خريستو المرّ
4 التراث نقل جامد للماضي أم تجاوب حاضر ديناميّ مع الروح القدس ؟لقد قلنا بضرورة التمييز بين مستويات مختلفة في التراث : مستوى العقيدة ومستوى الرأي، مستوى محتوى الحقيقة الإيمانيّة ومستوى التعبير الذي يرتبط بتاريخ وحضارة محدّدتين ومحدودتين. كما قلنا بضرورة التمييز بين المحدود واللامحدود في التراث، أي بين "خزف الآنية" وبين "الكنز" ورأينا بأنّ الحقيقة الإلهيّة تُعرَفُ بالعلاقة الشخصيّة مع المسيح في الكنيسة وهذا يعني انّ عيشها والتعبير عنها يقتضيان حركة انفتاح على الروح القدس.
إنّ الناظر إلى التاريخ الكنسيّ يرى إبداعات رائعة للتعبير عن الحقيقة الإلهيّة التي تسلّمناها، ويلاحظ ديناميّة كنسيّة آخّاذة، سنختصر شيئاً منها في ميداني اللاهوت والليتورجيا، اللذَين يوافق حتّى أصحاب الرأي الذي انتقدناه أنّهما تطوّرا.
4 .1 تطوّر اللاهوتلولا التمييز بين اللامحدود وفهمنا المحدود له، والتمييز بين فهمنا المحدود وبين تعبيرنا المحدود، لما كان للّاهوت والليتورجيا أن يتطوّرا عبر التاريخ بهدف إيضاح الإيمان الذي تسلّمناه بيسوع.
فعلى الصعيد اللاهوتيّ، نجد تطوّراً في النتاج اللاهوتيّ، بين مرحلة كتابة الأناجيل والرسائل، إلى الآباء الرسوليّين والآباء الدفاعيّين. وفي قرون لاحقة، نحت الآباء دستور الإيمان نحتاً، وعلى مراحل (م.325 – 787م.)، ومن خلال صعوبات شرحنا شيئاً منها فوق(الجزء 1)، مبتكرين نصّاً متماسكاً (دستور الإيمان) لإيمان عاشته الكنيسة عبر الليتورجيا، والتعليم، والكتابات، والكتاب. ونجد في القرن الرابع عشر صياغة القدّيس غريغوريوس بالاماس (1296 - 1359) لفكر لاهوتيّ حول القوى الإلهيّة (energy) التي تؤلّهنا وميّز بينها وبين الجوهر الإلهيّ غير المُدرَكك، وهو أتى بتعبير لاهوتيّ دقيق وجديد ولو أنّه مبنيّ على خبرة الكتاب المقدّس (خبرة موسى على الجبل، تجلّي يسوع على ثابور) وعلى تعابير وكتابات سابقة ومنها لآباء سبقوه (الأريوباغي، أثناسيوس الكبير، النيصصيّ، كيريللّس، مكسيموس...)، وعلى خبرة الكنيسة ومنها الخبرة الرهبانيّة (إيفاغريوس، مكاريوس). رغم اعتماد بالاماس على التراث، فإنّ صياغته اللاهوتيّة تبقى جديدة بالكلّية (ودليل الجدّة فيها هو أنّها مرفوضة غربيّاً). وحتّى اليوم يمكننا أن نرى في نتاج أكثر من إنسان نتاجاً آبائيّاً، يجيب انطلاقاً من التقليد وما بدا لنا من حقّ في عالم اليوم، على أسئلة أناس هذا العصر، وينقل إيمان الكنيسة الواحدة بلغة العصر، مضيفاً كشوفات جديدة، لآثار الله في هذا العالم. ومن هؤلاء، المطران جورج خضر، كوستي بندلي، أوليفيه كليمان، كاليستوس وير، أنطوني بلوم، وغيرهم.
