وثيقة نختار الحياة: ملاحظات لا بدّ منها
مجلّة تيلوس العدد ٥ حزيران/يونيو ٢٠٢٢
خريستو المرّ
صدرت عن مجموع من اللاهوتيّين، وبعضهم أصدقاء نجلّ، وسبّاقون في المعرفة وفي الالتزام بقضايا شعبنا، وثيقة قيّمة بعنوان "نختار الحياة" وربّما هي أهمّ وثيقة كنسيّة صدرت منذ عشرات السنوات عن مجموعة لاهوتيّة. تطرح الوثيقة تحليلا للأوضاع في البلاد العربيّة واستشرافا للمستقبل. وبالرغم ممّا جاء فيها من عمق في التحليل وجرأة في النقد والطروحات ونَفَسَها التقدميّ، فإنّ عددًا من الملاحظات تلفت النظر وتقتضي الإيضاح، ولذلك ندفع بها هنا على سبيل إغناء الحوار وخاصة أنّ الالتباس الممكن في بعض نواحيها قد يوظّف في مشاريع سياسيّة جدّ سيّئة، برأينا. ونظرًا لضيق المساحة، فلن نقوم بتلخيص النقاط المفرحة والمضيئة التي أتت بها الوثيقة، وهو ما تغطّيه القراءات المتعدّدة في هذا العدد من تيلوس.
الفقر والاستغلالكلمة الفقر غائبة تماما عن النصّ. في المقابل كلمة "فقراء" مذكورة مرّتين، والمرّتين فقط في سياق جائحة كورونا وأثرها على الناس (فقرة 28 و 29). إنّ كلمة "الفقراء" كلمة عامة تعكس التفكير التقليديّ عن وجود فقراء، وتُغفل عن تحليل الفقر، وأسباب، وسياسات إنتاجه. وذا غياب فادح إذا ما تأمّلنا أنظمة الاستغلال والفقر العميم في بلاد عربيّة عديدة.
أمّا النظام التعليميّ ملجأ الفقراء لطلب العلم، فقد أدانت الوثيقة تقصيره ولكن لم تدعُ مرّة إلى دعمه، ولا يمكن ألا نتساءل إن لم تكن أسباب غياب الكلام عن ضرورة دعم التعليم الرسميّ كامنة في مصلحة الكنائس الماليّة، فالكنائس تمتلك مؤسّسات تربويّة خاصّة. ونتسائل إن لم يكن غياب التحليل حول الفقر ونقد أسبابه مرتبط بنفس خلفيّة تضارب المصالح، فغياب هذا النقد يعني أن نتجنّب نقد التحالف المعروف بين الكنيسة ورجال المال والسلطة، والأنظمة، التي تتحالف لتولّد الفقر.
والوثيقة تذكر في نقطة ٢٨ إهمال النوذج الاقتصاديّ للصحّة. هنا أيضا تغيب عن الوثيقة العلاقة بين الفقر والصحّة، وهي علاقة معروفة منذ ما قبل جائحة كورونا، فالأمراض ترتبط مباشرة بمستوى الدخل والأدلّة الاحصائيّة التي توثّق هذه العلاقة تتراكم منذ عشرات السنوات.
هناك بالفعل غياب تام لتحليل أسباب الفقر، الداخليّة منها (الأنظمة)، والخارجيّة (السياسات الاستعماريّة المستمرّة). هذا الغياب الفاقع يقابله كلمات تعجّ بها الوثيقة مثل: الثقافة (٤٥ مرّة) والحرّية (٢١ مرّة) والمحبّة (١٦ مرّة) والاقتصاد (١٨ مرّة) والعدالة (١١ مرّة) والمساواة (٧ مرّات، مرّة منها وردت على شكل "تساوي") وحقوق الإنسان (٧ مرّات) والتضامن-تشارك-تكافل (٥ مرّات فقط). وهذا يدلّ على الزاوية أو المنظور الأساس الذي كان ينظر منه واضعو الوثيقة للواقع، منظور الحرّية والثقافة أساسًا، مع غياب تامّ عن التشبيك مع واقع مئات ملايين من العرب بين الخليج والمحيط، واقع الفقر وسياسات انتاجه. وكيف يمكن للمحبّة الانجيليّة أن تترجم دون تحليل للفقر وأسبابه واللدعوة إلى رفع تلك الأسباب؟ إنّ التضارب كبير بين علوّ صوت الوثيقة عن سكوت الكنائس عن الديكتاتوريّات وقمع الحرّيات، وصمتها عن تحالف الكنيسة الرسميّة مع الاستغلاليّين من حكّام ومصرفيّين وتجّار لاستغلال مواطنيهم، وحماية الكنائس للمستغِلّين، والاكتفاء بمساعدة الفقراء ماليّا (إن ساعدت) وصمتها المطبق عن الأنظمة القائمة المسبّبة للفقر، والمسؤولين عن تلك الأنظمة.
موقف ملتبس من العروبةتتكلّم الوثيقة باهتمام وإيجابيّة عن مرحلة النهضة العربيّة (أواخر القرن الثامن عشر حتّى أوائل القرن العشرين) كمشروع تثقيفي وسياسيّ يتفكّر في علاقة الدين بالعقل، ويدعم فكرة قيام الدول على أساس المواطنة لأنّ "الدولة لا تُبنى على الخاصّ، كالدين والعرق ولون البشرة، بل على العام" (فقرة 12).
لكن، يبدو أنّ العروبة قائمة بحسب الوثيقة على الانتماء على ثقافة مشتركة قوامها اللغة (فقرة ١٣) فحسب، أيّ أنّها تُغفِل المصير المشترك كعامل في الهويّة، بينما هو، برأيي، من أهمّ روابط الهويّة.
إنّ الغموض الذي يثير الخشية في وثيقة كهذه هو في العبارات ومعانيها، مثلا في العبارة التالية "إعادة إنتاج العروبة بوصفها فضاءً ثقافيًّا ومفهومًا حضاريًّا جامعًا، وذلك بعيدًا من محاولات التعريب القسريّ الإيديولوجيّة والمنافية لروحيّة الانفتاح الحضاريّ" (فقرة ٦٢). إذ لا توضح الوثيقة ما هو التعريب القسريّ وأين وكيف مورِسَ، كما لا توضح مفهومها للـ"انفتاح الحضاريّ". ولا يسعنا في هذه المرحلة من تاريخنا إلّا أن نتساءل إن لم يتنطّح قارئ لهذه الوثيقة ليقول أنّ قبول الكيان الصهيونيّ ضمن هذا الانفتاح الحضاري؟ وليعذرنا الأصدقاء في اللجنة التي أعدّت الوثيقة والذين نعرف مواقفهم من دولة الاحتلال، فاللبس والغموض في التعابير في وثيقة كهذه قد يجعلها وسيلة في يد تيّارات سياسيّة استولت في لبنان استيلاءً على صفة "تمثيل المسيحيّين" وتهرول هرولة للتطبيع مع كيان الاحتلال، بعضها لا يجد معه "خلافات عقائديّة".
وإنّ ما ورد بعد ذلك هو أكثر التباسا، إذ تقول الوثيقة "أنّ مسيحيّي الشرق الأوسط ليسوا بِطارئين على بيئتهم العربيّة، ولا هم غريبون عنها، بل هم ساهموا في بناء الحضارة العربيّة". فما معنى أن يكون المسيحيّين موجودين في "بيئة عربيّة"؟ وكأنّ الوثيقة تتجنّب أن تقول أنّهم اليوم مسيحيّون عرب، أي تتجنّب أن تصفهم بأنّهم عرب. بالطبع نحن نتكلّم عن انتماء لهويّة ولا نتكلّم عن أصول من القبائل العربيّة، فلا أحد يمكنه أن يعرف أصول عائلته، أو من أيّة ناحية من هذه الأرض أتت، وهذا غير مهمّ في بناء الدول والقوميّات، وبالطبع مئات ملايين العرب اليوم لم يأتوا من شبه الجزيرة. ولهذا نتساءل عمّا إذا كان الكامن خلف صوغ العبارة هذه هو موقف إيديولوجيّ مسبق لواضعي الوثيقة يرفض القول بأنّ مسيحيّي هذه المنطقة هم مسيحيّون عرب.
ثمّ ما هي "محاولات التعريب القسريّ" اليوم؟ مَن يحاول أن يعرّب المسيحيين وغيرهم اليوم؟ إنّ ذكر هذه العبارة دون توضيح، يوحي بأنّ هناك مَن تمّ تعريبه قسرا اليوم، وهذا غير مفهوم، على الأقلّ لنا. كلّ الدول لديها لغة رسميّة، أو أكثر بحسب ضخامتها وتاريخها. من عناصر القوّة في منطقتنا الجغرافيّة أن يكون لدينا لغة مشتركة ولو أنّ هناك لغات أخرى محكيّة ومكتوبة. هل فرض اللغة العربيّة كلغة رسميّة في المدارس هو تعريب قسريّ؟ هل فرض كتابة أسماء المحلّات بالعربيّة هو تعريب قسريّ؟ إنّ مقاطعةً ككيبيك في كندا تفرض هكذا شروط حماية للغتها الفرنسيّة. ما المقصود من هذه التعابير المتلاحقة، إذًا؟
لا بدّ من توضيح من واضعي الوثيقة. فمن المقلق أنّ هذه التعابير تذكّر بالمواقف السياسيّة لمسيحيّين لبنانيّين يرفضون كون لبنان نفسه بلدًا عربيًّا، ونادوا لفترة طويلة بأنّ لبنان "ذو وجه عربيّ". أيّ أنّ هذه التعابير في غموضها تصبح إشكاليّة بالضبط لأنّها قد تعيد القارئ إلى مواقف سياسيّة محدّدة كانت تسعى إلى تغريب لبنان، مثلًا، عن واقعه، والإشكاليّة أكبر في هذه الوثيقة أنّها تتكلّم عن كلّ المسيحيّين في "الشرق الأوسط". وبالرغم من انتقاد الوثيقة ما تعتبره تطرّفَ رفضِ العروبة من قبل المسيحيّين في بعض مفاصل تاريخيّة، فإنّ التعابير التي ذكرناها واستعملتها الوثيقة تبقى غامضةً، ويُخشى أن تصبّ في النهاية في الخطّ نفسه، بأن يتمّ استعمالها "للتبشير" بنفس التغريب القديم.
ولنعد لمفهوم الهويّة العربيّة التي تطرحه الوثيقة. ما هي تلك الهويّة التي ليست هي بأكثر من "فضاء ثقافيّ ومفهوم حضاري جامع"؟ نجد هذه عبارة فضفاضة. هويّة الإنسان الفرنسيّ هي مجرّد فضاء ثقافي جامع، أم هي تاريخ مشترك (متخيّل في بعض نواحيه)، وحاضرٌ اقتصاديٌّ وسياسيٌّ مشترك، في دولة تربّي على مجموعة من المبادئ المشتركة، يتهدّدهم أعداء مشتركون، ولديهم لغة مشتركة (ولنتذكّر أنّ الدول الديموقراطيّة تسمح بلغات محلّية، ولكنّها تقمع أيّة نزعات انفصاليّة).
