المقالة الأصليّة
بخورُ حبر وملاذ للعاشقين: قراءة في ديوان خريستو المرّ
مجلّة الآداب، عدد حزيران ٢٠١٩
الأستاذة ساندي عبد النور
اللافت في ديوان خريستو المرّ للوهلة الأولى عنوانُه: كلماتٌ للضياع ... حبيبةٌ للمنفى. في بادئ الأمرِ يتراءى لنا أنّه يشير الى دلالاتٍ سلبيّة، لكنْ إنْ غصْنا في مقاصدِ الشاعر أدركْنا أنّ هذا الضياعَ إيجابيّ، بعيدٌ عن الهروب أو الشرود. إنّه حالةٌ تعودُ على صاحبها باسترجاع النفس بحلّةٍ أفضل. وقد لا تستعادُ تلك الحلّةُ بطريقةٍ أعظمَ من أن تتجلّى في الكتابات التي تخرجُ صادقةً من أعماقِ النفس.
في العنوان، تتجاور الكلماتُ بالمنفى، والحبيبةُ بالضياع. والشاعر، مذْ عنوَن الديوانَ، يلمّح إلينا برغبة الهروب بالمعنى البودليريّ: لن نقطفَ الخيرَ إنْ لم ننزلقْ في الشرّ، ولنْ نعرفَ السعادةَ إنْ لم نتذوّق المرارةَ. إنّ مَن يضيعُ بكلماته ليس جبانًا، ومَن يُنفى في كنفِ الحبيبة سيعود بإلهاماتِها ليطبِّبَ أوجاعَه. والفرحُ الذي يرجوه الشاعرُ، وسيعود به من منفاه في كنف الحبيبة، يلخِّصه الجزءُ الأخيرُ من الديوان، لأنّه يقول زبدةَ الرحلِة - رحلةِ الجُلجُلة - التي خاضها الشاعرُ وتتوّجتْ بالورد: "وكلانا فائحٌ مثلَ الحريق/ وكلانا يشتهي حبًّا شريدًا/ وكلانا يجدُ الآخرَ في وردِ الطريق."
أمّا عن أسباب رغبة الشاعرِ في الضياع، فيجيبُ عنها الجزءُ الأوّل، "حكاياتٌ للعصافير." في هذا الجزء، يحاولُ الشاعرُ أن يطرحَ القضايا التي تضعُه في حالةٍ موجعةٍ يَنْشُد معها الضياعَ، أو الابتعادَ الآنيّ، من أجل عودةٍ أفضلَ، وعلى أسسٍ أمتن. يبدأ هذا الجزءُ بقصيدة "لا مقرّ،" وينتهي بقصيدةٍ تحمل عنوانًا مطابقًا: "إلى أينَ نذهبُ؟" العنوانان يشدّدان على فكرة الضياع التي يعيشُها المؤلِّف، لا لأنّه اضطُرَّ إلى الهجرة فحسب، وإنّما لأنّنا سنراهُ يطرحُ أيضًا، وفي هذا الجزء بالتحديد، معضلاتٍ من صُلب الواقع، تعانيها الشريحةُ الكبرى من المجتمع: "حوِّلْ مماتَكَ لانتصار/ عتِّقْ جراحَكَ في الجِرار/ خُضْ حربَ حبِّكَ، لا فرار/ ملِّحْ ضياعَكِ بالبكاء/ غَمِّسْ رحيلَكَ بالنهار." (ص 16)
يستطيعُ قارئٌ متعمِّقٌ أن يفهمَ أسبابَ ممات شاعر؛ فقد قُطِفَ يافعًا من تربتِه ليُزرَعَ في تربة الغربة. ولهذا نجدُه عازمًا على تحويلِ موته إلى قيامة، وتعتيقِ جراحِه كما يعتَّقُ النبيذ، وتمليحِ الضياع بالبكاء تطهُّرًا من قذارات العالم. ومَن تصفَّحَ الديوانَ وَجد انغراسَ الموروثات الدينيّة، وبخاصّةٍ المسيحيّة، في حِبر الشاعر. إنّه عالمٌ زاخرٌ بالدِّماءِ "دال، ميم" كما ذكرَ الشاعرُ في قصيدةِ "الى أين نذهب." و بـ"حاء - باء،" أيْ بالحبّ، سيتمُ الخلاصُ: "آهٍ/ وأنتِ/ يا حبيبةُ والموجةُ الساكِتة/ بينَنا لوزةٌ لونُها نافذة/ بيننَا يشتهي اللهُ جِسمًا/ يشبهُ الحبَّ فوقَ شفاهِكِ/ بينَنا ... سورةٌ ومائدة."