4 .2 تطوّر الليتورجيانميّز في الكنيسة، وبسهولة، بين الكتاب المقدّس وبين الليتورجيا، فبينما لا نستطيع تغيير محتوى الكتاب المقدّس، فإنّ الواقع الكنسيّ هو أنّ الليتورجيا تبدّلت وتطوّرت عبر التاريخ. فبينما يعود ظهور أقدم قائمة للكتب القانونيّة في الكتاب المقدّس، إلى رسالة للقدّيس أثناسيوس الكبير من القرن الرابع[1]، وهي قائمة لم تتبدّل[2] رغم أنّ بعض الكنائس تردّدت في الإقرار بصحّة نسب هذا أو ذاك من الكتب[3]؛ فقد تطوّرت الليتورجيا عبر التاريخ، واليوم نحن نزيد عليها (في آب 2011، قرّرت الكنيسة الروسيّة زيادة صلاة من أجل تعزية أهالي المنتحرين)، ونختصر منها (حاليّاً الصلوات التي تقام في الرعايا هي أقصر من تلك التي تقام في الأديار).
على الصعيد الليتورجيّ، لم تكتف الكنيسة بما بدأت به، بل طوّرت ليتورجيّتها عبر الزمن، منطلقة من التراث اليهوديّ. ولا تجد الكنيسة تعارضاً بين الإخلاص للتقليد وبين تطوير الممارسة الليتورجيّة، فالتغيير في الممارسة الليتورجيّة كان متواصلاً عبر التاريخ وإلى اليوم[4]. هكذا، تطوّرت الصلوات ووضعت الأصوام، وأضيف كلّ الإبداع البيزنطيّ (صلوات، عمارة، أيقونات، موسيقى)، كما دخلت على الليتورجية البيزنطيّة تعبيرات نتجت عن إنحرافات لاهوتيّة تقتضي تصحيحاً في زمننا (مثل رؤية التكريس في الكهنوت حصراً[5]، وبالتالي منع العلمانيّين من دخول الهيكل مبنى الكنيسة باستثناء الامبرطور[6] بينما المسيحيّون هم هيكل الله الحيّ (2 كور 6: 16)، والأيقونسطاس، وتلاوة الأفاشين بصوت منخفض).
وفي القرن الخامس عشر، بعد وقوع بيزنطيّة تحت الحكم العثمانيّ، طرأت إضافات عديدة على ثياب المطران، فاتّخذ الكثير من مظاهر الإمبرطور البيزنطيّ (التاج مثلاً)، بعد أن غدا المطران ممثّلاً مدنيّاً للشعب الأرثوذكسيّ في الدولة العثمانية[7].
أمّا حاليّاً، فمن مظاهر الديناميّة في الليتورجيا، هو أنّ التيبيكون الحاليّ[8]، يُتَّبَعُ بطريقتين واحدة مختصرة في الرعايا وأخرى مطوّلة في الأديار. وقد تطوّرت خلال التاريخ ثلاث أنواع من التيبيكون، فأنتجت الكنيسة (1)تيبيكون كاتدرائيّ في بيزنطية كان يُصّلّى في الكاتدرائيّات، (2)وتيبيكون"ستودّي" مستوحى من تقليد أديار القسطنطينيّة وبشكل خاص من دير ستوديون (studion) وقد دخل عليه لاحقاً تقليد الأديار الفلسطينيّة، (3)وأخيراً التيبيكون "السابائيّ" الأورشليميّ المتأثّر بدير سابا؛ وهذا الأخير هو أساس التيبيكون الحاليّ المعتمد بنسختين: واحدة مطوّلة تتبعها الدول السلافيّة، وأخرى مختصرة تتّبعها أنطاكيا وأورشليم والاسكندريّة وقبرص واليونان وبلغاريا[9].
4 .3 الجِدّة والإخلاص: مثال يحتذىهذا التصرّف الكنسيّ والآبائيّ الذي طوّر في اللاهوت والليتورجيا، أبدع لاهوتاً وتعابيراً كانت جميعها ضروريّة لتثبيت الإيمان وتوضيحه، ولنَقَلَه بلغة العصر، وذلك كي يبقى خلاص الإنسان محفوظاً، أي كي تبقى إمكانيّة التألّه مفتوحة أمام الإنسان. ما كان للتقليد أن يكون لو تجمّد الآباء وجمّدوا ما كان موجوداً في الكنيسة منذ بدايتها، ما كان للتقليد اليوم أن يكون لو لم يجدّد الآباء في التقليد الذي تسلّموه.