إنّ موضوع الهويّة يتجاوز كونه موضوع ثقافيّ وفضاء يلتقي فيه الناس دون جذور، ودون تجذّر في الواقع الاقتصاديّ السياسيّ الحاليّ، أي دون مصير مشترك. إنّ مجموعة لغات وتواريخ (عربيّة أرمنية سريانية يونانيّة تذكرها الوثيقة) موضوعة معًا، لا تصنع وحدها هويّة. الالتباس واسع جدّا في هذه العبارات خاصّة أنّها لا تورد المقصود من "محاولات التعريب القسريّ الإيديولوجيّة" والتي تضعها الوثيقة في تعارض مع "روحيّة الانفتاح الحضاريّ ". ثمّ، نتساءل لم الاستمعال السلبيّ لكلمة إيديولوجيّة وهل من بلد خال من الإيديولوجيّات؟ الإيديولوجيّة هي نظام فكري متناسق على أساسه تبني الدول نظامها السياسي والاقتصاديّ، وبالتالي لا تستقيم علامة سلبيّة أمام كلمة "إيديولوجيّة" فما من دولة قائمة دون إيديولوجيّة. وبهذا المعنى، الديموقراطيّة نفسها هي إيديولوجيّة، ونظرة الوثيقة نفسها إيديولوجيّة، ونظرة الكاتب هنا هي إيديولوجيّة.
ينتهي القارئ من قراءة النصّ وهو يخشى أن يكون النصّ هو في خطّ إيديولوجيّة أحزاب "مسيحيّة" تريد أن تلتحق بكلّ مشروع معاد لمصلحة الناس في البلاد العربيّة، وعبارة " البلاد العربيّة" لا ترد مطلقًا في النصّ، وهو ما يُشعر القارئ بأنّه تمّ تجنّب استعمالها قصدًا، أي انطلاقا من موقف إيديولوجيّ، واستعيض عنها بعبارة "الشرق الأوسط" و"المنطقة"، أي أنّه تمّ تجنّبها بناءً على إيديولوجيّة (بعكس ما تذكر الوثيقة في حاشية فقرة 1). في جميع الأحوال، هذا الالتباس أو الغموض ينبغي رفعه حتّى لا يترك الباب مفتوحا للّذين يريدون مكانًا لكيان الاحتلال ضمن بوتقة "الشرق الأوسط" و"المنطقة".
وبناء على الالتباسات هذه، تصبح الدعوة الأخيرة التي تطلقها الوثيقة للكنائس بـ"الالتزام بقضايا هذه المنطقة وأبنائها على اختلاف إثنيّاتهم وأديانهم واتّجاهاتهم الفكريّة" و"المساهمة في إنتاج عروبة متنوّرة بالحرّية" غير مفهومة في ظلّ الأسئلة التي سألناها، والغموض المحيط بتعريف الوثيقة للعروبة كمجرّد فضاء ثقافيّ.
مسألة الهويّةبالطبع، تبدو مسألة الهويّة – وهي مرتبطة بمسألة العروبة - الأكثر غموضا في الوثيقة. تذكر الوثيقة أنّ "منطقة الشرق الأوسط تتّصف بالتنوّع" في "الدين واللغة والإثنيّة والاجتماع والثقافة والسياسة" وهذا أفضى إلى إيجابيّات وصعوبات، وصراع وتنافس، وهيمنة و"غلوّ في الدفاع عن الخصوصيّات"، "ما دعا إلى تكريس التنوّع بوصفه نموذجًا حضاريًّا يتلاءم مع هويّة الشرق الأوسط وينسجم مع طبيعته" (فقرة ٧).
ولكن لا نفهم كيف أنّ هويّة كاملة ("هويّة الشرق الأوسط") يمكن اختصارها بكلمة "التنوّع" بل أنّ الوثيقة تذهب إلى أنّ "يظهر جليّا أنّ الخصوصيّات النموذجيّة لمجتمعات الشرق الأوسط تكمن في التنوّع". ولا نفهم كيف هي نموذجيّة بينما نعلم أنّ مجتمعًا ككندا، مثلًا، هو أكثر تنوّعا بما لا يُقاس من كلّ البلاد العربيّة مجتمعة.
وما معنى خصوصيّات "نموذجيّة"، هي نموذجيّة لمن؟ للكرة الأرضيّة؟ إنّ بلدًا كالهند هو لربّما أكثر نموذجيّة في التنوّع الدينيّ واللغويّ، والإثنيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والسياسيّ؟ إنّ التنوّع لا يمكنه أن يشكّل الهويّة لـ«الشرق الأوسط»، ولا لأيّ منطقة أو بلد.
ثمّ مَا هي «الطبيعة» لهذا "الشرق الأوسط" التي تتحدّث عنها الوثيقة؟ هل للبلاد العربيّة هويّة جوهرانيّة، أو "طبيعة"؟ نخشى أنّ هذا الاصرار على كون التنوّع هو الهويّة، يخفي رغبة بتغييب "العروبة" كهويّة جامعة وتحويرها إلى مجرّد "فضاء ثقافيّ ومفهوم حضاريّ جامع" لا طعم له ولا لون، ولا موقف، ولا سياسة، ولا عدوّ ولا صديق، وإنّما مجرّد كلمات توحي بالـ"تقدّمية" عن "الانفتاح الحضاريّ" الذي لا نفهم ما الذي يتضمّن فعلا. فهل التطبيع الحاليّ لدول عربيّة مع كيان الاحتلال يمثّل انفتاحًا حضاريًّا؟ إنّ بعض المطبّعون يروَّجون للتطبيع على أنّه في خطّ "الانفتاح الحضاري".
ما هو موقف الوثيقة من التطبيع وهو أهمّ بند مطروح منذ سنوات؟ ولا كلمة عن التطبيع! أنا أعلم علم اليقين أنّ بعض واضعيها من المناهضين للتطبيع في حياتهم اليوميّة وفي كتاباتهم ومواقفهم، فهل كان غياب الكلام عن التطبيع نتيجة مواقف متباينة بين واضعي الوثيقة؟ أم أنّ واضعي الوثيقة لم يقدّروا أنّ الموقف من إسرائيل هو أساس (ليس وحده) للحرّية وللديموقراطيّة وللخروج من الفقر، وهو الواقع، برأيي.
أضف إلى ذلك تعابير مثل "مجتمعات الشرق الأوسط" (فقرة ٤٧ و٥٥)، أو كلامًا حول التحدّيات التي تواجه وجدان "شعوبنا وكنائسنا" (فقرة ٥٣)، دون ذكر هويّتها: هي مجرّد مجتمعات لا تجمعها هويّة؟ أهي "شعوب" دون صفة؟ أو هي شعوب أم شعب؟ أهو شعب عربيّ أم لا؟
وماذا عن تعبير "انتماء المجتمع [في الشرق الأوسط] إلى الثقافة العربيّة، وحضور انتماءات أُخرى تتلاقح وهذه الثقافة". المجتمع ليس مجتمعا عربيّا بحسب الوثيقة، بل مجتمع ينتمي إلى «ثقافة» عربيّة، ويُضاف إلى هذا الانتماء، انتماءات أُخرى "تتلاقح" وهذه الثقافة، وهذه هي النقطة الفصل: المقصود أنّ هناك ثقافات متعدّدة في خلطة هلاميّة لا انتماءَ جذريَّ فيها لهذا الشعب الذي يتعرّض من المحيط إلى الخليج لأشنع أنواع الحروب الاستعماريّة وهتك السيادة وسلب تقرير المصير، ليس لأنّه يهدّد أحدا وإنّما لأنّه يمتلك ثروات يريد رأس المال الأجنبيّ أن يسطو عليها بأبخس الأثمان. كلّ تلك الهجمة بينما الوثيقة تبشّر بانتماءات متعدّدة لثقافات متنوّعة، ضمن ثقافة عربيّة أوسع، ولكن دون هويّة جامعة واضحة. صحيح أنّ النظام الديموقراطيّ الذي تنادي به الوثيقة هو نظام يدير التنوّع (كما تشير الفقرة 61) ولكن ذلك لا يشكّل وحده هويّةً لشعب. كلمة هويّة ترد 7 مرّات في الوثيقة، منها مرّة تتكلّم عن "هويّة الشرق الأوسط"، ولكن لا يوجد تعريف واضح لماهيّة تلك الهويّة، ولكن نلاحظ بشكل واضح لا لبس فيه أنّهم يتجنّبون القول بانّها عربيّة.
الصمت عن مسؤوليّة الاستعمارفي الفقرة ١٤، تُعيد الوثيقة فشل "المشروع السياسيّ المنبثق من النهضة" العربيّة إلى عوامل ذاتيّة محضة: "شعور كثر من المسلمين" بأنّ "مرتكزات المشروع" غربيّة المنشأ، و"فشل معظم الدول في منطقتنا في إرساء نموذج ديموقراطيّ حقيقيّ"، وفرض عدد من الحكّام العرب "ديكتاتوريات مقنّعة أو مُعلَنّة" بحجّة تحرير فلسطين. أيّ أنّ الوثيقة تغسل ايدي حكومات الغرب – هذه الحكومات الغربيّة الواقعيّة التي عملت وتعمل على إنشاء الديكتاتوريّات ودعمها حول العالم – من أيّ نشوء للديكتاتوريّات في البلاد العربيّة! ونحن نعلم علم اليقين أنّ الغرب يدعم الديكتاتوريّات في المنطقة طالما هي تخضع له ويعتبرها "مارقة" إن لم تخضع. كما أنّ الضحايا لا يستحقّون الأسف والإدانة من الغرب إذا قتلهم الحلفاء. وهذا هو وضع الفلسطينيّين واللبنانيّين السوريّين عندما يقعون ضحايا تحت رصاص أو قذائف الاحتلال؛ وقتل الصحفيّة شيرين أبو عاقلة وهي تؤدّي واجبها المهنيّ مثال حديث لا يزال في الذاكرة. لكنّ الوثيقة تصمت عن مسؤوليّة الغرب.
لكنّ الوثيقة تنزلق في المقطع ٨ إلى القول بأنّ "الاستعمار... أخفق في خلق الأطر التي تتيح لمجتمعات هذه المنطقة إدارة تنوّعها الدينيّ والإثنيّ بالاستناد إلى مفهوم الدولة المدنيّة التي يسودها القانون". العبارة تبدو سليمة، لكنّ الكارثة هي في كلمة "أخفق"؛ فالتعبير يعني بأنّ وضع اطر تتيح للمجتمعات إدارة تنوّعها كانت ضمن مهامه ومقاصده ولكنّه فشل في تحقيق ذلك، وكأنّ الاستعمار لم يتقصّد أن يخلق أطرًا لا تساعد المجتمعات "في المنطقة" (نلاحظ دائما تجنّب استمعال عبارة "منطقة عربيّة"، فهي منطقة لا هويّة لها سوى التنوّع). إنّ تعبير"أخفق" يستبطن مقولات دول الغرب الاستعماريّة كانت، وما زالت، تدافع عن استعمارها بالقول بأنّها صاحبة مهمّة شريفة، بينما الحقيقة مخالفة تمامًا لذلك. إنّ العبارة تخفّف من مسؤوليّة الغرب الاستعماريّ عن دعم نشوء أنظمة تدير التنوّع، تعيق وعينا بأنّ الاستعمار تقصّد ونجح في مهمّته، مهمّة خلق أطر تفتيتيّة تساهم في وضع يده على ثروات شعبنا، أطر تُضعف الوعي والوحدة وتفتّت الكيان، أطر معاكسة تماما للأطر التي يعرفها هو تماما في أوروبا (الأنظمة الديموقراطيّة). إنّ الوثيقة نفسها تذكر أنّ كيان الاحتلال ("إسرائيل") هو صنيع الاستعمارـ وهذا الكيان دمّر ويدمّر، واحتلّ ويحتلّ، وفخّخ ويفخّخ، أيّ محاولات تقدّم في أيّ من بلدان المنطقة وخاصّة لبنان، وسوريا، ومصر، والعراق، والأردن. فكيف يكون ذلك إخفاقًا؟ الغرب الاستعماريّ قصد و"نجح" في مشروعه الاستعماريّ المقصود والمستمرّ، والذي سعى من خلاله للهيمنة والتفتيت. لا شكّ أن واضعي الوثيقة يذكرون أنّ الاستعمار الفرنسيّ خطّط لتقسيم سوريا إلى عدّة دول طائفيّة، وأنّه هو مَن صنع لبنان ونظّم له (بالتعاون الوثيق مع البطريركيّة المارونيّة وقتها) نظاما طائفيّا مُفَتِّتا للمجتمع، ومولِّدا للحروب والقلاقل التي لا نزال نعيشها حتّى اليوم. هذا ليس إخفاقا إنّه قرارٌ وتخطيطٌ لاستمرار الاستعمار بالسيادة على سيادات الدول الناشئة، وعرقلة أيّة عمليّة تنمية ممكنة.