نفهمُ من ذلك أنّ البلاد غَدتْ جُرحًا لأنّها استقالت من دورِها أمًّا حاضنةً لأبنائها، فأفلحتِ الحبيبةُ في أن تكون له الوطنَ، لتصبحَ الغربةُ أحبَّ إلى قلبه من تربةٍ تقيّأتْه. الحبيبةُ هي ذاتُ الشاعر، وشفاهُها هي المائدةُ التي ستمنَحُه الغذاءَ ليتخطّى الجرحَ وليخفَّ صليبُه: "بلادي (...)/ كم صليبٍ زرعتِ لحبّي/ والحبُّ يصبحُ في الصّلبِ أجملْ."(ص 112)
يزيدُ الشاعرُ قضايا أُخرى كقضيّةِ فلسطينَ في قصيدة "فلسطينُ اسمي،" حيثُ يسطّرُ خيانةَ الأرضِ في بلادنا لأبنائِها: "فمن عادةِ الأرضِ في بلادي/ أن تَقُصَّ حكايةَ جسمي/ وحبّةِ قمحٍ فقيرة/ لقصّةِ موتٍ صغيرة/ تَشُعُّ وتَفْنى لينمو مقاتلْ..." وكقضيّة ذلك الولدِ الذي "منذ طفولتِهِ انطفأتْ أناهْ." هذا الولدُ هو كلُّ واحدٍ منّا عاشَ في طفولته - كما الشاعر - جرحَ الحربِ والغربةِ والموت، كما أشار في قصيدة "الرحيل": "وأنزفُ نجومًا وراءَ نجوم/ تضيقُ تفاصيلُ حزنٍ قديم/ وينكمشُ المستحيل.../ سنرحلُ (...)/ سنرحلُ حبًّا/ ونشربُ نخبَ الغياب (...)/ سيهوي الحجابْ/ ينهزمُ الغيابْ."
نفهمُ أنّ الشاعرَ في آخرِ تلك القصيدة يعيش رجاءَ المؤمن، الموقنِ أنّ اللعنةَ ستتلاشى، وأنّ الغيابَ سيزول، ليفسحَ المكانَ لوجودٍ لا بدّ منه في أحضان المولى الذي لا يتركُ عبادَه المتوكّلين عليه: "يدٌ لي/ ولي إخوةٌ يعجنونَ الرغيفَ بملحِ دموعي/ ويرمونَ لي/ ويرمونَني (..)/ رأيتُ جِراحًا كمرآة/ ووجهَ يسوعَ يُضيءُ عليّ."
إنّها يدُ العامل في تربة الأفئدة البشريّة. ومهما اشتدّتْ عليهِ الأوجاع، فسيأتي وجهُ يسوع ليداويَه، فيتمكّنَ من الرجوع إلى دياره يومًا ما، كما حدثَ مع حسن، المهجَّرِ من فلسطين وسوريا، والمُهمَّشِ في بيروت؛ وقد خصَّه الشاعر بقصيدة "الرقصة الأخيرة في بيروتَ،" أرانا فيها كيف التحمَ الطيرُ المذبوحُ في غربتِهِ برجوعِه الى أرضِ الوطنِ: "وإنّي أراقصُ غُربتي/ وإنّي أموتْ.../ وها الآن أحيا.../ إليكِ فلسطينُ حبّ الرجوع."