إذا أخذنا المجمع المسكونيّ الأوّل (نيقية)، نرى مثالاً ساطعاً على روح التجديد التي كان ينتهجها الآباء في التراث، مع الإخلاص الكامل للإيمان. ففي المجمع المسكونيّ الأوّل رفض بعض الحاضرين إدخال مطلق أيّة صياغة عقائديّة على الكنيسة، ومالوا إلى عدم كتابة أيّ تحديد عقائديّ؛ ولكن كسر الجمود العديد من الآباء وعلى رأسهم القدّيس إسكندر الاسكندري، بدعوتهم إلى ضرورة ابتكار عبارات جديدة، وتثبيت الإيمان كتابةً، فتبنّوا عبارة "المساوي في الجوهر" التي كان يستعملها الغنوصيّون في بدعهم(!)، مستعملينها في إطار جديد، ومعنى جديد، يختصّ بعلاقة الإبن بالآب. وقد اقتنع الآباء الحاضرين بذلك فكانت بداية رحلة كتابة دستور الإيمان.
هذا هو المثال الذي يجب أن نحتذيه، مثال مجمع نيقية الذي ذهب إلى "قمّة الجرأة"، بتعبير الأب أندريه سكريما[10]، فنجْمع اليوم أيضاً الجِدَّة بالإخلاص.
5 خلاصةإنّ الآباء لم يكتفوا فقط بما وصل إليهم، بل نحتوا معانٍ جديدة من ألفاظ موجودة في اللغة المتوفّرة لديهم، هذه اللغة كانت ناتجة عن علوم عصرهم (كالفلسفة)، واستخدموها لكي يقولوا حقائق إلهيّة عاشوها في الكنيسة، والتقليد المتوفّر لديهم.
لذلك فنحن لا نرى تعارضاً بين الإخلاص للتقليد وبين الجدّة اللاهوتيّة، وما يقتضيه ذلك من تطوير للخطاب واللغة والأسلوب، وتطوير للّيتورجيا، وتتبّع لآثار الله في خليقته لم نفطن لها قبلاً، وقراءة لعلاماتِ هذه الأزمنة لنرى مايقوله الروح للكنائس اليوم. فنحن يمكننا :
1- أن نقول الأمور نفسها التي قالها الآباء بطريقة جديدة: مثلاً ما الذي يمنع من أن نقول أنّ الناس خدّام لله في خلقِه، عوض ان نقول أنّهم عبيد لله؟ أليس المعنى هو نفسه؟ أليس المطلوب هو أن ننقل الحقيقة الإلهيّة إلى هذا الإنسان الذي يعيش "هنا والآن"، والذي تمثّل له العبوديّة نظاماً لا أخلاقيّاً ولا إنسانيّاً؟ أين الخيانة للحقيقة الإيمانيّة أن نستخدم تعابير يفهمها إنسان اليوم؟ أو ليس رفض تغيير التعابير هو الذي يوقعنا بالخيانة لروح الآباء المتوثّبة والمبتكرة لتعابير جديدة في عصرهم؟
2- أن نساهم في التطوّر الليتورجيّ، فالتطوّر الليتورجيّ واضح المعالم تاريخيّاً ولو أنّه تمّ بتروٍّ. إنّ أيّ تغيير اليوم لا يخرج عن منحى التغيير الذي كان حاضراً في الكنيسة. اليوم، تطرح الممارسة الليتورجيّة أسئلة على المؤمنات والمؤمنين. مثلاً، يطرح البعض، ومنذ زمن بعيد، مشكلة المناولة عن طريق الملعقة وما يمكن أن تسبّبه من انتقال للأمراض. ليس صحيحاً أنّ المناولة في الكنيسة كانت منذ البدء كما هي اليوم، فالمناولة قديماً كانت تتمّ بطريقة مختلفة عن اليوم، إذ كان المؤمنون يأخذون من الكاهن قطعة من القربان المتحوّل، من ثم يشربون مباشرة من الكأس. اليوم هل نحتاج لطريقة أخرى في المناولة؟ مجرّد طرح السؤال يبدو كفراً بنظر البعض. ومع ذلك فالممارسة تتغيّر اليوم، إذ نرى أنّ بعض الإخوة يفتحوا أفواههم كي لا يلامسوا الملعقة، وكهنة يتجاوبون مع هذا التصرّف. البعض الآخر يطرح قضايا اللغة والترجمة، وآخرون يطرحون موضوع العماد بالتغطيس، إلخ. هناك أسئلة جدّية تتناول بعض القضايا الطقسيّة لا يمكن للكنيسة أن تتجاهلها وترفض أن تواجهها وتكون في نفس الوقت أمينة للتقليد! هل نجد في نهاية الأمر أجوبة وممارسات أخرى غير الحاليّة، أم نقتنع بممارساتنا الموجودة؟ لست أدري؛ ولكن إيمانيّاً لا يجوز ألاّ نطرح الأسئلة، ولا يجوز ألاّ نسمح بطرحها، ولا يجوز ألاّ نبحث عن أجوبة.