ولذلك فما ورد في فقرة ٨ بأنّ الاستعمار "أمعن في اللجوء إلى معادلة «فرّق تسد» الخبيثة"، غريبٌ كلّ الغرابة! فهل يمكن انتظار شيء آخر من الاستعمار؟ وهل كان الاستعمار جيّدا لو أنّه فرَّق، ولكن لم "يُمعِن" في التفريق؟
تتابع الوثيقة عن حقّ أنّ الاستعمار "فرض قيام دولة إسرائيل... عبر مسار دمويّ وتهجيريّ مقيت". ولكن من الغريب استعمال صفة "مقيت" في هذا الموضع. هذه مهادنة في إدانة الإجرام الصهيونيّ: هذا مسار إجراميّ وحشيّ، وتطهير عرقيّ، ونظام فصل عنصريّ، عدا عن كونه احتلالًا ،وطردًا للسكّان الأصليّين، وتدميرًا ممنهجًا لهم، ودوسًا مستمرًّا على كرامتهم، وسجنًا لهم، واضطهادًا. مقابل كلّ هذا تستخدم الوثيقة كلمة "مقيت" الباهتة في وصف هذا الواقع الشرس.
وتتابع الفقرة ٨ لتقول أنّ منطقة "الشرق الأوسط" شهدت "بالإضافة إلى أشكال الاستعمار «الجديد» وحروب بالوكالة، إعادةَ إنتاج للعصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة تجلّت خصوصًا عبر تبلور مقوّمات صراع سنّي-شيعيّ يضطلع فيه كلّ من تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) ومنظومة «ولاية الفقيه» بأدوار مدمّرة". لن أطيل التعليق هنا، مع أنّ الجملة هذه وحدها تحتاج لمقالة، ولكن سياق الجملة يدلّ أنّ واضعي الوثيقة لا يرون في "إعادة إنتاج العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة" أيدي أميركيّة وأوروبيّة وإسرائيليّة. وكأنّ هذه العصبيّات ولدت فجأة من ظروف ذاتيّة محض، ولا علاقة لولادتها بمحاولات الاستعمار وقلعته الاسرائيليّة المزروعة في الوسط العربيّ، السيطرة على مقدّرات البلاد العربيّة وتفريقها، وضرب أيّة دولة تحاول أن تستقلّ بمقدّراتها عن الاستعمار «الجديد» المستمرّ بفضل استمرار سياسة «فرّق تسد» المقصودة.
إنّ الفقرة ٨ تدلّ بأنّ واضعي الوثيقة أغفلوا جوانب من الواقع، ممّا يجعل الوثيقة تساهم في الجوانب التي ذكرناها في عمليّة طمرَ الوعي للواقع الاستعماريّ المستمرّ، وتمرير جدول أعمال سياسيّ «مرن» تجاه الغرب الاستعماريّ وتجاه إسرائيل (المسار الدموي يُسمّى "مقيتا").
إنّ الاستعمار مستمرّ ليس فقط بحسب قراءتنا للأحداث، وإنّما أيضًا بحسب الوثيقة نفسها التي تتكلّم عن "أشكال من الاستعمار الجديد" في الفقرة ٨ نفسها. وكيف يكون الاستعمار استعمارًا إن لم يكن هدفه الهيمنة وإضعاف الوعي والحسّ الوطنيّين أو القوميّين، وتفتيت الهويّة بتحويلها إلى "أنماط من التلاقي التجاوريّ" وهي عبارة وردت بشكل جدّ مؤسف في الوثيقة (فقرة ٧)، فالـ"تجاور" هو غير المواطنة، وغير اتّحاد المواطنين في بوتقة وطنيّة أو قوميّة، هو شيء من التكاذب الموجود في لبنان في عبارة «التعايش».
الموقف نفسه الذي يغسل أيدي الغرب الاستعماريّ ويقارب جلد الذات، نراه في الفقرة ٤٤ حيث تذكر الوثيقة "ما يشهده الشرق الأوسط بعامّة من غياب للديموقراطيّة في الممارسة السياسيّة واستهتار بشرعة حقوق الإنسان وما يرافق هذا من عدم استقرار سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ"، وكذلك في الفقرة ١٤ حيث تشير الوثيقة إلى "فشل مجتمعات الشرق الأوسط في تلقّف مشروع الحداثة الذي عبّرت عنه النهضة" العربيّة؛ وكأنّ غياب الديموقراطيّة وذاك الفشل هو نتيجة محض ذاتيّة. والأمر نفسه يتكرّر في ذكر الوثيقة لجوء العرب إلى "التعامل مع الإشكاليّات المنبثقة من حقبة ما بعد الحداثة بعقليّة ما قبل الحداثة، أو اللجوء المفرط إلى عناصر سابقة للحداثة كالعقليّة الغيبيّة"، دون أن يحاول واضعو الوثيقة ربط هذه الظاهرة بواقع أنظمة الدول (ديكتاتوريّات يحمي جلّها الاستعمار الغربيّ) وبهجوم الاستعمار ومحاولاته سحق أيّ استقلال ونموّ وسيادة وتقرير مصير وهويّة عربيّة. إنّ المجتمعات لا يمكنها أن تصيغ مشروع حداثة وتطبّقه دون دولة، ودولنا لم تكن بالفعل سيّدة ومستقلّة بل تحت هجوم استعماريّ متواصل مُعلَن وخفيّ. الموضوع يحتاج لنقاش وتحليل على الأقلّ، ولا يمكن الاكتفاء بالتذكير بظاهرة دون ربطها بأسبابها، في وثيقةٍ تريد استشراف المستقبل. أخيرًا، فإنّ الصمت عن أثر الاستعمار يبدو جليّا بذكر عبارة "الاستعمار" ثلاث مرّات فقط، وفي مقطع واحد فقط هو مقطع ٨، وبعبارات جدّ "ناعمة" وأكثر من إشكاليّة.
مسألة العنفوإن تذكر الوثيقة في فقرة ٤٥ "صعود الحركات الأصوليّة الإسلاميّة ذات الطابع العنفيّ" (دون أن تحلّل أسباب ذلك الصعود) ولكنّها تنفي أن يكون ذلك سببَ هجرة المسيحيّين. وتذكّر في فقرة ١٦ بأنّ "التطرّف الدينيّ الذي يتّخذ أحيانًا شكلًا عُنفيًّا يصل إلى حدّ محاولة طمس الهويّات المُغايرة" وبشكل إيجابيّ تنفي صفة العنف عن الإسلام السياسي، وعن الإسلام، وحتّى عن الدين وتقول انّ العنف "هو ظاهرة أنثروبولوجيّة ومجتمعيّة بالدرجة الأولى غالبًا ما ترتبط بخطاب عن الهويّات مغلقٍ وإقصائيٍّ وفوقيّ". والوثيقة واضحة في نبذها لـ"تبنّي منطق العنف وسيلة لحلّ النزاعات" وهو ما تؤكّده في الفقرة الأخيرة (فقرة ١٠٠) حيث تقول أنّها ترى في السياسات والخيارات التي اقترحتها "تعبيرًا رصينًا عن التزام مسيحيّي الشرق الأوسط المعيّةَ الإنسانيّة وخيارَ الحياة الكريمة لكلّ إنسان في منطقتنا، ورفضًا لثقافة الموت المستشرية وتبنّي منطق العنف وسيلةً لحلّ النزاعات".
تعليقنا هنا هو في شقّين: الأوّل أنّ الوثيقة لا تربط ظاهرة العنف بواقع الاستعمار والأنظمة الديكتاتوريّة (تلك التي نصّبها الاستعمار وتلك التي لم ينصّبها) فالقول أنّ العنف ظاهرة أنثروبولوجيّة (إنسانيّة) لا ينفع شيئا ولا يقدّم فهمًا، فالسؤال هو ما الذي يدفع الناس إلى توسّل العنف؟ وإن كان العنف ظاهرة "ترتبط بخطاب عن الهويّات مغلقٍ وإقصائيٍّ وفوقيّ" فالسؤال هو ما الذي يدفع سكّان البلاد العربيّة إلى خطاب كهذا؟ وإلى أيّ مدى تلعب يد الاستعمار، والحكّام الذين نصّب جلّهم الاستعمار، دورًا في نشوء هكذا خطاب؟
أمّا الشقّ الثاني لتعليقنا فهو حول نبذ الوثيقة للعنف كوسيلة لحلّ النزاعات، وفي هذ الرفض التباس. فإن كان المقصود هو رفض اللجوء إلى العنف لحلّ النزاعات الداخليّة في بلد ما، فهذا بالطبع مغبوط، لأنّ هناك وسائل أخرى متوفّرة للبشر لحلّ النزاعات الداخليّة (الديموقراطيّة مثلًا). أمّا أن يكون الرفض عامّا ومنسحبًا على النزاعات كلّها، فهنا نختلف مع واضعي الوثيقة، ولندلّل على خلافنا نورد مثلين من لبنان وفلسطين لم تنسحب إسرائيل من لبنان بسبب قرارات الأمم المتّحدة السلميّة (قرار ٤٢٥)، وإنّما تحت ضربات المقاومة. أمّا منظّمة التحرير فسارت في طريق "المفاوضات" السلميّة للوصول إلى حلّ عادل للظلم القائم في فلسطين والشتات، ولكن ما فاتها أنّه لا يمكن لأيّة "مفاوضات" مزعومة أن تودي إلى نتيجة دون أدوات ضغط، فإذا بما يسمّى "مفاوضات" غطاء لاستمرار جرائم الاحتلال وسياسة قضم الأراضي. وكمثل آخر نذكّر كم حاول الفلسطينيّون في غزّة سلميًّا ولأسابيع الاقتراب من حدود أكبر سجن في العالم (غزّة)، بينما أطلق جنود الاحتلال الرصاص عليهم دون رادع، فاردوا البعض قتلى، وكان إطلاق النار قنصًا بقصد التسبّب بإعاقات جسديّة لعشرات الفلسطينيّين كما تورد التقارير الجادّة، هذا فيما تابع "المجتمع الدولي" حياته كأنّ شيئا لم يحدث. الطرق السلميّة قد لا تجدي نفعًا في حلّ النزاعات في حالة الاحتلال.
