ (بيروت: منشورات النور، الطبعة 2، 1980)، ص 45 – 52.
[5] لتحليلٍ مفصّلٍ حول علاقات الخضوع والتسلّط، أو المازوشيّة والساديّة، وعلاقة هاتين بالحرّية، راجع الكتاب المشوّق التالي:
Erich Fromm, The Fear of Freedom (London, NY: Routledge Classics, 2004).
[6] Erich Fromm, The Art of Loving (Perennial, 2000), p. 24-30.
[7] لاحظ العديد من المفكّرين أنّ تصرّف الماركسيّين وتفكيرهم، كما ظهرا عند نشوء الاتّحاد السوفياتيّ، كانا يشبهان التصرّف والتفكير الدينيّيين. فقد رأى مثلاً الفيلسوفُ الروسيّ بردياييف أنّ الماركسيّة تحمل بصمات الإيمان الماسيانيّ، أي الإيمان المنتظِر الخلاصَ والتحرّرَ بمجيء المسيح وتحرّر البشريّة في اليوم الأخير، فيقول: "الحتميّة الاقتصاديّة لا يمكنها أن تولّد الحماسَ الثوريّ وأن تحثّ على النضال. هذا الحماس تثيره الفكرةُ الماسيانيّةُ للبروليتاريا ولتحرير الإنسانيّة... القفزة من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرّية، التي كان يتكلّم عنها ماركس وإنغلز، هي قفزةٌ ماسيانيّة." راجع:
Nicolas Berdiaeff, Royaume de l’Esprit et Royaume de César (Paris: Delachaux et Niestlé, 1951), p. 122-123.
أمّا فرويد فلاحظ أنّ الماركسيّة في الاتّحاد السوفياتيّ غدت نظرةً شاملةً إلى الوجود واكتسبتْ "تشابهًا غريبًا بما تحاربه... فإنّ أيّة دراسة نقديّة للنظريّة الماركسية ممنوعة، وتعاقَب الشكوك في صحّتها بالطريقة التي كانت تُعاقَب فيها الهرطقاتُ في الكنيسة الكاثوليكيّة." راجع:
Anthony Storr, Freud: A Very Short Introduction (Oxford University Press, New York), p. 148.
[8] بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ قامت مجموعاتٌ أرثوذكسيّة أصوليّة باضطهاد بعض الرهبان والكهنة، وبإحراق كتب لاهوتيّين أرثوذكس معروفين، كألكسندر شميمين وألكسندر مان وجان مايندورف، لأنّهم "غير قويمين." راجع مقال أحد أهمّ اللاهوتيّين الأرثوذكس المُعاصرين، أوليفيه كليمان، الذي يذكر أنّ "معظم الأديرة [الروسيّة] أصوليّة":
Olivier Clément, “Malaise et Scandale dans l'Eglise Orthodoxe Russe,” Le Monde, 10 Juin 1998.
[9] وهو في الحقيقة اقتصادٌ موجَّه تجني منه حفنةٌ من المنتفعين فائدةً ماليّةً على حساب حياة أكثر الناس وفرحهم.
[10] راجع الموقع التالي على الإنترنت (28/11/2008):
http://www.medicalnewstoday.com/articles/111710.php
[11] Dean Ornish, Mark Jesus M. Magbanua, Gerdi Weidner, et al., “Changes in Prostate Gene Expression in Men Undergoing an Intensive Nutrition and Lifestyle Intervention,” Proceedings of the National Academy of Sciences, Vol. 105, No 24, 2008, pp. 8369-8374.
[12] Ian C. G. Weaver, Ana C. D’Alessio, Shelley E. Brown, et al., “The Transcription Factor Nerve Growth Factor-Inducible Protein A Mediates Epigenetic Programming: Altering Epigenetic Marks by Immediate-Early Genes,” Journal of Neuroscience, February 14, 2007, Vol. 27, 7, pp. 1756-1768.
[13] هكذا استعمل البعضُ نظريّةَ داروين لتبرير المنافسة كضرورةٍ اقتصاديّة، وذلك بتشبيهها بفكرة المنافسة من أجل البقاء والانتقاء الطبيعيّ. فكان، مثلاً، الاقتصاديّ الأميركيّ توماي نيكسون كارفر في القرن التاسع عشر يقول: "إنّ قوانين الانتقاء الطبيعيّ هي مجرّدُ وسائل الله للتعبير عن خياراته وموافقته" و"المُنتَقون طبيعيّاً هُم مُختارو الله." وقد كان كارفر يعتقد أنّ المجموعة البشريّة التي ستبقى هي تلك التي "تُنَظِّم المنافسةَ الفرديّة بمُكافأة الّذين يقوّون المجموعة أكثر، وبمُعاقبة الّذين يقوّون المجموعة أقلّ بواسطة الفقر والفشل." راجع:
Richard Hofstadter, Social Darwinism in American History (Boston: Beacon Press, 2006), p. 151.
[14] يقول بورديو : "ليس من قبيل المصادفة أنّ الكثيرين من أبناء جيلي انتقلوا بسهولةٍ من قدريّةٍ ماركسيّة إلى قدريّةٍ نيو ـ ليبراليّة: ففي الحالين النظرة الاقتصاديّة المحض ترفع المسؤوليّة عن الذات وتجعل الإنسانَ مستسلمًا، وذلك بإلغائها السياسةَ، وبفرضها سلسلةً من الأهداف غير الخاضعة للمناقشة: أقصى نموّ، تنافس، إنتاجيّة." راجع:
Pierre Bourdieu, Contre Feux, opcit, p. 56.