3- أن نكتشف أموراً جديدة متوافقة مع إيماننا، لم يفطن لها الآباء، ليس لأنّنا أفضل أو أقدس ولكن لأنّ الله، بالعقل والقلب اللذين أعطانا إيّاهما، يمكنه أن يكشف لنا أموراً جديدة، بهدي روحه القدس، وبواسطة ما نثره من حقائق في علوم عصرنا. مثلاً، كيف كان لأحد الآباء أن يتحدّث عن علاقة الرضاعة والفميةّ بالصوم، والرغبة بالحنان، وعلاقة كلّ هذا بالمحبّة وبالله وبالرهبنة، إن لم يكن قد عرف معطيات علوم النفس؟
4- أن نرى ماذا يقول لنا إيماننا اليوم أمام تحدّيات عصرنا. ما هو موقفنا الإيمانيّ من الطائفيّة والتدمير، للإنسان والأوطان، الذي ينتج عنها؟ هذا أمر يكاد يكون قضيّة حياة وموت اليوم، ولن نجد في التراث إجابة لأنّ الموضوع لم يكن مطروحاً عند فلان أو فلان من الآباء.
إنّ "التقليد ليس إيداعاً جامداً أو ميّتاً، ولكنّه حياة روح الحقّ نفسه الذي يعلّم الكنيسة"، كما يقول فلاديمير لوسكي[11]. إذ "ليست الأرثوذكسية جامدة ولا مقاومة للتغيير، إنّها مليئة بالقوة والنشاط وتقليدية في الوقت نفسه. فالتقليدية ليست المحافَظة بل الإبداع، ليست حالة بل حياة"، كما يقول أستاذ اللاهوت في جامعة تسالونيكي جورج مانتزاريذيس[12].
لهذا يؤكّد أوليفيه كليمان بأنّ من مسؤوليّة المؤمنين‑الكنيسة أن يبتكروا كلمات جديدة لنقل الإيمان، وهذه " «الكلمات الجديدة» التي من واجب الكنيسة أن تخلقها بتناغم خلاّق مع الكرازة الأولى، لا يمكن أن تتجاهل ولا أن تنقض كلمات «الآباء» السابقين، وإنّما تتآلف معها كسيمفونيّة موحاة... شرط أن لا ترَدَّد تلك الكلمات [التي للآباء] وتُمَنهَج... بل أن نعرف كيف نكشف النار التي تحتويها لنخلق، بتناغمٍ حيّ معها، تلك «الكلمات الجديدة» حيث كلّ جيل، كلّ لحظة، كلّ مكان، وفي النهاية كلّ شخص - في شركة -... يساهم بتمجيده الخاص [لله]، وبدوره «يكشف ويمجّد سرّ التقوى الكبير». عندها، وعندها فقط، يجد «الآباء» خصوبتهم - على صورة الآب السماويّ الذي، منذ الأزل، يريد الإبن مساوياً له – وعندها يُبرهِن تقليدُ الكرازةِ [الرسوليّة] بأنّه ليس مجرّد نقل، وإنّما انفتاح على الأبديّة الحيّة والجديدة دائماً، لـ«ذاك الذي يأتي»، ذاك الذي كان، وسيبقى، جدّةً مُطلقَةً، «كي يجعل كلّ شيء جديداً»"[13].