سنختمُ تحليلَ الجزء الأوّل بالتوقّف عند ثلاث قصائد متناغمة مع الشِّقِّ الثاني، وهي: "منفى" و"نهد،" و"نجوم." ويعود اختياري تلك القصائدَ بالتحديد، وإرفاقها بالجزء الثاني ("حكايات للضوءِ")، إلى أنّ النُّهود توحي بمصدر الأمومة والحنان والحماية؛ وهذا ما يبحثُ عنه الشاعر، وقد اختارَ الحبيبةَ وطنًا بعد أن خذله الوطن. لذا اعتبرنا النهودَ نجومًا بها يستدلُّ، ليبلغَ المُرتَجى: "لنا جسدانِ/ من حبٍّ جميلٍ/ وانتظار لاجئٍ في الشمسِ/ لا يغفى (...)/ كأنّ العمرَ نجمانِ/ من وقتٍ/ ومن حبٍّ:/ نجمٌ يَهجرُ الجسمَ/ ونجمٌ شارقًا يبقى." (ص 44 - 45)
الجزءُ الثاني من الديوانِ الذي تستهلُّه قصيدةُ "أنتِ الأميرة" يأتينا بالتفاسيرِ المطلوبة من العنوانِ نفسه. فالشاعر في هذا الجزء سيلثُمُ الضوءَ، ويسبَحُ في النورِ، بفضلِ الحبيبةِ، التي ستنتشِلُه، بالحبّ، من قيود العالم وندوبِه: "وأنتِ الأميرةُ/ فكّي لي الريحَ/ فوقَ السريرِ/ لكي أُفْرِدَ الأمنياتِ الأسيرةَ/ لكي تلدي الصبحَ حولِي/ أو الضوءَ/ أو أصبحَ الشامةَ الشريدة/ عند شفاهِك (...)/ وكُوني ليَ الحبَّ وحدَه/ لا شيءَ إلّاهُ/ لكي نبتَديَ وطنًا ما/ فنرفعَ غربتَنا مع نزاعِ المسيح..."
وكأنّ الغربةَ عصفتْ به، فتوجّعَ كما توجّعَ المسيحُ على الصليب. وكما غُدِرَ المسيح من أقربِ المقرّبين، كذلك الشاعرُ غدرتْهُ الأرضُ، الأمُّ، فصرخَ ألمًا، وما من طبيبةٍ كالحبيبةِ كي تُبرِئه.
إذا تصفّحَ القارئ عناوينَ قصائد هذا الجزء لمسَ مدلولاتِها الايجابيّة: "أنتِ الأميرة،" "هو الحبّ،" "وردة،"... وصولًا إلى "ولادة،" التي تختمُ الجزءَ الثاني، ليكونَ ولادةً للشاعرِ تشيرُ إلى مستقبلٍ واعدٍ، لخّصَه الجزءُ الثالث في قصيدتين عكَسَتا رجاءَه على الرغم من كلِّ المعوِّقات. في هذا الجزء نعثر على اثنتيْ عشرة قصيدةً كانت له بمثابةِ جسرِ عبورٍ نحو الخلاص، وسراجٍ منيرٍ ليجتازَ النفق. ولا نورَ أسطع من نورِ الحبّ - حبِّ الخالقِ - الذي تجلّى في شخص الحبيبة الرفيقة: "كم تُعيرينَ روحَكِ للحبّ، أيْ للغريبِ/ وأنا كالوليمةِ للحبِّ والنارِ/ صِرْنا معًا وردةً في الصليبِ/ وخاصرةً تنزِفُ الجُلَّنار." (ص 150)
وازى الشاعرُ الحبَّ بالغريب، أي بيسوع، الذي طالما لُقّبَ بالغريب لأنّ الجماعة رفضتْه وساقته إلى الصلب. يسوع هَزم الموتَ، فقام في اليوم الثالث. أمّا الشاعرُ فبالحبيبةِ وبالحبّ يستطيعُ أن يغلبَ الوجعَ ويُميتَ الموتَ. (ص 149) تحتلُّ الحبيبةُ في هذا الجزء، إذًا، المساحةَ الكبرى. وكلُّ قصائدِه تُتَرجِمُ قوّتَها الخارقة التي ستخلّصُ الشاعرَ من زوبعةِ العالمِ التي تعصِف به: "لماذا أصارعُ هذا الوتر/ وقد عوَّدَتْني على الموجِ عيناكِ/ واجترحَ الحبُّ فينا السفرْ/ لماذا أحاولُ هذا القمرْ؟" (ص 143)
هكذا، "بقليلٍ من الحبّ،" وهو عنوانُ إحدى قصائد الجزء الثاني، سيخرُج الشاعرُ من عتمة العالم وغياهبِ الغربة الى الشُّعاع: "قليلٌ من الحبّ يُفرحُ شِراعي/ فتسكرُ روحِي وكُلّي اشتعال/ وإنّي الرحيلُ الذي ينتهي/ برحيل/ وإنّي الغريبُ الذي يكتفي/ بشعاع." ذلك لأنّ وصالَ الحبيبة سيُعِتقه من كلِّ الآلام، فيصبُح الحبُّ فيه في تجدّدٍ دائم: "قليلٌ من الحبّ يدفعُ حبّي إلى الابتداء." ومن هذا القليلِ سيُطلُّ على المزيد: "أغوصُ مزيدًا من القلب/ كي أُنقذَ القلبَ من صخرةِ الاكتئاب/ وكم صارَ صبحي جميلًا/ وكم كان موتي طويلًا/ بلا ضوءِ عينيكِ كلُّ ضباب."