[15] رفض ماركس المادّيّة الميكانيكيّة وقال بالديالكتيكيّة، وذكّر بأنّ الإنسان هو صانعُ التاريخ. إلاّ أنّ بعضَ كتاباته يوحي بأنّ الإنسان (ونضاله) مجرّدُ نتيجة للواقع: "إنّ ما يظنّه الهدفَ، هذا أو ذاك من البروليتاريا، أو البروليتاريا قاطبةً، لا أهمّيةَ له. المسألة مسألةُ ما هي البروليتاريا، وبالتالي، ما الذي ستضطرّ تاريخيّاً إلى أن تفعله. إنّ هدفها وعملها التاريخيّ مرسومان بشكل جليّ ونهائيّ (Its aim and historical action are visibly and irrevocably foreshadowed) في وضعيّة حياتها وفي تنظيم المجتمع البرجوازيّ الحاليّ بأسره." وفي رأيي أنّ مثل هذا الموقف الاختزاليّ للإنسان مهّد للتضحية بالإنسان البروليتاريّ، باسم البروليتاريا، في التجارب الشيوعيّة اللاحقة.
Karl Marx, Friedrich Engels, The Holy Family, chapter 4.
[16] كوستي بندلي، إله الإلحاد المُعاصِر )بيروت: منشورات النور، 1968)، ص 40.
[17] خريستو المرّ، وعود الإعلام وأوهام الحرّية (بيروت: التعاونيّة الأرثوذكسيّة للتوزيع والنشر، 2009)، ص 209-215.
[18] وذلك عوضَ ما يُدعى في المسيحيّة بالتآزر (synergy)، أي العمل التعاونيّ بين الله والإنسان.
[19] “Ceux qui vivent sont, ce sont ceux qui luttent »
Victor Hugo, Les châtiments.
[20] في هذا الشأن، الإيمان المسيحيّ بالله الواحد ثالوثًا يرى الله حاملاً وحدةَ الجوهر الإلهيّ في تمايز الأقانيم الثلاثة (الآب والابن والروح القدس)، ويرى حركةَ حبّ أبديّةً تجمع الثالوث. أمّا الإنسان فهو مدعوّ إلى أن يدخل مع الله في علاقة وحدةٍ ذاتِ تمايزٍ وحرّية، أيْ في علاقة محبّة، فـيتألّه الإنسان، أي يشارك في حياة الله.
[21] يبيّن يسوع أنّ القريب هو من تجعله قريبًا بخدمتك إيّاه، أيْ بلقائه المُحِبّ الفاعل (لوقا 10: 25-37)؛ وفي تعليمٍ آخر يجعل يسوع من دفاع الإنسان عن المُستَضعَفين، ومن عدم دفاعه عنهم، مقياسَ قربه إلى الله أوبعده عنه، أيْ مقياسَ "دخوله" الملكوتَ أو عدم "دخوله" (متّى 25: 31-36). أمّا يوحنّا، أحدُ تلامذته، فيجعل من محبّة الإنسان أو عدم محبته للآخرين دليلَ محبّته أو عدم محبّته لله (1 يوحنّا 4: 20).
1 المحبّة الحرّة: الوحدة والتمايز في بيئة الحرّيةليس بإمكان الإنسان أن يحتمل العزلةَ التامةَ عن الناس:[3] فهو بحسب أرسطو حيوانٌ اجتماعيّ، أي علائقيّ. ومن هنا فإنّه مدفوعٌ داخليّاً إلى التواصل مع الناس حوله تواصلاً عميقًا؛ فالاتصال السطحيّ يبعث على السأم لأنّه يتركنا معزولين، أمّا التواصل العميق مع الآخرين (الصداقة، الحبّ، المشاركة، النضال...) فيولّد الإحساسَ بالفرح والإشباع العميق، كما نختبر وتدلّ الأبحاثُ النفسيّةُ أيضًا.[4] التواصل بالآخرين هو في النهاية مسعى وحدة.
يُضاف إلى دافع التواصل العميق من أجل تجاوز العزلة، مُحرِّكٌ حيويٌّ آخر، هو دافعُ الحرّية. فالإنسان يولد مع طاقة حرّية؛ وهو مدفوعٌ ـ أثناء نموّه ـ إلى تحقيق حرّيته، فينمّي بذلك إنسانيّتَه، وينطلق إلى تحقيق مقاصده الشخصيّة والجماعيّة، مُفَعِّلاً طاقاته الفريدة.
لكنّ المسعى إلى التواصل وإلى الحرّية متداخلان؛ فبسبب محوريّة مسعى التواصل مع الآخرين تتجلّى حرّية الإنسان في علاقاته بغيره. ولكنْ من أجل تحقيق الإنسان لحرّيته في أيّة علاقة تواصل، لا بدّ من المحافظة على مبدأين لا ينفصلان: مبدأ الوحدة مع الآخر، ومبدأ التمايز عنه. ومن هنا فإنّ تحقيق الحرّية والتواصل العميق يقتضي تحقيق الوحدة والتمايز في آنٍ واحد.