إنّ الخروج من الكنيسة يُضِلُّ، فالإيمان المسيحيّ القويم لا يُعاش إلاّ فيها في كنف الروح؛ ولكنّ الركون إلى الماضي فقط لا يضمن شيئاً، فالهراطقة ركنوا أيضاً إلى الماضي، وإلى الكتاب المقدّس، وكتابات الآباء وإلى المجامع المسكونيّة، بل أنّ بعضهم واجه البدع، ولكن ببدع أخرى؛ فأبولينير كان من المدافعين الشرسين عن مجمع نيقية، ولكن من أجل تأكيد ألوهيّة المسيح وقع في نفي إنسانيّته الكاملة؛ ونسطوريوس واجه أبولينير، ولكن من أجل التشديد على كامل إنسانيّة يسوع، وصل إلى فصلها عن الألوهة فيه فجعل الطبيعتين جنباً إلى جنب.
لهذا فالتقليد في الكنيسة في شركة الإيمان، لا يكون نقلاً جامداً لحرف أو لماضٍ، ولا بمجرّد الحماس ضدّ البدع، وإنّما بالركون للروح القدس الحيّ، روح الحقّ الحاضر، وهذا يعني التزام التقليد بشكل حيّ، متجدّد، ومُبدع، في الكنيسة، في كنف الروح.
نحن أمام خياران: إمّا تصنيمٌ وتأليهٌ للإنسانيّ والمحدود الذي يحمله التراث، بإلباسه قسراً لباس اللامحدود، أو القبول بمغامرة المحبّة والحرّية والإبداع في قلب الكنيسة، القبول بكنيسة حيّة، القبول بأن نكون، بالروح القدس، كالله حاملين صليب مغامرة الخلق، مغامرة المحبّة الحرّة والمبدعة مع ما يكتنفها من مخاطر موجودة بالضرورة في كلّ حياة. ألاّ نقبل المخاطر الرفيقة لكلّ حياة، والتي أخذها الله على عاتقه، هو أن نموت، وهو ألاّ نأخذ إيماننا على محمل الجدّ إلى نهايته: نهاية حَمْلِ حياة المسيح القائم المتفجّرة من القبر، إلى قلب هذا العالم المتغيّر، ليتجلّى كلّ يوم كوناً جديداً، فنرى تمتمات أرض جديدة، وسماء جديدة، وإنسان جديد حرّ مُحبّ وفَرِح، خادمٍ لعهدِ حبّ الله للبشر، عهد الحرّية والفرح والحياة، عهد الروح القدس لا عهد الحرف، "لأنَّ الحَرفَ يَقتُلُ ولكنَّ الرّوحَ يُحيي" (2 كور 3: 6).
خريستو المرّ
[1] N. KOULOMZINE, La Formation du Canon des Livres Néotestamentaire, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1987
[2] الكتاب المقدّس لم يتبدّل أمّا شرح الكتاب المقدّس قد تطوّر، وبات يستند اليوم، كما بات معروفاً، لا إلى الفكر الآبائيّ فقط، ولكن إلى العلوم المعاصرة أيضاً (تاريخ، لغة، آثار...) وإن كنّا نقرأ هذه كلّها في إطار التراث، أي في إطار الإيمان
[3] هكذا تردّد الغرب في قبول صحّة نسب "الرسالة إلى العبرانيّين" إلى بولس، ثمّ اعتبر المغبوط جيروم (345 - 420) كما المغبوط أغسطينوس (354 - 430) أنّ نسب الرسالة إلى بولس صحيح بناء على ثقتهم بالكنائس الشرقيّة التي تعترف بهذا النسب (اليوم نعرف بأنّ نسب الرسالة إلى بولس غير صحيح).