إنّ الطريق إلى العدالة لا يتحقّق إلّا بالقوّة: القوّة اللاعنفيّة (اقناع، انتخابات نزيهة) في النزاعات الداخليّة، أمّا في النزاعات الخارجيّة فاللجوء هو عادة للقوّة العنفيّة دفاعا عن الحرّية والكرامة، كما يمكن اللجوء إلى القوّة اللاعنفيّة حين تكون نافعة ومؤدّية إلى نتيجة، وما طلب المنظّمات المدنيّة الفلسطينيّة بمقاطعة تامّة لكيان الاحتلال إلّا قوّة تضغط باتّجاه إجبار الاحتلال على الرضوخ لمتطلّبات العدالة. إنّ رفض العنف بشكل مطلق، وفي كلّ الحالات، مساوٍ للخضوع للقاتل والقبول بالاستعباد وبالاستغلال معًا. بل أنّه في حالات معيّنة وعند استفحال الديكتاتوريّة، أو الاستغلال، أو الاستعمار، في بلد ما، دون أن تحقّق الوسائل اللاعنفيّة نتيجة تذكر، بسبب شدّة القمع أو شدّة التحكّم بمفاصل السلطة، فقد يجد الإنسان – ومن منطلق مسيحيّ- مبرّرا لخوض نضال عنفيّ لتحقيق العدالة. وما الثورات التاريخيّة حول العالم (فرنسا، روسيّا، تونس، إلخ) إلّا دليلًا على أنّ تلك خيارات ممكنة، بل وأحيانًا ضروريّة.
اللغة الباهتة المستعملة في توصيف جرائم الاحتلالتنتقد الوثيقة كيان الاحتلال صراحة ودون مواربة، ولكنّها في إحدى العبارات تخطئ التعبير، برأينا، فعدا عبارة "المقيت" المذكورة فوق، تذكر الوثيقة "الاحتلال الاسرائيليّ لفلسطين"(فقرة ٣٩)؛ وهذه العبارة خاطئة لأنّ مَن احتلّ فلسطين هم العصابات الصهيونيّة ولم تنشأ اسرائيل كدولة تعترف بها الأمم المتّحدة إلّا بعدها. ولكنّ العبارة خطيرة لأنّها قد تُفَسَّر من قبل البعض على أنّ المقصود بفلسطين الضفّة الغربيّة وغزّة فقط، المحتلّتين عام ١٩٦٧، وبذلك يكون واضعو الوثيقة - بسوء تعبير على ما أجزم – أوحوا بأنّهم لا يعتقدون بحقّ الفلسطينيّين في كامل فلسطين، ولذلك ندعو واضعي الوثيقة بإلحاح مراجعة هذه العبارة، مهما كان موقفهم من أيّ نقد آخر قدّمناه في هذه المقالة، فالوثيقة تذكر نكبة ١٩٤٨بشكل صريح، ولأهمّيتها لا نودّ أن تُستخدم لأهداف سياسيّة لا تخدم العدالة والحقيقة.
ورغم إدانتها لكيان الاحتلال الصهيونيّ، تعفّ الوثيقة عن ذكر عبارة "التمييز العنصريّ" وهذا غير مفهوم. المواطنون في البلاد العربيّة لا إشكاليّة لديهم مع العبارة، الإشكاليّة هي في الغرب الاستعماريّ. ولم تجنّب العبارة؟ حتّى في الغرب لم يعد من حاجة لتبرير استخدام العبارة بعدما باتت مستعملة من قبل منظّمات دوليّة تُعنى بحقوق الإنسان ولها اعتبارها في أوروبا وشمال أميركا. فلم التعفّف عن الكلام مباشرة عن دولة التمييز العنصريّ، دون إغفال كونها دولة احتلال استعماريّ؟ في هذا النصّ، كما في كلّ نصّ، إنّ المسكوت عنه (أو الغامض) هو بأهمّية المُعلَن، إن لم يكن أكثر أهمّية منه. إنّ الذين يطرحون هذه الوثيقة هم لاهوتيّون ومثقّفون، وننتظر منهم الجذريّة في المواقف، ولذا فالحيطة في استخدام التعابير غير مبرّر. صحيح أنّ الوثيقة تحلّل كيفيّة نشوء دولة الاحتلال على يد الاستعمار، ولكنّها لا تستخدم أيّة عبارة تشرح فيها فظاعة ما تفعله دولة الاحتلال. وهذا غريب أشدّ الغرابة في وثيقة تطرح تحليلاً لواقع المنطقة وتاريخها، وتدعو إلى تشكيل آفاق فيها.
فإن كان عدم استخدام أشدّ العبارات لإدانة إسرائيل مقصودا، فإنّنا نتساءل لماذا؟ هل لأنّ مؤسّسات ودول في الغرب سيقرأونها؟ أم لأنّها تريد أن تحفظ علاقات سياسيّة بين الكنائس في مجلس كنائس الشرق الأوسط أو مجلس الكنائس العالميّ؟ ولكن هذا يتضارب مع كون المجموعة اللاهوتيّة تعلن أنّها تريد طرق باب "التحدّيات الكبرى" كما تورد في السطر الأوّل من الوثيقة.
وإن كان عدم استخدام أشدّ العبارات في حقّ نظام التمييز العنصريّ الصهيونيّ سهوًا، فهذا يعني أنّ المجموعة لم ترَ الأهمّية البالغة للقضيّة الفلسطينيّة، ليس فقط للفلسطينيّين، وإنّما لمستقبل البلاد العربيّة كلّها. الكيان الصهيونيّ، وبغضّ النظر عن أيّ توصيف آخر صحيح، هو أيضًا قلعة حربيّة للغرب الاستعماريّ، يستخدمه الغرب لمتابعة استعماره ونهبه لموارد العرب، وتدمير بلادهم، ودعم وتنصيب الديكتاتوريين الموالين فيها (باستثناء سوريا). هل يجب التذكير بعدد الحروب التي شنّها الغرب على بلداننا في القرن الأخير للتدليل على متابعة الغرب سياساته الاستعماريّة؟ يمكن العودة إلى مقالتنا في تيلوس عدد صفر من أجل قراءة جردة بحروبه علينا، كما يمكن التفكّر بالتحالفات العسكريّة للكيان الصهيونيّ اليوم وأثرها على المنطقة بأسرها وخاصّة لبنان.
إنّ غياب الحدّة في موضوع فلسطين يعكس، بنظرنا، سوء تقدير كبير لواقعنا، سوء تقدير بأنّ الأساس الأكبر لمشاكلنا هو التدخّل المباشر للغرب وأداته الصهيونيّة للهيمنة على مقدّراتنا.
الالتباس القائم في الدعوة للحوار مع "أبناء الديانة اليهوديّة"تأتي الوثيقة بدعوة للحوار مع أبناء الديانة اليهوديّة، ومن المناسب إرفاق النصّ كاملًا هنا:
"تطوير مقاربة لاهوتيّة وفكريّة تسمح بفتح صفحة جديدة في العلاقات مع أبناء الديانة اليهوديّة الذين شكّلوا جزءًا لا يتجزّأ من فسيسفاء منطقة الشرق الأوسط وهويّتها التعدّديّة، وبإطلاق حوار جدّيٍّ معهم. هذا الحوار يجب أن يبنى على قيم العدالة والسلام وكرامة الخليقة والإنسان، وذلك في توجّه معاكس لحوار بعض تيّارات المسيحيّة الغربيّة المحابي للصهيونيّة إمّا بنتيجة عقدة المحرقة اليهوديّة، وإمّا بفعل تأنيب الضمير على قرون من المعاداة للساميّة، وإمّا إرضاءً للّوبي الصهيوني. إنّ حوارًا كهذا من شأنه أن يدفع في اتّجاه إحقاق العدالة للشعب الفلسطينيّ، ومحاسبة سياسة الاحتلال والاستيطان الإحلاليّ، والسعي إلى إقامة سلام حقيقيٍّ في المنطقة، ونبذ مفهوم الدولة الدينيّة التي تناقض قيام الدولة المدنيّة." (فقرة ٩٢)
ماذا تعني "فسيفساء منطقة الشرق الأوسط وهويّتها التعدّدية"؟ التعابير ليست مجانيّة، قد لا يكون التعبير موفّقا وقد يكون مقصودًا ونحن لا نستطيع إلّا أن نعلّق على المكتوب. العبارة تعكس وتؤكّد طريقة تفكير تجعل المنطقة كلّها بدون هويّة، بل مجرّد تجمّع لهويّات دينيّة وغير دينيّة.
صحيح أنّ الوثيقة تفعل حسنا بانتقاد التيّارات المسيحيّة المحابية للصهيونيّة، وتقف مع إحقاق العدالة ومحاسبة سياسة الاحتلال والاستيطان ونبذ مفهوم الدولة الدينيّ. ولكن يبقى من غير المفهوم ما هو هذا الحوار المطلوب مع "أبناء الديانة اليهوديّة"؟ هل هم المواطنون في البلاد العربيّة؟ مَن يمثّلهم؟ ومَنْ سيتحاور معهم؟ وفي أيّ إطار؟ وطنيّ أم "شرق أوسطيّ"؟ ثمّ من غير المفهوم كيف يمكن لحوار بين مجموعة متخصّصة من طوائف وأديان، أن يساعد في إحقاق حقوق الشعب الفلسطينيّ (كما يذكر النصّ أعلاه)، أو في أن يكون له أي أثر خارج المتحاورين؟ هناك لجان للحوار بين الأديان في دول متعددة، الحوار في لبنان مثلا بقي قيد لجنة مثقّفين ورجال دين، ولم يترك أثرا خارج تلك المجموعة الصغيرة من المتحاورين.
إنّ إزالة الالتباس حول هذه الدعوة ضروريّ وحسّاس جدّا، فليس من الحكيم – رغم إدانة إسرائيل في النصّ- أن تدعو الوثيقة إلى أيّ حوار غير واضح الشروط مع "أبناء الديانة اليهوديّة"، في زمن الهرولة العربيّة إلى التطبيع. عندما يدعم البطريرك بشارة الراعي هذه الوثيقة "كاملة"، فإنّ هذا الدعم، برأينا، يثير الخشية أكثر من الاطمئنان، ولذا يغدو إيضاح ما نراه غامضًا وملتبسا أكثر من ضروريًّا، فالبطريرك الراعي زار الكيان الصهيونيّ دون نقد له، وهو مَن روّج لضرورة حياد لبنان، هذا الحياد الذي إذا حصل سيعني إدارة الظهر للحقّ الفلسطينيّ وغسل الأيدي من ضرورة مواجهة الشرّ.
خلاصةإنّنا على تقديرنا لما جاء في الورقة والتوجّهات الممتازة أحيانًا (فقرة ٦٥ حتّى ٨٥) فإنّنا نرى في القصور عن تجليل الفقر وأسبابه، والموقف الغامض من العروبة، والغموض المحيط في مسألة الهويّة، والصمت عن مسؤوليّة الاستعمار، واللغة الباهتة في توصيف جرائم دولة الاحتلال والتمييز العنصريّ الصهيونيّة، والالتباس الممكن في الدعوة إلى الحوار، تبقى مقلقة وتحتاج لإيضاح. إنّنا نخشى أن تصبح الالتباسات القائمة والغموض الماثل في نواحٍ أساس في هذه الوثيقة، نقاطًا يستخدمها المطبّعون لدفع جدول أعمال التطبيع مع كيان الاحتلال، ونعتقد بضرورة أن يوضح واضعو الوثيقة هذه النقاط أو غيرها، وأن يتابع نقد الوثيقة أشخاص لا يرتبطون بالمؤسّسات الدينيّة، وخارج التخصّص اللاهوتيّ، فما تطرحه مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بحاضر ومستقبل كلّ عربيّة وعربيّ من المحيط إلى الخليج. وأخيرًا، يُشكر واضعو الوثيقة على إثارتهم حوارا ضروريّا حول تاريخنا وواقعنا، حوار نحن بأمسّ الحاجة إليه.