أ ـ غياب مبدإ الوحدة:إنْ أقام الإنسانُ علاقةً بآخر وانغلق عنه مستهينًا بمبدإ الوحدة، لم يبقَ أمامه سوى الانعزال. ولأنّه ليس بمقدور أحدٍ أن ينعزل بشكلٍ كلّيّ عن الناس، فإنّه لا يفرّط عادةً بمبدإ الوحدة. ب ـ غياب مبدإ التمايز: قد يتسنّى للإنسان إيهامُ ذاته بأنّه في وحدةٍ مع آخر إذا ما فرّط بمبدإ التمايز. فهو يستطيع عندها أن يذوِّب الآخرَ (فردًا أو جماعة) في ذاته فيتحكّمَ به، أو يذوبَ هو في الآخر فيخضعَ له. وفي الحالتين تصاب شخصيّتُه بالوهن، لأنّه يعيش في حالة اتّكالٍ كيانيٍّ على وجود الآخر. وهكذا فإنّ المسَيْطِر والمُسَيطَر عليه يبقيان معزولين داخليّاً، لانتفاء تمايزهما، ولانعدام لقائهما الحقيقيّ من ثم بشخصيّتيهما المتمايزتَين. ولهذا فإنّ العلاقات الذوبانيّة، خضوعًا وتسلّطًا،[5] لا بدّ أن تُنتِجَ قلقًا عميقًا قد يدفع باتّجاه المزيد من الخضوع أو التسلّط، في حلقة مُفرَغَة.وبالطبع فإنّ لهذا الواقع أثرًا كبيرًا على الصعيد الجماعيّ، إذ يفسِّر ـ ولو جزئيّاً ـ أسبابَ اللجوء إلى التيّارات الشموليّة والعنصريّة والفاشيّة والطائفيّة. ذلك أنّ الفشل في تحقيق الوحدة الحقيقيّة مع الآخرين يؤدّي إلى قلقٍ يدفع إلى السعي إلى وهم الوحدة بإلغاءِ الذات، إمّا بالخضوع أو بالتسلّط.
2 المحبّة والخوفلخبرة العلاقة التي تحافظ على الوحدة في التمايز اسمٌ هو المحبّة؛ أمّا الحبّ فحالةٌ خاصّةٌ من حالات المحبّة. والمحبّة ليست علاقةً شعوريّةً جميلة، وإنّما علاقةٌ يسعى فيها الإنسانُ إلى اللقاء الحرّ العميق بآخر، أيْ إلى تحقيق الوحدة معه في التمايز، مع ما يتضمّن ذلك من مشاعر وتناغمٍ ورعايةٍ ومسؤوليّةٍ واحترامٍ ومعرفة،[6] بالإضافة إلى اللقاء الجنسيّ في حالة الحبّ.
إلاّ أنّ عيش المحبّة مسيرةُ حياةٍ يسعى الإنسانُ فيها أن يحيا "الوحدةَ في التمايز" بشكلٍ أفضل. وأحدُ الحواجز التي نحتاج إلى تجاوزها لعيش المحبّة هو الخوف: الخوفُ من التمايز، وما يحمله من اعترافٍ بالاختلاف، ومن مجازفةِ قبول العزلة أحيانًا ثمنًا للحرّية؛ والخوفُ من مسيرةٍ طويلةٍ في طريق التوحّد مع الآخر، وما يحمله من اعترافٍ بمحدوديّتي وقبولٍ بمجازفةِ الخروج من ذاتي وطمأنينتها. لكنّ الخوف والمجازفة يعنيان لا يَقيْن ولا حتميّة؛ ومن هنا نفهم الجاذبيّة الهائلة للحتميّات، إذ إنّها تحْمل يقينًا يَقي من مواجهة خوفِ الحرّية والوحدة، ومجازفةِ الخروج من الذات.
3 الوجه الخضوعيّ في الانقلاب على المبادئمن هذا المنظور سنحاول أن نقدّم إجابةً ممكنةً عن أسباب انقلاب البعض من منظومةٍ فكريّةٍ إلى نقيضها، وتبنّيهم إيّاها بالحماسة نفسها، بل التعصّبِ لها، والتهجّمِ على كلّ ما يمثّل موقفَهم السابق. وسنعالج، كمثلٍ، وضعَ الشيوعيّين السابقين.
إنّ الردّة الدينيّة واضحةٌ في العالم وفي البلاد العربيّة. وقد تحوّل العديدُ من الشيوعيين بعد انهيار الاتحاد السوفياتيّ من الماركسيّة إلى الإيمان بالله، أو إلى تغييرٍ في منظومتهم الفكريّة، ربّما بعد طول تفكيرٍ وصراعٍ وتفتيشٍ داخليّ. وبعضُهم بقي على انفتاح فكرٍ وفعلٍ، كما ينبغي للمؤمن الحقّ بالله، أو بفكرٍ إنسانيٍّ حقٍّ، أن يكون. ولكنّ بعضهم انتقل من الإيمان بالماركسيّة[7] إلى التعصّب الدينيّ،[8] أو من اعتناق الحتميّة التاريخيّة إلى اعتناق حتميّة السوق والاقتصاد "الحرّ"[9] والدفاع عن الرأسماليّة وعن أنظمةٍ عربيّةٍ كانت "رجعيّة" بمفهوم ذلك البعض في السابق. وهذه المواقف المتنافرة في الظاهر تشترك في ناحيتين: الخضوع للحتميّات والذوبان في جماعة.