والحبُّ بمفهوم الشاعر قائمٌ على ارتباط الجسدِ بالروحِ، لا يشبهُ الحبَّ العذريّ ولا الإباحيَّ. انّه الحبُّ المعتدل، الذي لا يعترفُ بتفرّديّةِ ناحيةٍ على ناحيةٍ أخرى. هذه المرأةُ الملهمة المعتّقة التي ارتسمتْ بين الأبيات قلبت المعادلةَ، فأصبحتْ صحراءُ قلبه واحةَ أمنيات، ومآسي أرضِه حمامَ سلام: "هنا خلفَ هذا الدوار/ وفي كلّ أرضٍ لنا تائهة/ كمْ أُحبُّ حمامَ السلام/ الذي يتفتّحُ نافذةً نافذة/ في جداري/ رسولًا في السموات المضيئة/ في عينيك الشاردة." (ص 123)
وبهذا، نفهمُ أنّ الشرود، إذا ارتبطَ بالحبيبة، قمّةُ الاهتداء والعودةِ إلى الذات. كذلك، فإنّ الضياع عن وطنٍ، غادرَه قسرًا، التحامٌ بالذات لملاقاتها. بالحبّ، سيتألّهُ الانسانُ: "أكونُ كما الله/ ذاك الذي كلّمنا/ وأكون/ أكونُ إلهًا بسيطًا/ قتيلًا/ كعيسى الذي صار أنا..." وما الأغاني إلّا كلماتُ الحبيبة التي لحّنتْها أوتارُ فؤادِها، المُشرقِ عليه في ضجيجِ العالم وشرورِه، فلا يبقى من الفوضى التي يتخبّطُ فيها البشرُ (لا الشاعرُ وحده) إلّا وميضُ صمودٍ غرسَهُ الحبُّ - حبُّ الخالقِ الذي أرسلَ إليه هذه المرأةَ الاستثنائيّةَ، فأعادتْ خلقَه، وهو المتعبُ على ضفافِ الزمان: "وحيدانِ/ أنتِ جريحة/ وإنّي لَمُتَعبُ/ وحيدانِ/ وحيدانِ/ كالتعبِ/ وحيدانِ/ والحُبُّ مرْكَب." (ص 13)
ساندي عبد النور
في العنوان، تتجاور الكلماتُ بالمنفى، والحبيبةُ بالضياع. والشاعر، مذْ عنوَن الديوانَ، يلمّح إلينا برغبة الهروب بالمعنى البودليريّ: لن نقطفَ الخيرَ إنْ لم ننزلقْ في الشرّ، ولنْ نعرفَ السعادةَ إنْ لم نتذوّق المرارةَ. إنّ مَن يضيعُ بكلماته ليس جبانًا، ومَن يُنفى في كنفِ الحبيبة سيعود بإلهاماتِها ليطبِّبَ أوجاعَه. والفرحُ الذي يرجوه الشاعرُ، وسيعود به من منفاه في كنف الحبيبة، يلخِّصه الجزءُ الأخيرُ من الديوان، لأنّه يقول زبدةَ الرحلِة - رحلةِ الجُلجُلة - التي خاضها الشاعرُ وتتوّجتْ بالورد: "وكلانا فائحٌ مثلَ الحريق/ وكلانا يشتهي حبًّا شريدًا/ وكلانا يجدُ الآخرَ في وردِ الطريق."