N. KOULOMZINE, Le Texte du Nouveau Testament dans la Tradition Chrétienne, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1987
[4] لمتابعة كيفيّة تطوّر الليتورجيا يمكن العودة للمرجع التالي:
A. SCHMEMANN, Introduction à la Théologie Liturgique, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1986
[5] يقول الأب أفاناسييف " كان مبدأ التكريس هو السيف الذي قطع نهائيّاً الجسم الكنسيّ...ما أن تسرّب الى الفكر اللاهوتيّ حتّى اعتُبِرَ جميع أعضاء الكنيسة "مكرّسون" (مقدّسين وكاملين يقابلهم الملحدون والناقصون، أي غير المنتمين إلى الكنيسة. واتّخذ السرّ الأساسيّ للتكريس شكل المعموديّة والميرون والإفخاريستيّة، لأنّ الإفخاريستيّة تقود كلّ الذين ناولا سرّ المعموديّة إلى "الطبقة المقدّسة"). وهذا الشكل من التكريس لم يتعارض بعد مع مذهب الكهنوت الملوكيّ، لأنّ التكريس يهدف إلى الإدخال في الكهنوت الذي استمرّ في كونه "الشعب المقدّس". ولكنّ المنطق الداخليّ لمذهب التكريس لم يستطع أن يحتفظ بهذا الشكل إلى النهاية. فتوصّل الفكر البيزنطيّ إلى استنتاج أنّ السرّ الحقيقيّ للتكريس ليس المعموديّة بل سرّ الكهنوت، فأصبحت أكثريّة "المكرّسين" (أعضاء الكنيسة) "غير مُكرّسَة" لأنّها لم تنل إلاّ سرّ المعموديّة، وصارت الحلقة القديمة من المكرّسين مؤلّفة من "دنيويّين". وهكذا تقلّصت الطبقة المقدّسة بإقصاء العلمانيّين عنها وحصرها بالإكليريكيّين الذين نالوا الرتب العليا.
ولم يعد من الضروريّ البحث في الفرق بين هاتين الفئتين من حيث خدمة كلّ منهما وموقعه الخاص (هذا الفرق ثانوي!) لأنّ الاختلاف بينهما هو [أي صار] اختلاف في الطبيعة: فالتكريس يغيّر طبيعة المكرَّس، كما تغيّر المعموديّة طبيعة من ينتمي إلى الكنيسة.
ن. أفاناسييف، كنيسة الروح القدس، منشورات النور، 1986، ص. 56 - 57
[6] A. SCHMEMANN, Introduction à la Théologie Liturgique, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1986, p. 71-73
[7] في تلك الفترة مثلاً، صار المطران يُنادى بلقب "السيّد" (سيّدنا)، وتبنّى المكارنى العلامات الإمبرطوريّة فصاروا يلبسون مثل حكّام المسيحيّين السابقين (الأباطرة)، فذخل إلى اللباس التاج وثوب الإمبرطور (sakkos). وكذلك بدأ أعضاء الإكليروس يطيلون شعورهم، في تلك المرحلة "علامة على سلطتهم الزمنيّة" كما يقول توماس هوبكو.
T. HOPKO, L'Église, les Sacrements, les Cycles Liturgique, les Fêtes, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe - Saint Serge, 1984, p. 7
[8] الكتاب الذي يحدّد محتوى الصلوات
[9] A. GALAKA, Pratique Liturgique, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe - Saint Serge, 2010, p. 12-15
[10] O. CLÉMENT, Présentation de l'Eglise Orthodoxe, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe de Saint Serge, 1985, p. 46
[11] فلاديمير لوسكي، "بحث في اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق"، تعريب نقولا أبو مراد، منشورات النّور، 2000، ص. 93
[12] G. MANTZARIDES, Orthodox Spiritual Life, Holy Cross Orthodox Press, 1994, p. 1-5
http://www.orthodoxlegacy.org/Year3/030704MantzaridesOrthodoxy.html
[13] إنّ قنداق عيد آباء المجمع المسكونيّ الأوّل يذكر بأنّ الكنيسة حفظت كرازة الرسل وعقيدة الآباء وبأنّها "تكشف وتمجّد سرّ التقوى الكبير"، وسرّ التقوى هو سرّ يسوع المسيح الذي يذكّر به بولس تيموثاوس "عظيمٌ هو سِرُّ التَّقوَى: اللهُ ظَهَرَ في الجَسَدِ، تبَرَّرَ في الرّوحِ، تراءَى لمَلائكَةٍ، كُرِزَ بهِ بَينَ الأُمَمِ، أومِنَ بهِ في العالَمِ، رُفِعَ في المَجدِ" (1 تيموثاوس 3: 16).