صدرت عن مجموع من اللاهوتيّين، وبعضهم أصدقاء نجلّ، وسبّاقون في المعرفة وفي الالتزام بقضايا شعبنا، وثيقة قيّمة بعنوان "نختار الحياة" وربّما هي أهمّ وثيقة كنسيّة صدرت منذ عشرات السنوات عن مجموعة لاهوتيّة. تطرح الوثيقة تحليلا للأوضاع في البلاد العربيّة واستشرافا للمستقبل. وبالرغم ممّا جاء فيها من عمق في التحليل وجرأة في النقد والطروحات ونَفَسَها التقدميّ، فإنّ عددًا من الملاحظات تلفت النظر وتقتضي الإيضاح، ولذلك ندفع بها هنا على سبيل إغناء الحوار وخاصة أنّ الالتباس الممكن في بعض نواحيها قد يوظّف في مشاريع سياسيّة جدّ سيّئة، برأينا. ونظرًا لضيق المساحة، فلن نقوم بتلخيص النقاط المفرحة والمضيئة التي أتت بها الوثيقة، وهو ما تغطّيه القراءات المتعدّدة في هذا العدد من تيلوس.
الفقر والاستغلالكلمة الفقر غائبة تماما عن النصّ. في المقابل كلمة "فقراء" مذكورة مرّتين، والمرّتين فقط في سياق جائحة كورونا وأثرها على الناس (فقرة 28 و 29). إنّ كلمة "الفقراء" كلمة عامة تعكس التفكير التقليديّ عن وجود فقراء، وتُغفل عن تحليل الفقر، وأسباب، وسياسات إنتاجه. وذا غياب فادح إذا ما تأمّلنا أنظمة الاستغلال والفقر العميم في بلاد عربيّة عديدة.
أمّا النظام التعليميّ ملجأ الفقراء لطلب العلم، فقد أدانت الوثيقة تقصيره ولكن لم تدعُ مرّة إلى دعمه، ولا يمكن ألا نتساءل إن لم تكن أسباب غياب الكلام عن ضرورة دعم التعليم الرسميّ كامنة في مصلحة الكنائس الماليّة، فالكنائس تمتلك مؤسّسات تربويّة خاصّة. ونتسائل إن لم يكن غياب التحليل حول الفقر ونقد أسبابه مرتبط بنفس خلفيّة تضارب المصالح، فغياب هذا النقد يعني أن نتجنّب نقد التحالف المعروف بين الكنيسة ورجال المال والسلطة، والأنظمة، التي تتحالف لتولّد الفقر.
والوثيقة تذكر في نقطة ٢٨ إهمال النوذج الاقتصاديّ للصحّة. هنا أيضا تغيب عن الوثيقة العلاقة بين الفقر والصحّة، وهي علاقة معروفة منذ ما قبل جائحة كورونا، فالأمراض ترتبط مباشرة بمستوى الدخل والأدلّة الاحصائيّة التي توثّق هذه العلاقة تتراكم منذ عشرات السنوات.
هناك بالفعل غياب تام لتحليل أسباب الفقر، الداخليّة منها (الأنظمة)، والخارجيّة (السياسات الاستعماريّة المستمرّة). هذا الغياب الفاقع يقابله كلمات تعجّ بها الوثيقة مثل: الثقافة (٤٥ مرّة) والحرّية (٢١ مرّة) والمحبّة (١٦ مرّة) والاقتصاد (١٨ مرّة) والعدالة (١١ مرّة) والمساواة (٧ مرّات، مرّة منها وردت على شكل "تساوي") وحقوق الإنسان (٧ مرّات) والتضامن-تشارك-تكافل (٥ مرّات فقط). وهذا يدلّ على الزاوية أو المنظور الأساس الذي كان ينظر منه واضعو الوثيقة للواقع، منظور الحرّية والثقافة أساسًا، مع غياب تامّ عن التشبيك مع واقع مئات ملايين من العرب بين الخليج والمحيط، واقع الفقر وسياسات انتاجه. وكيف يمكن للمحبّة الانجيليّة أن تترجم دون تحليل للفقر وأسبابه واللدعوة إلى رفع تلك الأسباب؟ إنّ التضارب كبير بين علوّ صوت الوثيقة عن سكوت الكنائس عن الديكتاتوريّات وقمع الحرّيات، وصمتها عن تحالف الكنيسة الرسميّة مع الاستغلاليّين من حكّام ومصرفيّين وتجّار لاستغلال مواطنيهم، وحماية الكنائس للمستغِلّين، والاكتفاء بمساعدة الفقراء ماليّا (إن ساعدت) وصمتها المطبق عن الأنظمة القائمة المسبّبة للفقر، والمسؤولين عن تلك الأنظمة.
موقف ملتبس من العروبةتتكلّم الوثيقة باهتمام وإيجابيّة عن مرحلة النهضة العربيّة (أواخر القرن الثامن عشر حتّى أوائل القرن العشرين) كمشروع تثقيفي وسياسيّ يتفكّر في علاقة الدين بالعقل، ويدعم فكرة قيام الدول على أساس المواطنة لأنّ "الدولة لا تُبنى على الخاصّ، كالدين والعرق ولون البشرة، بل على العام" (فقرة 12).
لكن، يبدو أنّ العروبة قائمة بحسب الوثيقة على الانتماء على ثقافة مشتركة قوامها اللغة (فقرة ١٣) فحسب، أيّ أنّها تُغفِل المصير المشترك كعامل في الهويّة، بينما هو، برأيي، من أهمّ روابط الهويّة.
إنّ الغموض الذي يثير الخشية في وثيقة كهذه هو في العبارات ومعانيها، مثلا في العبارة التالية "إعادة إنتاج العروبة بوصفها فضاءً ثقافيًّا ومفهومًا حضاريًّا جامعًا، وذلك بعيدًا من محاولات التعريب القسريّ الإيديولوجيّة والمنافية لروحيّة الانفتاح الحضاريّ" (فقرة ٦٢). إذ لا توضح الوثيقة ما هو التعريب القسريّ وأين وكيف مورِسَ، كما لا توضح مفهومها للـ"انفتاح الحضاريّ". ولا يسعنا في هذه المرحلة من تاريخنا إلّا أن نتساءل إن لم يتنطّح قارئ لهذه الوثيقة ليقول أنّ قبول الكيان الصهيونيّ ضمن هذا الانفتاح الحضاري؟ وليعذرنا الأصدقاء في اللجنة التي أعدّت الوثيقة والذين نعرف مواقفهم من دولة الاحتلال، فاللبس والغموض في التعابير في وثيقة كهذه قد يجعلها وسيلة في يد تيّارات سياسيّة استولت في لبنان استيلاءً على صفة "تمثيل المسيحيّين" وتهرول هرولة للتطبيع مع كيان الاحتلال، بعضها لا يجد معه "خلافات عقائديّة".
وإنّ ما ورد بعد ذلك هو أكثر التباسا، إذ تقول الوثيقة "أنّ مسيحيّي الشرق الأوسط ليسوا بِطارئين على بيئتهم العربيّة، ولا هم غريبون عنها، بل هم ساهموا في بناء الحضارة العربيّة". فما معنى أن يكون المسيحيّين موجودين في "بيئة عربيّة"؟ وكأنّ الوثيقة تتجنّب أن تقول أنّهم اليوم مسيحيّون عرب، أي تتجنّب أن تصفهم بأنّهم عرب. بالطبع نحن نتكلّم عن انتماء لهويّة ولا نتكلّم عن أصول من القبائل العربيّة، فلا أحد يمكنه أن يعرف أصول عائلته، أو من أيّة ناحية من هذه الأرض أتت، وهذا غير مهمّ في بناء الدول والقوميّات، وبالطبع مئات ملايين العرب اليوم لم يأتوا من شبه الجزيرة. ولهذا نتساءل عمّا إذا كان الكامن خلف صوغ العبارة هذه هو موقف إيديولوجيّ مسبق لواضعي الوثيقة يرفض القول بأنّ مسيحيّي هذه المنطقة هم مسيحيّون عرب.
ثمّ ما هي "محاولات التعريب القسريّ" اليوم؟ مَن يحاول أن يعرّب المسيحيين وغيرهم اليوم؟ إنّ ذكر هذه العبارة دون توضيح، يوحي بأنّ هناك مَن تمّ تعريبه قسرا اليوم، وهذا غير مفهوم، على الأقلّ لنا. كلّ الدول لديها لغة رسميّة، أو أكثر بحسب ضخامتها وتاريخها. من عناصر القوّة في منطقتنا الجغرافيّة أن يكون لدينا لغة مشتركة ولو أنّ هناك لغات أخرى محكيّة ومكتوبة. هل فرض اللغة العربيّة كلغة رسميّة في المدارس هو تعريب قسريّ؟ هل فرض كتابة أسماء المحلّات بالعربيّة هو تعريب قسريّ؟ إنّ مقاطعةً ككيبيك في كندا تفرض هكذا شروط حماية للغتها الفرنسيّة. ما المقصود من هذه التعابير المتلاحقة، إذًا؟
لا بدّ من توضيح من واضعي الوثيقة. فمن المقلق أنّ هذه التعابير تذكّر بالمواقف السياسيّة لمسيحيّين لبنانيّين يرفضون كون لبنان نفسه بلدًا عربيًّا، ونادوا لفترة طويلة بأنّ لبنان "ذو وجه عربيّ". أيّ أنّ هذه التعابير في غموضها تصبح إشكاليّة بالضبط لأنّها قد تعيد القارئ إلى مواقف سياسيّة محدّدة كانت تسعى إلى تغريب لبنان، مثلًا، عن واقعه، والإشكاليّة أكبر في هذه الوثيقة أنّها تتكلّم عن كلّ المسيحيّين في "الشرق الأوسط". وبالرغم من انتقاد الوثيقة ما تعتبره تطرّفَ رفضِ العروبة من قبل المسيحيّين في بعض مفاصل تاريخيّة، فإنّ التعابير التي ذكرناها واستعملتها الوثيقة تبقى غامضةً، ويُخشى أن تصبّ في النهاية في الخطّ نفسه، بأن يتمّ استعمالها "للتبشير" بنفس التغريب القديم.
ولنعد لمفهوم الهويّة العربيّة التي تطرحه الوثيقة. ما هي تلك الهويّة التي ليست هي بأكثر من "فضاء ثقافيّ ومفهوم حضاري جامع"؟ نجد هذه عبارة فضفاضة. هويّة الإنسان الفرنسيّ هي مجرّد فضاء ثقافي جامع، أم هي تاريخ مشترك (متخيّل في بعض نواحيه)، وحاضرٌ اقتصاديٌّ وسياسيٌّ مشترك، في دولة تربّي على مجموعة من المبادئ المشتركة، يتهدّدهم أعداء مشتركون، ولديهم لغة مشتركة (ولنتذكّر أنّ الدول الديموقراطيّة تسمح بلغات محلّية، ولكنّها تقمع أيّة نزعات انفصاليّة).