أمّا عن أسباب رغبة الشاعرِ في الضياع، فيجيبُ عنها الجزءُ الأوّل، "حكاياتٌ للعصافير." في هذا الجزء، يحاولُ الشاعرُ أن يطرحَ القضايا التي تضعُه في حالةٍ موجعةٍ يَنْشُد معها الضياعَ، أو الابتعادَ الآنيّ، من أجل عودةٍ أفضلَ، وعلى أسسٍ أمتن. يبدأ هذا الجزءُ بقصيدة "لا مقرّ،" وينتهي بقصيدةٍ تحمل عنوانًا مطابقًا: "إلى أينَ نذهبُ؟" العنوانان يشدّدان على فكرة الضياع التي يعيشُها المؤلِّف، لا لأنّه اضطُرَّ إلى الهجرة فحسب، وإنّما لأنّنا سنراهُ يطرحُ أيضًا، وفي هذا الجزء بالتحديد، معضلاتٍ من صُلب الواقع، تعانيها الشريحةُ الكبرى من المجتمع: "حوِّلْ مماتَكَ لانتصار/ عتِّقْ جراحَكَ في الجِرار/ خُضْ حربَ حبِّكَ، لا فرار/ ملِّحْ ضياعَكِ بالبكاء/ غَمِّسْ رحيلَكَ بالنهار." (ص 16)
يستطيعُ قارئٌ متعمِّقٌ أن يفهمَ أسبابَ ممات شاعر؛ فقد قُطِفَ يافعًا من تربتِه ليُزرَعَ في تربة الغربة. ولهذا نجدُه عازمًا على تحويلِ موته إلى قيامة، وتعتيقِ جراحِه كما يعتَّقُ النبيذ، وتمليحِ الضياع بالبكاء تطهُّرًا من قذارات العالم. ومَن تصفَّحَ الديوانَ وَجد انغراسَ الموروثات الدينيّة، وبخاصّةٍ المسيحيّة، في حِبر الشاعر. إنّه عالمٌ زاخرٌ بالدِّماءِ "دال، ميم" كما ذكرَ الشاعرُ في قصيدةِ "الى أين نذهب." و بـ"حاء - باء،" أيْ بالحبّ، سيتمُ الخلاصُ: "آهٍ/ وأنتِ/ يا حبيبةُ والموجةُ الساكِتة/ بينَنا لوزةٌ لونُها نافذة/ بيننَا يشتهي اللهُ جِسمًا/ يشبهُ الحبَّ فوقَ شفاهِكِ/ بينَنا ... سورةٌ ومائدة."
نفهمُ من ذلك أنّ البلاد غَدتْ جُرحًا لأنّها استقالت من دورِها أمًّا حاضنةً لأبنائها، فأفلحتِ الحبيبةُ في أن تكون له الوطنَ، لتصبحَ الغربةُ أحبَّ إلى قلبه من تربةٍ تقيّأتْه. الحبيبةُ هي ذاتُ الشاعر، وشفاهُها هي المائدةُ التي ستمنَحُه الغذاءَ ليتخطّى الجرحَ وليخفَّ صليبُه: "بلادي (...)/ كم صليبٍ زرعتِ لحبّي/ والحبُّ يصبحُ في الصّلبِ أجملْ."(ص 112)
يزيدُ الشاعرُ قضايا أُخرى كقضيّةِ فلسطينَ في قصيدة "فلسطينُ اسمي،" حيثُ يسطّرُ خيانةَ الأرضِ في بلادنا لأبنائِها: "فمن عادةِ الأرضِ في بلادي/ أن تَقُصَّ حكايةَ جسمي/ وحبّةِ قمحٍ فقيرة/ لقصّةِ موتٍ صغيرة/ تَشُعُّ وتَفْنى لينمو مقاتلْ..." وكقضيّة ذلك الولدِ الذي "منذ طفولتِهِ انطفأتْ أناهْ." هذا الولدُ هو كلُّ واحدٍ منّا عاشَ في طفولته - كما الشاعر - جرحَ الحربِ والغربةِ والموت، كما أشار في قصيدة "الرحيل": "وأنزفُ نجومًا وراءَ نجوم/ تضيقُ تفاصيلُ حزنٍ قديم/ وينكمشُ المستحيل.../ سنرحلُ (...)/ سنرحلُ حبًّا/ ونشربُ نخبَ الغياب (...)/ سيهوي الحجابْ/ ينهزمُ الغيابْ."
نفهمُ أنّ الشاعرَ في آخرِ تلك القصيدة يعيش رجاءَ المؤمن، الموقنِ أنّ اللعنةَ ستتلاشى، وأنّ الغيابَ سيزول، ليفسحَ المكانَ لوجودٍ لا بدّ منه في أحضان المولى الذي لا يتركُ عبادَه المتوكّلين عليه: "يدٌ لي/ ولي إخوةٌ يعجنونَ الرغيفَ بملحِ دموعي/ ويرمونَ لي/ ويرمونَني (..)/ رأيتُ جِراحًا كمرآة/ ووجهَ يسوعَ يُضيءُ عليّ."