أ ـ إغراء الحتميّات: للحتميّات ألقٌ خاصٌّ في إطار تجربة الهروب من تحمّل مسؤوليّة المحبّة. ولا شكّ في أنّ الحتميّات موجودة في هذا الكون، إلاّ أنّها ليست شاملة حتّى على الصعيد العلميّ. ففي الفيزياء مثلاً، يقول فيزياءُ الكمّ (quantum) إنّ وجود إلكترونة في مكانٍ معيّنٍ في الذرّة ليس أمرًا حتميّاً بل ممكنٌ فقط (probable). وفي البيولوجيا، تدلّ الأبحاثُ الأخيرةُ على أنّ الجينات هي "ميْلُنا لا قدَرُنا،" على ما عبّر أحدُ الباحثين[10] الذي بيّن فريقُه أنّ جينات سرطان البروستات تبدّلتْ إثر تغيير نوعيّة الطعام وطريقة العيش (رياضة متتابعة، تمارين يوغا، تأمّل، ...)[11]؛ كما أنّ أبحاثًا أُخرى برهنتْ أنّ ظروف الحيوان قد تؤثّر في جيناته وتوجّهها: فكلّما ازداد اهتمامُ الفأرة بصغارها، حدث تغيّرٌ في الجينات يجعل الصغارَ أقلَّ عدوانيّةً.[12]أمّا على صعيد الإنسان، فإنّ حرّيته تبقى عصيّةً على الحتميّات الشاملة. بل إنّ التاريخَ نفسَه دليلٌ على إشراف الإنسان عليه: فلو كان الإنسانُ مجرّدَ نتيجةٍ لحتميّات التاريخ والطبيعة، لما كان قادرًا على الفعل فيهما؛ ولو بقي لينين على تزمّت "الحتميّة التاريخيّة" لما قام بثورةٍ أسّست نظامًا شيوعيّاً (مشوّهًا في رأيي) في بلدٍ لم يكن يعرف الرأسماليّةَ.
لكنّ للحتميّات جاذبيّةً خاصّةّ. فهي قد تُلبّي عدّة حاجات،[13] أهمُّها أنّها تُشَكّل إطارًا مناسبًا للتخلّص من عبء خوف المحبّة الذي حلّلناه آنفًا. فالحتميّة، إنْ كانت شاملة، تؤمّن للإنسان إمكانيّةَ الخضوع لها ولكهنتها (من اقتصاديّين وخبراء وسياسيّين وفلاسفة)،[14] والتخلّص بالتالي من عبء مجازفات التمايز والحرّية؛ كما أنّها تؤمّن إمكانيّة التخلّص من عبء مجازفة الاتّحاد بالآخر عبر الخروج من الذات والنضال المشترك لإيجاد جواب لمشاكل الإنسان.
ثم إنّ الارتماءَ في تيّار الحتميّات ينجّي من "عبء الحرّية" بطريقةٍ أُخرى. فالمحبّة تقتضي النضالَ من أجل الآخرين، والنضالُ يبدأ بإيمان، والإيمانُ يقتضي الحرّية. فمثلما أنّ المؤمنين بالله لا يروْنه بأمّ العين ولكنهم يؤمنون بوجوده، ويختبرونه على طريقتهم، وينبغي أن يعملوا للعدالة والحرّية انطلاقًا من إيمانهم؛ فإنّ الماركسيّين مثلاً يؤمنون بمبدإهم ويختبرون حقيقته في دواخلهم مع أنّهم لا يروْنه أمامهم، بل ينبغي أن يسعوا إليه. النضال، إذًا، يتطلّب الإيمانَ. والإيمانُ لاحتميٌّ، لأنّه فعلُ تصديقٍ بأنّ ما يسعى إليه الإنسانُ صحيحٌ ولو لم يره، ولو أنّه يشكّ أحياناً: فالماركسيّة مثلاً مبنيّةٌ على الإيمان بالإنسان، وإلاّ كيف كان لماركس أن يبدأ أيَّ تفكيرٍ في الفلسفة كأداةِ تغييرٍ للتاريخ؟
وكما يبدأ كلُّ نضالٍ بإيمان، يبدأ كلُّ إيمانٍ بحرّية: فلكي ينطلق الإيمانُ ينبغي أن يكون الإنسانُ حرّاً من حصريّةِ ما يراه أمامه، وبالتالي قادرًا على الإطلالة على ما يختبره في ذاته ولو لم يره.
وهكذا فإنّ الحتميّات الشاملة تشكّل حلاًّ سهلاً لهروب الناس من المحبّة والحرّية، تشدّهم رغبةٌ في الخضوع أو التسلّط، واتّجاهٌ نحو الاستقالة من مسؤوليّة الـ"أنا" والـ"نحن." لهذا فإنّ الانتقال من الإيمان بحتميّةٍ تاريخيّةٍ اقتصاديّة إلى الإيمان بحتميّةٍ ليبراليّةٍ اقتصاديّة، مثلاً، أمرٌ مُغرٍ لأنّه لا يشكّل تغييرًا حقيقيّاً في الذهنيّة، إذ لا يعدو كونَه انتقالاً من الخضوع لصنمٍ إلى الخضوع لصنمٍ آخر؛ والإثنان ينجّيان من القلق والشكّ المترافقيْن مع الاستمرار في مسيرة الإيمان والنضال والتحرّر والمحبّة.