إنّ موضوع الهويّة يتجاوز كونه موضوع ثقافيّ وفضاء يلتقي فيه الناس دون جذور، ودون تجذّر في الواقع الاقتصاديّ السياسيّ الحاليّ، أي دون مصير مشترك. إنّ مجموعة لغات وتواريخ (عربيّة أرمنية سريانية يونانيّة تذكرها الوثيقة) موضوعة معًا، لا تصنع وحدها هويّة. الالتباس واسع جدّا في هذه العبارات خاصّة أنّها لا تورد المقصود من "محاولات التعريب القسريّ الإيديولوجيّة" والتي تضعها الوثيقة في تعارض مع "روحيّة الانفتاح الحضاريّ ". ثمّ، نتساءل لم الاستمعال السلبيّ لكلمة إيديولوجيّة وهل من بلد خال من الإيديولوجيّات؟ الإيديولوجيّة هي نظام فكري متناسق على أساسه تبني الدول نظامها السياسي والاقتصاديّ، وبالتالي لا تستقيم علامة سلبيّة أمام كلمة "إيديولوجيّة" فما من دولة قائمة دون إيديولوجيّة. وبهذا المعنى، الديموقراطيّة نفسها هي إيديولوجيّة، ونظرة الوثيقة نفسها إيديولوجيّة، ونظرة الكاتب هنا هي إيديولوجيّة.
ينتهي القارئ من قراءة النصّ وهو يخشى أن يكون النصّ هو في خطّ إيديولوجيّة أحزاب "مسيحيّة" تريد أن تلتحق بكلّ مشروع معاد لمصلحة الناس في البلاد العربيّة، وعبارة " البلاد العربيّة" لا ترد مطلقًا في النصّ، وهو ما يُشعر القارئ بأنّه تمّ تجنّب استعمالها قصدًا، أي انطلاقا من موقف إيديولوجيّ، واستعيض عنها بعبارة "الشرق الأوسط" و"المنطقة"، أي أنّه تمّ تجنّبها بناءً على إيديولوجيّة (بعكس ما تذكر الوثيقة في حاشية فقرة 1). في جميع الأحوال، هذا الالتباس أو الغموض ينبغي رفعه حتّى لا يترك الباب مفتوحا للّذين يريدون مكانًا لكيان الاحتلال ضمن بوتقة "الشرق الأوسط" و"المنطقة".
وبناء على الالتباسات هذه، تصبح الدعوة الأخيرة التي تطلقها الوثيقة للكنائس بـ"الالتزام بقضايا هذه المنطقة وأبنائها على اختلاف إثنيّاتهم وأديانهم واتّجاهاتهم الفكريّة" و"المساهمة في إنتاج عروبة متنوّرة بالحرّية" غير مفهومة في ظلّ الأسئلة التي سألناها، والغموض المحيط بتعريف الوثيقة للعروبة كمجرّد فضاء ثقافيّ.
مسألة الهويّةبالطبع، تبدو مسألة الهويّة – وهي مرتبطة بمسألة العروبة - الأكثر غموضا في الوثيقة. تذكر الوثيقة أنّ "منطقة الشرق الأوسط تتّصف بالتنوّع" في "الدين واللغة والإثنيّة والاجتماع والثقافة والسياسة" وهذا أفضى إلى إيجابيّات وصعوبات، وصراع وتنافس، وهيمنة و"غلوّ في الدفاع عن الخصوصيّات"، "ما دعا إلى تكريس التنوّع بوصفه نموذجًا حضاريًّا يتلاءم مع هويّة الشرق الأوسط وينسجم مع طبيعته" (فقرة ٧).
ولكن لا نفهم كيف أنّ هويّة كاملة ("هويّة الشرق الأوسط") يمكن اختصارها بكلمة "التنوّع" بل أنّ الوثيقة تذهب إلى أنّ "يظهر جليّا أنّ الخصوصيّات النموذجيّة لمجتمعات الشرق الأوسط تكمن في التنوّع". ولا نفهم كيف هي نموذجيّة بينما نعلم أنّ مجتمعًا ككندا، مثلًا، هو أكثر تنوّعا بما لا يُقاس من كلّ البلاد العربيّة مجتمعة.
وما معنى خصوصيّات "نموذجيّة"، هي نموذجيّة لمن؟ للكرة الأرضيّة؟ إنّ بلدًا كالهند هو لربّما أكثر نموذجيّة في التنوّع الدينيّ واللغويّ، والإثنيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والسياسيّ؟ إنّ التنوّع لا يمكنه أن يشكّل الهويّة لـ«الشرق الأوسط»، ولا لأيّ منطقة أو بلد.
ثمّ مَا هي «الطبيعة» لهذا "الشرق الأوسط" التي تتحدّث عنها الوثيقة؟ هل للبلاد العربيّة هويّة جوهرانيّة، أو "طبيعة"؟ نخشى أنّ هذا الاصرار على كون التنوّع هو الهويّة، يخفي رغبة بتغييب "العروبة" كهويّة جامعة وتحويرها إلى مجرّد "فضاء ثقافيّ ومفهوم حضاريّ جامع" لا طعم له ولا لون، ولا موقف، ولا سياسة، ولا عدوّ ولا صديق، وإنّما مجرّد كلمات توحي بالـ"تقدّمية" عن "الانفتاح الحضاريّ" الذي لا نفهم ما الذي يتضمّن فعلا. فهل التطبيع الحاليّ لدول عربيّة مع كيان الاحتلال يمثّل انفتاحًا حضاريًّا؟ إنّ بعض المطبّعون يروَّجون للتطبيع على أنّه في خطّ "الانفتاح الحضاري".
ما هو موقف الوثيقة من التطبيع وهو أهمّ بند مطروح منذ سنوات؟ ولا كلمة عن التطبيع! أنا أعلم علم اليقين أنّ بعض واضعيها من المناهضين للتطبيع في حياتهم اليوميّة وفي كتاباتهم ومواقفهم، فهل كان غياب الكلام عن التطبيع نتيجة مواقف متباينة بين واضعي الوثيقة؟ أم أنّ واضعي الوثيقة لم يقدّروا أنّ الموقف من إسرائيل هو أساس (ليس وحده) للحرّية وللديموقراطيّة وللخروج من الفقر، وهو الواقع، برأيي.
أضف إلى ذلك تعابير مثل "مجتمعات الشرق الأوسط" (فقرة ٤٧ و٥٥)، أو كلامًا حول التحدّيات التي تواجه وجدان "شعوبنا وكنائسنا" (فقرة ٥٣)، دون ذكر هويّتها: هي مجرّد مجتمعات لا تجمعها هويّة؟ أهي "شعوب" دون صفة؟ أو هي شعوب أم شعب؟ أهو شعب عربيّ أم لا؟
وماذا عن تعبير "انتماء المجتمع [في الشرق الأوسط] إلى الثقافة العربيّة، وحضور انتماءات أُخرى تتلاقح وهذه الثقافة". المجتمع ليس مجتمعا عربيّا بحسب الوثيقة، بل مجتمع ينتمي إلى «ثقافة» عربيّة، ويُضاف إلى هذا الانتماء، انتماءات أُخرى "تتلاقح" وهذه الثقافة، وهذه هي النقطة الفصل: المقصود أنّ هناك ثقافات متعدّدة في خلطة هلاميّة لا انتماءَ جذريَّ فيها لهذا الشعب الذي يتعرّض من المحيط إلى الخليج لأشنع أنواع الحروب الاستعماريّة وهتك السيادة وسلب تقرير المصير، ليس لأنّه يهدّد أحدا وإنّما لأنّه يمتلك ثروات يريد رأس المال الأجنبيّ أن يسطو عليها بأبخس الأثمان. كلّ تلك الهجمة بينما الوثيقة تبشّر بانتماءات متعدّدة لثقافات متنوّعة، ضمن ثقافة عربيّة أوسع، ولكن دون هويّة جامعة واضحة. صحيح أنّ النظام الديموقراطيّ الذي تنادي به الوثيقة هو نظام يدير التنوّع (كما تشير الفقرة 61) ولكن ذلك لا يشكّل وحده هويّةً لشعب. كلمة هويّة ترد 7 مرّات في الوثيقة، منها مرّة تتكلّم عن "هويّة الشرق الأوسط"، ولكن لا يوجد تعريف واضح لماهيّة تلك الهويّة، ولكن نلاحظ بشكل واضح لا لبس فيه أنّهم يتجنّبون القول بانّها عربيّة.
الصمت عن مسؤوليّة الاستعمارفي الفقرة ١٤، تُعيد الوثيقة فشل "المشروع السياسيّ المنبثق من النهضة" العربيّة إلى عوامل ذاتيّة محضة: "شعور كثر من المسلمين" بأنّ "مرتكزات المشروع" غربيّة المنشأ، و"فشل معظم الدول في منطقتنا في إرساء نموذج ديموقراطيّ حقيقيّ"، وفرض عدد من الحكّام العرب "ديكتاتوريات مقنّعة أو مُعلَنّة" بحجّة تحرير فلسطين. أيّ أنّ الوثيقة تغسل ايدي حكومات الغرب – هذه الحكومات الغربيّة الواقعيّة التي عملت وتعمل على إنشاء الديكتاتوريّات ودعمها حول العالم – من أيّ نشوء للديكتاتوريّات في البلاد العربيّة! ونحن نعلم علم اليقين أنّ الغرب يدعم الديكتاتوريّات في المنطقة طالما هي تخضع له ويعتبرها "مارقة" إن لم تخضع. كما أنّ الضحايا لا يستحقّون الأسف والإدانة من الغرب إذا قتلهم الحلفاء. وهذا هو وضع الفلسطينيّين واللبنانيّين السوريّين عندما يقعون ضحايا تحت رصاص أو قذائف الاحتلال؛ وقتل الصحفيّة شيرين أبو عاقلة وهي تؤدّي واجبها المهنيّ مثال حديث لا يزال في الذاكرة. لكنّ الوثيقة تصمت عن مسؤوليّة الغرب.
لكنّ الوثيقة تنزلق في المقطع ٨ إلى القول بأنّ "الاستعمار... أخفق في خلق الأطر التي تتيح لمجتمعات هذه المنطقة إدارة تنوّعها الدينيّ والإثنيّ بالاستناد إلى مفهوم الدولة المدنيّة التي يسودها القانون". العبارة تبدو سليمة، لكنّ الكارثة هي في كلمة "أخفق"؛ فالتعبير يعني بأنّ وضع اطر تتيح للمجتمعات إدارة تنوّعها كانت ضمن مهامه ومقاصده ولكنّه فشل في تحقيق ذلك، وكأنّ الاستعمار لم يتقصّد أن يخلق أطرًا لا تساعد المجتمعات "في المنطقة" (نلاحظ دائما تجنّب استمعال عبارة "منطقة عربيّة"، فهي منطقة لا هويّة لها سوى التنوّع). إنّ تعبير"أخفق" يستبطن مقولات دول الغرب الاستعماريّة كانت، وما زالت، تدافع عن استعمارها بالقول بأنّها صاحبة مهمّة شريفة، بينما الحقيقة مخالفة تمامًا لذلك. إنّ العبارة تخفّف من مسؤوليّة الغرب الاستعماريّ عن دعم نشوء أنظمة تدير التنوّع، تعيق وعينا بأنّ الاستعمار تقصّد ونجح في مهمّته، مهمّة خلق أطر تفتيتيّة تساهم في وضع يده على ثروات شعبنا، أطر تُضعف الوعي والوحدة وتفتّت الكيان، أطر معاكسة تماما للأطر التي يعرفها هو تماما في أوروبا (الأنظمة الديموقراطيّة). إنّ الوثيقة نفسها تذكر أنّ كيان الاحتلال ("إسرائيل") هو صنيع الاستعمارـ وهذا الكيان دمّر ويدمّر، واحتلّ ويحتلّ، وفخّخ ويفخّخ، أيّ محاولات تقدّم في أيّ من بلدان المنطقة وخاصّة لبنان، وسوريا، ومصر، والعراق، والأردن. فكيف يكون ذلك إخفاقًا؟ الغرب الاستعماريّ قصد و"نجح" في مشروعه الاستعماريّ المقصود والمستمرّ، والذي سعى من خلاله للهيمنة والتفتيت. لا شكّ أن واضعي الوثيقة يذكرون أنّ الاستعمار الفرنسيّ خطّط لتقسيم سوريا إلى عدّة دول طائفيّة، وأنّه هو مَن صنع لبنان ونظّم له (بالتعاون الوثيق مع البطريركيّة المارونيّة وقتها) نظاما طائفيّا مُفَتِّتا للمجتمع، ومولِّدا للحروب والقلاقل التي لا نزال نعيشها حتّى اليوم. هذا ليس إخفاقا إنّه قرارٌ وتخطيطٌ لاستمرار الاستعمار بالسيادة على سيادات الدول الناشئة، وعرقلة أيّة عمليّة تنمية ممكنة.