إنّها يدُ العامل في تربة الأفئدة البشريّة. ومهما اشتدّتْ عليهِ الأوجاع، فسيأتي وجهُ يسوع ليداويَه، فيتمكّنَ من الرجوع إلى دياره يومًا ما، كما حدثَ مع حسن، المهجَّرِ من فلسطين وسوريا، والمُهمَّشِ في بيروت؛ وقد خصَّه الشاعر بقصيدة "الرقصة الأخيرة في بيروتَ،" أرانا فيها كيف التحمَ الطيرُ المذبوحُ في غربتِهِ برجوعِه الى أرضِ الوطنِ: "وإنّي أراقصُ غُربتي/ وإنّي أموتْ.../ وها الآن أحيا.../ إليكِ فلسطينُ حبّ الرجوع."
سنختمُ تحليلَ الجزء الأوّل بالتوقّف عند ثلاث قصائد متناغمة مع الشِّقِّ الثاني، وهي: "منفى" و"نهد،" و"نجوم." ويعود اختياري تلك القصائدَ بالتحديد، وإرفاقها بالجزء الثاني ("حكايات للضوءِ")، إلى أنّ النُّهود توحي بمصدر الأمومة والحنان والحماية؛ وهذا ما يبحثُ عنه الشاعر، وقد اختارَ الحبيبةَ وطنًا بعد أن خذله الوطن. لذا اعتبرنا النهودَ نجومًا بها يستدلُّ، ليبلغَ المُرتَجى: "لنا جسدانِ/ من حبٍّ جميلٍ/ وانتظار لاجئٍ في الشمسِ/ لا يغفى (...)/ كأنّ العمرَ نجمانِ/ من وقتٍ/ ومن حبٍّ:/ نجمٌ يَهجرُ الجسمَ/ ونجمٌ شارقًا يبقى." (ص 44 - 45)
الجزءُ الثاني من الديوانِ الذي تستهلُّه قصيدةُ "أنتِ الأميرة" يأتينا بالتفاسيرِ المطلوبة من العنوانِ نفسه. فالشاعر في هذا الجزء سيلثُمُ الضوءَ، ويسبَحُ في النورِ، بفضلِ الحبيبةِ، التي ستنتشِلُه، بالحبّ، من قيود العالم وندوبِه: "وأنتِ الأميرةُ/ فكّي لي الريحَ/ فوقَ السريرِ/ لكي أُفْرِدَ الأمنياتِ الأسيرةَ/ لكي تلدي الصبحَ حولِي/ أو الضوءَ/ أو أصبحَ الشامةَ الشريدة/ عند شفاهِك (...)/ وكُوني ليَ الحبَّ وحدَه/ لا شيءَ إلّاهُ/ لكي نبتَديَ وطنًا ما/ فنرفعَ غربتَنا مع نزاعِ المسيح..."
وكأنّ الغربةَ عصفتْ به، فتوجّعَ كما توجّعَ المسيحُ على الصليب. وكما غُدِرَ المسيح من أقربِ المقرّبين، كذلك الشاعرُ غدرتْهُ الأرضُ، الأمُّ، فصرخَ ألمًا، وما من طبيبةٍ كالحبيبةِ كي تُبرِئه.