ب ـ إغراءُ الجماعة: لكلّ إيمانٍ بُعد جماعيٌّ والسؤال المهمّ هنا هو حول نوعيّة هذا الانتماء الجماعيّ. إنّ الإيمان الحماسيّ بحتميّة مُحدِّدَة نهائيّاً للإنسان وللتاريخ يضْمن ارتماءَ الفرد في نهرِ الحتميّة الجارف مع جماعةٍ ما. وهذا الارتماءُ لا يعطي للحرّية الشخصيّة مجالاً للتفتّح. فإذا كان الإنسانُ في الماركسيّة مجرّدَ نتيجةٍ للظروف التاريخيّة الواقعيّة،[15] كان على الشيوعيّ في الاتّحاد السوفياتيّ السابق أن يقْبل بحركة التاريخ كما يفسّرها الحزبُ أو لجنتُه المركزيّةُ.[16] أمّا المؤمنُ بالاقتصاد الليبراليّ فيَخضع بلا نقاشٍ لأحكام السوق، التي لا مردّ لها،[17]كما يفسّرها كهنتُه (الخبراءُ والاقتصاديّون) ، وإلاّ عُدَّ خارجًا عن الإيمان القويم. والأمرُ عينُه في حالة التعصّب الدينيّ: فالتفسير الوحيد المقبول للإيمان هو ما يعطيه القائمون على المجموعة الدينيّة المتعصّبة، ويتصرّف هؤلاء على أنّهم يمتلكون اللهَ، فتصبح علاقةُ الأتباع بالله أشبهَ ما تكون بالاستقالة أمام صنم الجماعة.[18] إنّ الذوبان في حضن الجماعة يشكّل إغراءً كبيراً في كنف الحتميّات الشاملة، لأنّه يؤمّن مجالاً للاستغناء عن الحرّية، واختباراً لشعورٍ واهمٍ بالوحدة مع الآخرين في آن.
ج ـ من صنمٍ إلى صنم: لكنْ ماذا يحدث عندما ينهار صنمُ الحتميّة وصنمُ الجماعة المتعصّبة؟ ما إنْ ينهار صنمٌ بسببٍ من تغيير الظروف، حتّى يَشعر الإنسانُ الذي كان قد ارتمى أمامه بضياع وقلق عميقين. ومن هنا نفهم انتقالَه "الفجائيّ" من إيمانٍ إلى إيمان: من "الإيمان" المتعصّب الماركسيّ، مثلاً، إلى "الإيمان" المتعصّب الدينيّ ، أو إلى "الإيمان" المتعصّب الرأسماليّ.
فإذا لم يكن "الإيمانُ" داخليّاً، قائمًا على اختبارٍ شخصيٍّ لحقيقيّة المبدإ، كان إيماناً سطحيّاً بموضوع خارجيّ، قائمًا على وجود دولةٍ (كالاتّحاد السوفياتيّ) أو منظّمةٍ (كالحزب) أو مؤسّسةٍ (كالكنيسة) أو إنسانٍ (كالقائد)؛ فإذا به ينهار بمجرّد انهيار تلك الدولة أو المنظّمة أو المؤسّسة أو الإنسان. لكنّ حاجةَ ذاك "المؤمن" النفسيّة إلى صنمٍ يَخضع له، ويريحه من عبء حرّيته وممارسةِ محبّته، تبقى موجودةً. ولهذا يبحث عن صنمٍ آخر، خارجيٍّ هو الآخر، ليخضعَ له: السوق، الليبراليّة الاقتصاديّة، دين أو طائفة ما (أمّا الله، كشخصٍ يختبره الإنسانُ مُحرِّرًا ومُحِبّاً، في علاقةٍ شخصيّةٍ حرّة، فيبقى غائبًا).
وإذا كانت علاقةُ الإنسان بموضوع إيمانه علاقةً جماعيّةً ذوبانيّة، علاقةَ هروبٍ من المحبّة والحرّية، اندفعَ إلى عبادة صنمٍ آخر لكي يندمجَ بجماعةٍ أُخرى بالطريقة نفسها، فيتّقيَ القلقَ الحادَّ وشعورَ الخيبة، ويبلغَ يقينًا جديدًا لا يحتمل الحرّية والشكّ ولاحتميّات الحياة. ولكنّه بذلك لم يحقّقْ أيّة مفاجئة على الصعيد النفسيّ لأنّه لم يقم بأيّ انتقالٍ داخليّ؛ فتوجُّهُه بقي عبوديّاً.