ولذلك فما ورد في فقرة ٨ بأنّ الاستعمار "أمعن في اللجوء إلى معادلة «فرّق تسد» الخبيثة"، غريبٌ كلّ الغرابة! فهل يمكن انتظار شيء آخر من الاستعمار؟ وهل كان الاستعمار جيّدا لو أنّه فرَّق، ولكن لم "يُمعِن" في التفريق؟
تتابع الوثيقة عن حقّ أنّ الاستعمار "فرض قيام دولة إسرائيل... عبر مسار دمويّ وتهجيريّ مقيت". ولكن من الغريب استعمال صفة "مقيت" في هذا الموضع. هذه مهادنة في إدانة الإجرام الصهيونيّ: هذا مسار إجراميّ وحشيّ، وتطهير عرقيّ، ونظام فصل عنصريّ، عدا عن كونه احتلالًا ،وطردًا للسكّان الأصليّين، وتدميرًا ممنهجًا لهم، ودوسًا مستمرًّا على كرامتهم، وسجنًا لهم، واضطهادًا. مقابل كلّ هذا تستخدم الوثيقة كلمة "مقيت" الباهتة في وصف هذا الواقع الشرس.
وتتابع الفقرة ٨ لتقول أنّ منطقة "الشرق الأوسط" شهدت "بالإضافة إلى أشكال الاستعمار «الجديد» وحروب بالوكالة، إعادةَ إنتاج للعصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة تجلّت خصوصًا عبر تبلور مقوّمات صراع سنّي-شيعيّ يضطلع فيه كلّ من تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) ومنظومة «ولاية الفقيه» بأدوار مدمّرة". لن أطيل التعليق هنا، مع أنّ الجملة هذه وحدها تحتاج لمقالة، ولكن سياق الجملة يدلّ أنّ واضعي الوثيقة لا يرون في "إعادة إنتاج العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة" أيدي أميركيّة وأوروبيّة وإسرائيليّة. وكأنّ هذه العصبيّات ولدت فجأة من ظروف ذاتيّة محض، ولا علاقة لولادتها بمحاولات الاستعمار وقلعته الاسرائيليّة المزروعة في الوسط العربيّ، السيطرة على مقدّرات البلاد العربيّة وتفريقها، وضرب أيّة دولة تحاول أن تستقلّ بمقدّراتها عن الاستعمار «الجديد» المستمرّ بفضل استمرار سياسة «فرّق تسد» المقصودة.
إنّ الفقرة ٨ تدلّ بأنّ واضعي الوثيقة أغفلوا جوانب من الواقع، ممّا يجعل الوثيقة تساهم في الجوانب التي ذكرناها في عمليّة طمرَ الوعي للواقع الاستعماريّ المستمرّ، وتمرير جدول أعمال سياسيّ «مرن» تجاه الغرب الاستعماريّ وتجاه إسرائيل (المسار الدموي يُسمّى "مقيتا").
إنّ الاستعمار مستمرّ ليس فقط بحسب قراءتنا للأحداث، وإنّما أيضًا بحسب الوثيقة نفسها التي تتكلّم عن "أشكال من الاستعمار الجديد" في الفقرة ٨ نفسها. وكيف يكون الاستعمار استعمارًا إن لم يكن هدفه الهيمنة وإضعاف الوعي والحسّ الوطنيّين أو القوميّين، وتفتيت الهويّة بتحويلها إلى "أنماط من التلاقي التجاوريّ" وهي عبارة وردت بشكل جدّ مؤسف في الوثيقة (فقرة ٧)، فالـ"تجاور" هو غير المواطنة، وغير اتّحاد المواطنين في بوتقة وطنيّة أو قوميّة، هو شيء من التكاذب الموجود في لبنان في عبارة «التعايش».
الموقف نفسه الذي يغسل أيدي الغرب الاستعماريّ ويقارب جلد الذات، نراه في الفقرة ٤٤ حيث تذكر الوثيقة "ما يشهده الشرق الأوسط بعامّة من غياب للديموقراطيّة في الممارسة السياسيّة واستهتار بشرعة حقوق الإنسان وما يرافق هذا من عدم استقرار سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ"، وكذلك في الفقرة ١٤ حيث تشير الوثيقة إلى "فشل مجتمعات الشرق الأوسط في تلقّف مشروع الحداثة الذي عبّرت عنه النهضة" العربيّة؛ وكأنّ غياب الديموقراطيّة وذاك الفشل هو نتيجة محض ذاتيّة. والأمر نفسه يتكرّر في ذكر الوثيقة لجوء العرب إلى "التعامل مع الإشكاليّات المنبثقة من حقبة ما بعد الحداثة بعقليّة ما قبل الحداثة، أو اللجوء المفرط إلى عناصر سابقة للحداثة كالعقليّة الغيبيّة"، دون أن يحاول واضعو الوثيقة ربط هذه الظاهرة بواقع أنظمة الدول (ديكتاتوريّات يحمي جلّها الاستعمار الغربيّ) وبهجوم الاستعمار ومحاولاته سحق أيّ استقلال ونموّ وسيادة وتقرير مصير وهويّة عربيّة. إنّ المجتمعات لا يمكنها أن تصيغ مشروع حداثة وتطبّقه دون دولة، ودولنا لم تكن بالفعل سيّدة ومستقلّة بل تحت هجوم استعماريّ متواصل مُعلَن وخفيّ. الموضوع يحتاج لنقاش وتحليل على الأقلّ، ولا يمكن الاكتفاء بالتذكير بظاهرة دون ربطها بأسبابها، في وثيقةٍ تريد استشراف المستقبل. أخيرًا، فإنّ الصمت عن أثر الاستعمار يبدو جليّا بذكر عبارة "الاستعمار" ثلاث مرّات فقط، وفي مقطع واحد فقط هو مقطع ٨، وبعبارات جدّ "ناعمة" وأكثر من إشكاليّة.
مسألة العنفوإن تذكر الوثيقة في فقرة ٤٥ "صعود الحركات الأصوليّة الإسلاميّة ذات الطابع العنفيّ" (دون أن تحلّل أسباب ذلك الصعود) ولكنّها تنفي أن يكون ذلك سببَ هجرة المسيحيّين. وتذكّر في فقرة ١٦ بأنّ "التطرّف الدينيّ الذي يتّخذ أحيانًا شكلًا عُنفيًّا يصل إلى حدّ محاولة طمس الهويّات المُغايرة" وبشكل إيجابيّ تنفي صفة العنف عن الإسلام السياسي، وعن الإسلام، وحتّى عن الدين وتقول انّ العنف "هو ظاهرة أنثروبولوجيّة ومجتمعيّة بالدرجة الأولى غالبًا ما ترتبط بخطاب عن الهويّات مغلقٍ وإقصائيٍّ وفوقيّ". والوثيقة واضحة في نبذها لـ"تبنّي منطق العنف وسيلة لحلّ النزاعات" وهو ما تؤكّده في الفقرة الأخيرة (فقرة ١٠٠) حيث تقول أنّها ترى في السياسات والخيارات التي اقترحتها "تعبيرًا رصينًا عن التزام مسيحيّي الشرق الأوسط المعيّةَ الإنسانيّة وخيارَ الحياة الكريمة لكلّ إنسان في منطقتنا، ورفضًا لثقافة الموت المستشرية وتبنّي منطق العنف وسيلةً لحلّ النزاعات".
تعليقنا هنا هو في شقّين: الأوّل أنّ الوثيقة لا تربط ظاهرة العنف بواقع الاستعمار والأنظمة الديكتاتوريّة (تلك التي نصّبها الاستعمار وتلك التي لم ينصّبها) فالقول أنّ العنف ظاهرة أنثروبولوجيّة (إنسانيّة) لا ينفع شيئا ولا يقدّم فهمًا، فالسؤال هو ما الذي يدفع الناس إلى توسّل العنف؟ وإن كان العنف ظاهرة "ترتبط بخطاب عن الهويّات مغلقٍ وإقصائيٍّ وفوقيّ" فالسؤال هو ما الذي يدفع سكّان البلاد العربيّة إلى خطاب كهذا؟ وإلى أيّ مدى تلعب يد الاستعمار، والحكّام الذين نصّب جلّهم الاستعمار، دورًا في نشوء هكذا خطاب؟
أمّا الشقّ الثاني لتعليقنا فهو حول نبذ الوثيقة للعنف كوسيلة لحلّ النزاعات، وفي هذ الرفض التباس. فإن كان المقصود هو رفض اللجوء إلى العنف لحلّ النزاعات الداخليّة في بلد ما، فهذا بالطبع مغبوط، لأنّ هناك وسائل أخرى متوفّرة للبشر لحلّ النزاعات الداخليّة (الديموقراطيّة مثلًا). أمّا أن يكون الرفض عامّا ومنسحبًا على النزاعات كلّها، فهنا نختلف مع واضعي الوثيقة، ولندلّل على خلافنا نورد مثلين من لبنان وفلسطين لم تنسحب إسرائيل من لبنان بسبب قرارات الأمم المتّحدة السلميّة (قرار ٤٢٥)، وإنّما تحت ضربات المقاومة. أمّا منظّمة التحرير فسارت في طريق "المفاوضات" السلميّة للوصول إلى حلّ عادل للظلم القائم في فلسطين والشتات، ولكن ما فاتها أنّه لا يمكن لأيّة "مفاوضات" مزعومة أن تودي إلى نتيجة دون أدوات ضغط، فإذا بما يسمّى "مفاوضات" غطاء لاستمرار جرائم الاحتلال وسياسة قضم الأراضي. وكمثل آخر نذكّر كم حاول الفلسطينيّون في غزّة سلميًّا ولأسابيع الاقتراب من حدود أكبر سجن في العالم (غزّة)، بينما أطلق جنود الاحتلال الرصاص عليهم دون رادع، فاردوا البعض قتلى، وكان إطلاق النار قنصًا بقصد التسبّب بإعاقات جسديّة لعشرات الفلسطينيّين كما تورد التقارير الجادّة، هذا فيما تابع "المجتمع الدولي" حياته كأنّ شيئا لم يحدث. الطرق السلميّة قد لا تجدي نفعًا في حلّ النزاعات في حالة الاحتلال.