إذا تصفّحَ القارئ عناوينَ قصائد هذا الجزء لمسَ مدلولاتِها الايجابيّة: "أنتِ الأميرة،" "هو الحبّ،" "وردة،"... وصولًا إلى "ولادة،" التي تختمُ الجزءَ الثاني، ليكونَ ولادةً للشاعرِ تشيرُ إلى مستقبلٍ واعدٍ، لخّصَه الجزءُ الثالث في قصيدتين عكَسَتا رجاءَه على الرغم من كلِّ المعوِّقات. في هذا الجزء نعثر على اثنتيْ عشرة قصيدةً كانت له بمثابةِ جسرِ عبورٍ نحو الخلاص، وسراجٍ منيرٍ ليجتازَ النفق. ولا نورَ أسطع من نورِ الحبّ - حبِّ الخالقِ - الذي تجلّى في شخص الحبيبة الرفيقة: "كم تُعيرينَ روحَكِ للحبّ، أيْ للغريبِ/ وأنا كالوليمةِ للحبِّ والنارِ/ صِرْنا معًا وردةً في الصليبِ/ وخاصرةً تنزِفُ الجُلَّنار." (ص 150)
وازى الشاعرُ الحبَّ بالغريب، أي بيسوع، الذي طالما لُقّبَ بالغريب لأنّ الجماعة رفضتْه وساقته إلى الصلب. يسوع هَزم الموتَ، فقام في اليوم الثالث. أمّا الشاعرُ فبالحبيبةِ وبالحبّ يستطيعُ أن يغلبَ الوجعَ ويُميتَ الموتَ. (ص 149) تحتلُّ الحبيبةُ في هذا الجزء، إذًا، المساحةَ الكبرى. وكلُّ قصائدِه تُتَرجِمُ قوّتَها الخارقة التي ستخلّصُ الشاعرَ من زوبعةِ العالمِ التي تعصِف به: "لماذا أصارعُ هذا الوتر/ وقد عوَّدَتْني على الموجِ عيناكِ/ واجترحَ الحبُّ فينا السفرْ/ لماذا أحاولُ هذا القمرْ؟" (ص 143)
هكذا، "بقليلٍ من الحبّ،" وهو عنوانُ إحدى قصائد الجزء الثاني، سيخرُج الشاعرُ من عتمة العالم وغياهبِ الغربة الى الشُّعاع: "قليلٌ من الحبّ يُفرحُ شِراعي/ فتسكرُ روحِي وكُلّي اشتعال/ وإنّي الرحيلُ الذي ينتهي/ برحيل/ وإنّي الغريبُ الذي يكتفي/ بشعاع." ذلك لأنّ وصالَ الحبيبة سيُعِتقه من كلِّ الآلام، فيصبُح الحبُّ فيه في تجدّدٍ دائم: "قليلٌ من الحبّ يدفعُ حبّي إلى الابتداء." ومن هذا القليلِ سيُطلُّ على المزيد: "أغوصُ مزيدًا من القلب/ كي أُنقذَ القلبَ من صخرةِ الاكتئاب/ وكم صارَ صبحي جميلًا/ وكم كان موتي طويلًا/ بلا ضوءِ عينيكِ كلُّ ضباب."
والحبُّ بمفهوم الشاعر قائمٌ على ارتباط الجسدِ بالروحِ، لا يشبهُ الحبَّ العذريّ ولا الإباحيَّ. انّه الحبُّ المعتدل، الذي لا يعترفُ بتفرّديّةِ ناحيةٍ على ناحيةٍ أخرى. هذه المرأةُ الملهمة المعتّقة التي ارتسمتْ بين الأبيات قلبت المعادلةَ، فأصبحتْ صحراءُ قلبه واحةَ أمنيات، ومآسي أرضِه حمامَ سلام: "هنا خلفَ هذا الدوار/ وفي كلّ أرضٍ لنا تائهة/ كمْ أُحبُّ حمامَ السلام/ الذي يتفتّحُ نافذةً نافذة/ في جداري/ رسولًا في السموات المضيئة/ في عينيك الشاردة." (ص 123)
وبهذا، نفهمُ أنّ الشرود، إذا ارتبطَ بالحبيبة، قمّةُ الاهتداء والعودةِ إلى الذات. كذلك، فإنّ الضياع عن وطنٍ، غادرَه قسرًا، التحامٌ بالذات لملاقاتها. بالحبّ، سيتألّهُ الانسانُ: "أكونُ كما الله/ ذاك الذي كلّمنا/ وأكون/ أكونُ إلهًا بسيطًا/ قتيلًا/ كعيسى الذي صار أنا..." وما الأغاني إلّا كلماتُ الحبيبة التي لحّنتْها أوتارُ فؤادِها، المُشرقِ عليه في ضجيجِ العالم وشرورِه، فلا يبقى من الفوضى التي يتخبّطُ فيها البشرُ (لا الشاعرُ وحده) إلّا وميضُ صمودٍ غرسَهُ الحبُّ - حبُّ الخالقِ الذي أرسلَ إليه هذه المرأةَ الاستثنائيّةَ، فأعادتْ خلقَه، وهو المتعبُ على ضفافِ الزمان: "وحيدانِ/ أنتِ جريحة/ وإنّي لَمُتَعبُ/ وحيدانِ/ وحيدانِ/ كالتعبِ/ وحيدانِ/ والحُبُّ مرْكَب." (ص 13)
ساندي عبد النور