يحصل التحوّلُ في المبادئ عندها من دون أن تتغيّر علاقةُ الإنسان بنفسه، بل تبقى علاقةً تتهرّب من تحمّل مسؤوليّة الذات، ومن مسؤوليّة تحقيق المحبّة والحرّية؛ كما يحصل ذلك التحوّل من دون أن تتغيّر علاقةُ الإنسان بغيره في الجماعة، فتبقى علاقةً ذوبانيّة. هؤلاء الذين استسلموا في الحياة لا مجال أمامهم سوى العبادات الهروبيّة الذوبانيّة، وما تولّده من موت، لأنّها لا تتطلّب نضالاً أو حرّيةً أو إيمانًا حقّاً. لقد كان فيكتور هوغو على حقّ عندما قال: "الأحياءُ إنما هم الذين يناضلون."[19]
4 التحوّل كقناعةمن الممكن بالطبع أن يعتنق الإنسانُ منظومةً فكريّةً أو إيمانيّةً معيّنةً وأن يغيّرَها بعد ذلك. ففي الإطار الدينيّ، هَدفتْ كلُّ دعوات الأنبياء إلى تحويل الناس عمّا كانوا عليه. وفي الميدان العلميّ لطالما اضطُرَّ الباحثون، ومعهم بقيّةُ الناس، إلى التحوّل من رأيٍ علميٍّ معيّن إلى آخر (من رؤية الأرض مسطّحةً، مثلاً، إلى رؤيتها دائريّةً). لكنّ مَن قاموا بهذه التحوّلات عادةً ما يُنظَرُ إلى تحوّلهم بأنّه أصيل، فكيف إذًا نُقَيِّم نوعيّةَ التحوّل؟
أعتقد أنّ التحوّل العلميّ الذي يسعى إلى تفسير الكون يُقَيَّم بمدى مقاربته لحقيقة هذا الكون، وذلك بوسائل علميّة. أمّا التحوّلات العقيديّة عند إنسانٍ ما، فالمهمّ فيها هو نوعيّة توجّهه الداخليّ، أيْ طبيعة علاقته بالأفكار التي كان عليها أو انتقل إليها. وإنْ كان لا بدّ من وسائل لتلمّس نوعيّة التحوّل العقيديّ، فإنّ مؤشّراتٍ كالتعصّب (السابقِ لتحوّله أو اللاحقِ عليه)، والتوجّهِ الخضوعيّ أو التسلطيّ في العلاقات بالآخرين وبالمبادئ والأفكار، يمكنها أن تشير إلى إصالة ذلك التحوّل وتعبيرِه عن قناعةٍ شخصيّةٍ أمْ إلى كونه انتقالٌ من عبادة صنمٍ إلى عبادة آخر.
5 هل من تقييم أخلاقيّ؟ولكنْ هل بإمكاننا أن نحْكم أخلاقيّاً على توجّهٍ أو آخر؟ أوَليس الإنسانُ حرّاً في أن يغيّر توجّهاته؟ الجواب هو نعم على السؤالين. بالطبع يمْكن كلَّ إنسانٍ أن يغيّر توجّهاتِه في الحياة (وإلاّ فما معنى دفاعنا عن حرّية الإنسان أعلاه؟)، ولكنْ أيضًا يمْكن الحكمُ أخلاقيّاً على توجّهٍ أو آخر. والبوصلة الأساسيّة التي تمكّننا من رؤية مدى ملاءمة توجّهٍ ما أو عدم ملائمته للإنسان هي مدى خدمته لحياته: فكلُّ توجّهٍ يُقزِّم الحياةَ في الإنسان، ويقلَّص طاقاتها ومواطنَ الفرح فيها، هو توجّهٌ سيّءٌ أخلاقيّاً؛ وكلُّ توجّهٍ يؤجِّج الحياةَ في عيش الإنسان هو توجّهٌ جيّدٌ أخلاقيّاً. واعتمادًا على ما سبق، فإنّ التوجّهين الأساسين في حياة الإنسان هما: مسعى الوحدة، ومسعى التمايز في بيئة الحرّية؛ أيْ، باختصار، مسعى المحبّة في الحرّية.[20] المحبّة هي بوصلةُ الإنسانيّة، وكلُّ توجّهٍ يُحْكَمُ عليه بمدى دفعه الإنسانَ لأن يحيا في حبٍّ وحرّية... أو بمدى دفعه لأن يصير راضخًا وخائفًا ومعزولاً ومتسلّطًا. كما يُحكَمُ على كلّ توجّهٍ بمدى دفعه المجتمعَ لكي يصير أكثرَ ملاءمةً مع تحقيق الإنسان لذاته وتنمية طاقة المحبّة فيه وحرّيته... أو بمدى دفعه المجتمعَ ليصير أكثرَ قمعًا لحرّية الإنسان، وأكثرَ عزلاً له، وأكثرَ دوسًا لفرادته، أيْ أكثرَ تكبيلاً لإمكانيّة عيشه لطاقة محبّته الحرّة.
إنّ توجّهات الإنسان الفكريّة والعمليّة هي توجّهاتُ حياةٍ أو توجّهاتُ موت: فهي تسهِّل إمكانيّة عيش المحبّة أو تصعِّبها، وتفتحُ أبوابَ الحياة أو تفتح أبوابَ الموت. ومن هنا فإنّ محبّة الحياة، إنْ كانت محبّةً أصيلة، تفترض توجّهاتٍ عمليّةً لمقاومة كلّ ظلمٍ وقمعٍ واستغلال، لأنّ هذه تؤدّي إلى ضمورٍ في المحبّة والحرّية، بإضعافها الفرادة ومسعى الوحدة مع الآخرين. ومن دون توجّهاتٍ كهذه، تصير "محبّةُ الحياة" شعارَ عبادةٍ صنميّةٍ جماعيّة.