إنّ الطريق إلى العدالة لا يتحقّق إلّا بالقوّة: القوّة اللاعنفيّة (اقناع، انتخابات نزيهة) في النزاعات الداخليّة، أمّا في النزاعات الخارجيّة فاللجوء هو عادة للقوّة العنفيّة دفاعا عن الحرّية والكرامة، كما يمكن اللجوء إلى القوّة اللاعنفيّة حين تكون نافعة ومؤدّية إلى نتيجة، وما طلب المنظّمات المدنيّة الفلسطينيّة بمقاطعة تامّة لكيان الاحتلال إلّا قوّة تضغط باتّجاه إجبار الاحتلال على الرضوخ لمتطلّبات العدالة. إنّ رفض العنف بشكل مطلق، وفي كلّ الحالات، مساوٍ للخضوع للقاتل والقبول بالاستعباد وبالاستغلال معًا. بل أنّه في حالات معيّنة وعند استفحال الديكتاتوريّة، أو الاستغلال، أو الاستعمار، في بلد ما، دون أن تحقّق الوسائل اللاعنفيّة نتيجة تذكر، بسبب شدّة القمع أو شدّة التحكّم بمفاصل السلطة، فقد يجد الإنسان – ومن منطلق مسيحيّ- مبرّرا لخوض نضال عنفيّ لتحقيق العدالة. وما الثورات التاريخيّة حول العالم (فرنسا، روسيّا، تونس، إلخ) إلّا دليلًا على أنّ تلك خيارات ممكنة، بل وأحيانًا ضروريّة.
اللغة الباهتة المستعملة في توصيف جرائم الاحتلالتنتقد الوثيقة كيان الاحتلال صراحة ودون مواربة، ولكنّها في إحدى العبارات تخطئ التعبير، برأينا، فعدا عبارة "المقيت" المذكورة فوق، تذكر الوثيقة "الاحتلال الاسرائيليّ لفلسطين"(فقرة ٣٩)؛ وهذه العبارة خاطئة لأنّ مَن احتلّ فلسطين هم العصابات الصهيونيّة ولم تنشأ اسرائيل كدولة تعترف بها الأمم المتّحدة إلّا بعدها. ولكنّ العبارة خطيرة لأنّها قد تُفَسَّر من قبل البعض على أنّ المقصود بفلسطين الضفّة الغربيّة وغزّة فقط، المحتلّتين عام ١٩٦٧، وبذلك يكون واضعو الوثيقة - بسوء تعبير على ما أجزم – أوحوا بأنّهم لا يعتقدون بحقّ الفلسطينيّين في كامل فلسطين، ولذلك ندعو واضعي الوثيقة بإلحاح مراجعة هذه العبارة، مهما كان موقفهم من أيّ نقد آخر قدّمناه في هذه المقالة، فالوثيقة تذكر نكبة ١٩٤٨بشكل صريح، ولأهمّيتها لا نودّ أن تُستخدم لأهداف سياسيّة لا تخدم العدالة والحقيقة.
ورغم إدانتها لكيان الاحتلال الصهيونيّ، تعفّ الوثيقة عن ذكر عبارة "التمييز العنصريّ" وهذا غير مفهوم. المواطنون في البلاد العربيّة لا إشكاليّة لديهم مع العبارة، الإشكاليّة هي في الغرب الاستعماريّ. ولم تجنّب العبارة؟ حتّى في الغرب لم يعد من حاجة لتبرير استخدام العبارة بعدما باتت مستعملة من قبل منظّمات دوليّة تُعنى بحقوق الإنسان ولها اعتبارها في أوروبا وشمال أميركا. فلم التعفّف عن الكلام مباشرة عن دولة التمييز العنصريّ، دون إغفال كونها دولة احتلال استعماريّ؟ في هذا النصّ، كما في كلّ نصّ، إنّ المسكوت عنه (أو الغامض) هو بأهمّية المُعلَن، إن لم يكن أكثر أهمّية منه. إنّ الذين يطرحون هذه الوثيقة هم لاهوتيّون ومثقّفون، وننتظر منهم الجذريّة في المواقف، ولذا فالحيطة في استخدام التعابير غير مبرّر. صحيح أنّ الوثيقة تحلّل كيفيّة نشوء دولة الاحتلال على يد الاستعمار، ولكنّها لا تستخدم أيّة عبارة تشرح فيها فظاعة ما تفعله دولة الاحتلال. وهذا غريب أشدّ الغرابة في وثيقة تطرح تحليلاً لواقع المنطقة وتاريخها، وتدعو إلى تشكيل آفاق فيها.
فإن كان عدم استخدام أشدّ العبارات لإدانة إسرائيل مقصودا، فإنّنا نتساءل لماذا؟ هل لأنّ مؤسّسات ودول في الغرب سيقرأونها؟ أم لأنّها تريد أن تحفظ علاقات سياسيّة بين الكنائس في مجلس كنائس الشرق الأوسط أو مجلس الكنائس العالميّ؟ ولكن هذا يتضارب مع كون المجموعة اللاهوتيّة تعلن أنّها تريد طرق باب "التحدّيات الكبرى" كما تورد في السطر الأوّل من الوثيقة.
وإن كان عدم استخدام أشدّ العبارات في حقّ نظام التمييز العنصريّ الصهيونيّ سهوًا، فهذا يعني أنّ المجموعة لم ترَ الأهمّية البالغة للقضيّة الفلسطينيّة، ليس فقط للفلسطينيّين، وإنّما لمستقبل البلاد العربيّة كلّها. الكيان الصهيونيّ، وبغضّ النظر عن أيّ توصيف آخر صحيح، هو أيضًا قلعة حربيّة للغرب الاستعماريّ، يستخدمه الغرب لمتابعة استعماره ونهبه لموارد العرب، وتدمير بلادهم، ودعم وتنصيب الديكتاتوريين الموالين فيها (باستثناء سوريا). هل يجب التذكير بعدد الحروب التي شنّها الغرب على بلداننا في القرن الأخير للتدليل على متابعة الغرب سياساته الاستعماريّة؟ يمكن العودة إلى مقالتنا في تيلوس عدد صفر من أجل قراءة جردة بحروبه علينا، كما يمكن التفكّر بالتحالفات العسكريّة للكيان الصهيونيّ اليوم وأثرها على المنطقة بأسرها وخاصّة لبنان.
إنّ غياب الحدّة في موضوع فلسطين يعكس، بنظرنا، سوء تقدير كبير لواقعنا، سوء تقدير بأنّ الأساس الأكبر لمشاكلنا هو التدخّل المباشر للغرب وأداته الصهيونيّة للهيمنة على مقدّراتنا.
الالتباس القائم في الدعوة للحوار مع "أبناء الديانة اليهوديّة"تأتي الوثيقة بدعوة للحوار مع أبناء الديانة اليهوديّة، ومن المناسب إرفاق النصّ كاملًا هنا:
"تطوير مقاربة لاهوتيّة وفكريّة تسمح بفتح صفحة جديدة في العلاقات مع أبناء الديانة اليهوديّة الذين شكّلوا جزءًا لا يتجزّأ من فسيسفاء منطقة الشرق الأوسط وهويّتها التعدّديّة، وبإطلاق حوار جدّيٍّ معهم. هذا الحوار يجب أن يبنى على قيم العدالة والسلام وكرامة الخليقة والإنسان، وذلك في توجّه معاكس لحوار بعض تيّارات المسيحيّة الغربيّة المحابي للصهيونيّة إمّا بنتيجة عقدة المحرقة اليهوديّة، وإمّا بفعل تأنيب الضمير على قرون من المعاداة للساميّة، وإمّا إرضاءً للّوبي الصهيوني. إنّ حوارًا كهذا من شأنه أن يدفع في اتّجاه إحقاق العدالة للشعب الفلسطينيّ، ومحاسبة سياسة الاحتلال والاستيطان الإحلاليّ، والسعي إلى إقامة سلام حقيقيٍّ في المنطقة، ونبذ مفهوم الدولة الدينيّة التي تناقض قيام الدولة المدنيّة." (فقرة ٩٢)
ماذا تعني "فسيفساء منطقة الشرق الأوسط وهويّتها التعدّدية"؟ التعابير ليست مجانيّة، قد لا يكون التعبير موفّقا وقد يكون مقصودًا ونحن لا نستطيع إلّا أن نعلّق على المكتوب. العبارة تعكس وتؤكّد طريقة تفكير تجعل المنطقة كلّها بدون هويّة، بل مجرّد تجمّع لهويّات دينيّة وغير دينيّة.
صحيح أنّ الوثيقة تفعل حسنا بانتقاد التيّارات المسيحيّة المحابية للصهيونيّة، وتقف مع إحقاق العدالة ومحاسبة سياسة الاحتلال والاستيطان ونبذ مفهوم الدولة الدينيّ. ولكن يبقى من غير المفهوم ما هو هذا الحوار المطلوب مع "أبناء الديانة اليهوديّة"؟ هل هم المواطنون في البلاد العربيّة؟ مَن يمثّلهم؟ ومَنْ سيتحاور معهم؟ وفي أيّ إطار؟ وطنيّ أم "شرق أوسطيّ"؟ ثمّ من غير المفهوم كيف يمكن لحوار بين مجموعة متخصّصة من طوائف وأديان، أن يساعد في إحقاق حقوق الشعب الفلسطينيّ (كما يذكر النصّ أعلاه)، أو في أن يكون له أي أثر خارج المتحاورين؟ هناك لجان للحوار بين الأديان في دول متعددة، الحوار في لبنان مثلا بقي قيد لجنة مثقّفين ورجال دين، ولم يترك أثرا خارج تلك المجموعة الصغيرة من المتحاورين.
إنّ إزالة الالتباس حول هذه الدعوة ضروريّ وحسّاس جدّا، فليس من الحكيم – رغم إدانة إسرائيل في النصّ- أن تدعو الوثيقة إلى أيّ حوار غير واضح الشروط مع "أبناء الديانة اليهوديّة"، في زمن الهرولة العربيّة إلى التطبيع. عندما يدعم البطريرك بشارة الراعي هذه الوثيقة "كاملة"، فإنّ هذا الدعم، برأينا، يثير الخشية أكثر من الاطمئنان، ولذا يغدو إيضاح ما نراه غامضًا وملتبسا أكثر من ضروريًّا، فالبطريرك الراعي زار الكيان الصهيونيّ دون نقد له، وهو مَن روّج لضرورة حياد لبنان، هذا الحياد الذي إذا حصل سيعني إدارة الظهر للحقّ الفلسطينيّ وغسل الأيدي من ضرورة مواجهة الشرّ.
خلاصةإنّنا على تقديرنا لما جاء في الورقة والتوجّهات الممتازة أحيانًا (فقرة ٦٥ حتّى ٨٥) فإنّنا نرى في القصور عن تجليل الفقر وأسبابه، والموقف الغامض من العروبة، والغموض المحيط في مسألة الهويّة، والصمت عن مسؤوليّة الاستعمار، واللغة الباهتة في توصيف جرائم دولة الاحتلال والتمييز العنصريّ الصهيونيّة، والالتباس الممكن في الدعوة إلى الحوار، تبقى مقلقة وتحتاج لإيضاح. إنّنا نخشى أن تصبح الالتباسات القائمة والغموض الماثل في نواحٍ أساس في هذه الوثيقة، نقاطًا يستخدمها المطبّعون لدفع جدول أعمال التطبيع مع كيان الاحتلال، ونعتقد بضرورة أن يوضح واضعو الوثيقة هذه النقاط أو غيرها، وأن يتابع نقد الوثيقة أشخاص لا يرتبطون بالمؤسّسات الدينيّة، وخارج التخصّص اللاهوتيّ، فما تطرحه مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بحاضر ومستقبل كلّ عربيّة وعربيّ من المحيط إلى الخليج. وأخيرًا، يُشكر واضعو الوثيقة على إثارتهم حوارا ضروريّا حول تاريخنا وواقعنا، حوار نحن بأمسّ الحاجة إليه.