خلاصة
الإنسان المُعتقِد بفكرٍ إنسانيّ حقّ، كما المؤمنُ الحقُّ بالله كشخصٍ يدخل معه الإنسانُ في علاقة محبّة، يأخذ على عاتقه مسؤوليّةَ حرّيته، فيسعى إلى أن يعيش المحبّةَ والحبَّ في حرّية، محافظًا على مبدأي الوحدة والتمايز، ويقارب الحقائقَ مُعْمِلاً عقلَه وقلبَه في الحياة الإنسانيّة، من دون عبادة أصنام. ذلك الإنسان تعْرفه من "ثماره،" من نضاله، من تعاضده الأخويّ مع البشر، ولاسيّما المظلومون و"الغرباء،"[21] وهو تعاضدٌ يجعله يعمل جادّاً حتّى يعيش إخوتُه في عدلٍ وحرّية. وبالنسبة للمؤمن بالله فعلاقته بالله نفسه عليها أن تكون مغامرة حبٍّ مصلوبٍ على خشبتي الوحدة والتمايز، ومسيرةُ توبةٍ عن أصنام الله، وتشويهات رغبات الناس، ومخاوفهم، وأوهامهم، له (الله).
خريستو المر
[1] يقول: "لماذا فرّختْ منظّمةُ العمل الشيوعيّ... عددًا كبيرًا من كتّاب التعليقات... الذين يتملّقون عائلة الحريري..." (الأخبار، 28/9/ 2007).
[2] Pierre Bourdieu, Contre Feux, (Raisons d’Agir, Paris, 1998), p. 56.
[3] أثبتتْ أبحاثٌ في جامعة McGill الكنديّة في الخمسينيّات أنّ قطع الإنسان عن المؤثّرات الحسّية يُدخله في اضطرابات عديدة، بالرغم من تلبية كلّ حاجاته الجسديّة. راجع مثلاً:
Bexton, W. H., Heron, W., & Scott, T. H. (1954). Effect of Decreased Variation in the Sensory Environment. Canadian Journal of Psychology, 8(2).
Scott, T. H., Bexton, W. H., Heron, W., & Doane, B. K. (1959). Cognitive effects of perceptual isolation. Canadian Journal of Psychology, 13(3), 200-209.
مذكورة عند:
Erich Fromm, The Anatomy of Human Destructivenes (Fawcett Crest, 1975), p. 268.
[4] تشير الأبحاث النفسيّة إلى أنّ الإشباع الجنسيّ نفسه لا يبلغ قمّته إلاّ مع آخر محبوب. راجع: كوستي بندلي، الجنس ومعناه الإنسانيّ (بيروت: منشورات النور، الطبعة 2، 1980)، ص 45 – 52.
[5] لتحليلٍ مفصّلٍ حول علاقات الخضوع والتسلّط، أو المازوشيّة والساديّة، وعلاقة هاتين بالحرّية، راجع الكتاب المشوّق التالي:
Erich Fromm, The Fear of Freedom (London, NY: Routledge Classics, 2004).
[6] Erich Fromm, The Art of Loving (Perennial, 2000), p. 24-30.
[7] لاحظ العديد من المفكّرين أنّ تصرّف الماركسيّين وتفكيرهم، كما ظهرا عند نشوء الاتّحاد السوفياتيّ، كانا يشبهان التصرّف والتفكير الدينيّيين. فقد رأى مثلاً الفيلسوفُ الروسيّ بردياييف أنّ الماركسيّة تحمل بصمات الإيمان الماسيانيّ، أي الإيمان المنتظِر الخلاصَ والتحرّرَ بمجيء المسيح وتحرّر البشريّة في اليوم الأخير، فيقول: "الحتميّة الاقتصاديّة لا يمكنها أن تولّد الحماسَ الثوريّ وأن تحثّ على النضال. هذا الحماس تثيره الفكرةُ الماسيانيّةُ للبروليتاريا ولتحرير الإنسانيّة... القفزة من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرّية، التي كان يتكلّم عنها ماركس وإنغلز، هي قفزةٌ ماسيانيّة." راجع:
Nicolas Berdiaeff, Royaume de l’Esprit et Royaume de César (Paris: Delachaux et Niestlé, 1951), p. 122-123.
أمّا فرويد فلاحظ أنّ الماركسيّة في الاتّحاد السوفياتيّ غدت نظرةً شاملةً إلى الوجود واكتسبتْ "تشابهًا غريبًا بما تحاربه... فإنّ أيّة دراسة نقديّة للنظريّة الماركسية ممنوعة، وتعاقَب الشكوك في صحّتها بالطريقة التي كانت تُعاقَب فيها الهرطقاتُ في الكنيسة الكاثوليكيّة." راجع:
Anthony Storr, Freud: A Very Short Introduction (Oxford University Press, New York), p. 148.
[8] بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ قامت مجموعاتٌ أرثوذكسيّة أصوليّة باضطهاد بعض الرهبان والكهنة، وبإحراق كتب لاهوتيّين أرثوذكس معروفين، كألكسندر شميمين وألكسندر مان وجان مايندورف، لأنّهم "غير قويمين." راجع مقال أحد أهمّ اللاهوتيّين الأرثوذكس المُعاصرين، أوليفيه كليمان، الذي يذكر أنّ "معظم الأديرة [الروسيّة] أصوليّة":
Olivier Clément, “Malaise et Scandale dans l'Eglise Orthodoxe Russe,” Le Monde, 10 Juin 1998.
[9] وهو في الحقيقة اقتصادٌ موجَّه تجني منه حفنةٌ من المنتفعين فائدةً ماليّةً على حساب حياة أكثر الناس وفرحهم.
[10] راجع الموقع التالي على الإنترنت (28/11/2008):
http://www.medicalnewstoday.com/articles/111710.php
[11] Dean Ornish, Mark Jesus M. Magbanua, Gerdi Weidner, et al., “Changes in Prostate Gene Expression in Men Undergoing an Intensive Nutrition and Lifestyle Intervention,” Proceedings of the National Academy of Sciences, Vol. 105, No 24, 2008, pp. 8369-8374.
[12] Ian C. G. Weaver, Ana C. D’Alessio, Shelley E. Brown, et al., “The Transcription Factor Nerve Growth Factor-Inducible Protein A Mediates Epigenetic Programming: Altering Epigenetic Marks by Immediate-Early Genes,” Journal of Neuroscience, February 14, 2007, Vol. 27, 7, pp. 1756-1768.
[13] هكذا استعمل البعضُ نظريّةَ داروين لتبرير المنافسة كضرورةٍ اقتصاديّة، وذلك بتشبيهها بفكرة المنافسة من أجل البقاء والانتقاء الطبيعيّ. فكان، مثلاً، الاقتصاديّ الأميركيّ توماي نيكسون كارفر في القرن التاسع عشر يقول: "إنّ قوانين الانتقاء الطبيعيّ هي مجرّدُ وسائل الله للتعبير عن خياراته وموافقته" و"المُنتَقون طبيعيّاً هُم مُختارو الله." وقد كان كارفر يعتقد أنّ المجموعة البشريّة التي ستبقى هي تلك التي "تُنَظِّم المنافسةَ الفرديّة بمُكافأة الّذين يقوّون المجموعة أكثر، وبمُعاقبة الّذين يقوّون المجموعة أقلّ بواسطة الفقر والفشل." راجع:
Richard Hofstadter, Social Darwinism in American History (Boston: Beacon Press, 2006), p. 151.
[14] يقول بورديو : "ليس من قبيل المصادفة أنّ الكثيرين من أبناء جيلي انتقلوا بسهولةٍ من قدريّةٍ ماركسيّة إلى قدريّةٍ نيو ـ ليبراليّة: ففي الحالين النظرة الاقتصاديّة المحض ترفع المسؤوليّة عن الذات وتجعل الإنسانَ مستسلمًا، وذلك بإلغائها السياسةَ، وبفرضها سلسلةً من الأهداف غير الخاضعة للمناقشة: أقصى نموّ، تنافس، إنتاجيّة." راجع:
Pierre Bourdieu, Contre Feux, opcit, p. 56.
[15] رفض ماركس المادّيّة الميكانيكيّة وقال بالديالكتيكيّة، وذكّر بأنّ الإنسان هو صانعُ التاريخ. إلاّ أنّ بعضَ كتاباته يوحي بأنّ الإنسان (ونضاله) مجرّدُ نتيجة للواقع: "إنّ ما يظنّه الهدفَ، هذا أو ذاك من البروليتاريا، أو البروليتاريا قاطبةً، لا أهمّيةَ له. المسألة مسألةُ ما هي البروليتاريا، وبالتالي، ما الذي ستضطرّ تاريخيّاً إلى أن تفعله. إنّ هدفها وعملها التاريخيّ مرسومان بشكل جليّ ونهائيّ (Its aim and historical action are visibly and irrevocably foreshadowed) في وضعيّة حياتها وفي تنظيم المجتمع البرجوازيّ الحاليّ بأسره." وفي رأيي أنّ مثل هذا الموقف الاختزاليّ للإنسان مهّد للتضحية بالإنسان البروليتاريّ، باسم البروليتاريا، في التجارب الشيوعيّة اللاحقة.
Karl Marx, Friedrich Engels, The Holy Family, chapter 4.
[16] كوستي بندلي، إله الإلحاد المُعاصِر )بيروت: منشورات النور، 1968)، ص 40.
[17] خريستو المرّ، وعود الإعلام وأوهام الحرّية (بيروت: التعاونيّة الأرثوذكسيّة للتوزيع والنشر، 2009)، ص 209-215.
[18] وذلك عوضَ ما يُدعى في المسيحيّة بالتآزر (synergy)، أي العمل التعاونيّ بين الله والإنسان.
[19] “Ceux qui vivent sont, ce sont ceux qui luttent »
Victor Hugo, Les châtiments.
[20] في هذا الشأن، الإيمان المسيحيّ بالله الواحد ثالوثًا يرى الله حاملاً وحدةَ الجوهر الإلهيّ في تمايز الأقانيم الثلاثة (الآب والابن والروح القدس)، ويرى حركةَ حبّ أبديّةً تجمع الثالوث. أمّا الإنسان فهو مدعوّ إلى أن يدخل مع الله في علاقة وحدةٍ ذاتِ تمايزٍ وحرّية، أيْ في علاقة محبّة، فـيتألّه الإنسان، أي يشارك في حياة الله.
[21] يبيّن يسوع أنّ القريب هو من تجعله قريبًا بخدمتك إيّاه، أيْ بلقائه المُحِبّ الفاعل (لوقا 10: 25-37)؛ وفي تعليمٍ آخر يجعل يسوع من دفاع الإنسان عن المُستَضعَفين، ومن عدم دفاعه عنهم، مقياسَ قربه إلى الله أوبعده عنه، أيْ مقياسَ "دخوله" الملكوتَ أو عدم "دخوله" (متّى 25: 31-36). أمّا يوحنّا، أحدُ تلامذته، فيجعل من محبّة الإنسان أو عدم محبته للآخرين دليلَ محبّته أو عدم محبّته لله (1 يوحنّا 4: 20).