O. CLÉMENT, Présentation de l'Eglise Orthodoxe, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe de Saint Serge, 1985, p. 40-41
4 التراث نقل جامد للماضي أم تجاوب حاضر ديناميّ مع الروح القدس ؟لقد قلنا بضرورة التمييز بين مستويات مختلفة في التراث : مستوى العقيدة ومستوى الرأي، مستوى محتوى الحقيقة الإيمانيّة ومستوى التعبير الذي يرتبط بتاريخ وحضارة محدّدتين ومحدودتين. كما قلنا بضرورة التمييز بين المحدود واللامحدود في التراث، أي بين "خزف الآنية" وبين "الكنز" ورأينا بأنّ الحقيقة الإلهيّة تُعرَفُ بالعلاقة الشخصيّة مع المسيح في الكنيسة وهذا يعني انّ عيشها والتعبير عنها يقتضيان حركة انفتاح على الروح القدس.
إنّ الناظر إلى التاريخ الكنسيّ يرى إبداعات رائعة للتعبير عن الحقيقة الإلهيّة التي تسلّمناها، ويلاحظ ديناميّة كنسيّة آخّاذة، سنختصر شيئاً منها في ميداني اللاهوت والليتورجيا، اللذَين يوافق حتّى أصحاب الرأي الذي انتقدناه أنّهما تطوّرا.
4 .1 تطوّر اللاهوتلولا التمييز بين اللامحدود وفهمنا المحدود له، والتمييز بين فهمنا المحدود وبين تعبيرنا المحدود، لما كان للّاهوت والليتورجيا أن يتطوّرا عبر التاريخ بهدف إيضاح الإيمان الذي تسلّمناه بيسوع.
فعلى الصعيد اللاهوتيّ، نجد تطوّراً في النتاج اللاهوتيّ، بين مرحلة كتابة الأناجيل والرسائل، إلى الآباء الرسوليّين والآباء الدفاعيّين. وفي قرون لاحقة، نحت الآباء دستور الإيمان نحتاً، وعلى مراحل (م.325 – 787م.)، ومن خلال صعوبات شرحنا شيئاً منها فوق(الجزء 1)، مبتكرين نصّاً متماسكاً (دستور الإيمان) لإيمان عاشته الكنيسة عبر الليتورجيا، والتعليم، والكتابات، والكتاب. ونجد في القرن الرابع عشر صياغة القدّيس غريغوريوس بالاماس (1296 - 1359) لفكر لاهوتيّ حول القوى الإلهيّة (energy) التي تؤلّهنا وميّز بينها وبين الجوهر الإلهيّ غير المُدرَكك، وهو أتى بتعبير لاهوتيّ دقيق وجديد ولو أنّه مبنيّ على خبرة الكتاب المقدّس (خبرة موسى على الجبل، تجلّي يسوع على ثابور) وعلى تعابير وكتابات سابقة ومنها لآباء سبقوه (الأريوباغي، أثناسيوس الكبير، النيصصيّ، كيريللّس، مكسيموس...)، وعلى خبرة الكنيسة ومنها الخبرة الرهبانيّة (إيفاغريوس، مكاريوس). رغم اعتماد بالاماس على التراث، فإنّ صياغته اللاهوتيّة تبقى جديدة بالكلّية (ودليل الجدّة فيها هو أنّها مرفوضة غربيّاً). وحتّى اليوم يمكننا أن نرى في نتاج أكثر من إنسان نتاجاً آبائيّاً، يجيب انطلاقاً من التقليد وما بدا لنا من حقّ في عالم اليوم، على أسئلة أناس هذا العصر، وينقل إيمان الكنيسة الواحدة بلغة العصر، مضيفاً كشوفات جديدة، لآثار الله في هذا العالم. ومن هؤلاء، المطران جورج خضر، كوستي بندلي، أوليفيه كليمان، كاليستوس وير، أنطوني بلوم، وغيرهم.
4 .2 تطوّر الليتورجيانميّز في الكنيسة، وبسهولة، بين الكتاب المقدّس وبين الليتورجيا، فبينما لا نستطيع تغيير محتوى الكتاب المقدّس، فإنّ الواقع الكنسيّ هو أنّ الليتورجيا تبدّلت وتطوّرت عبر التاريخ. فبينما يعود ظهور أقدم قائمة للكتب القانونيّة في الكتاب المقدّس، إلى رسالة للقدّيس أثناسيوس الكبير من القرن الرابع[1]، وهي قائمة لم تتبدّل[2] رغم أنّ بعض الكنائس تردّدت في الإقرار بصحّة نسب هذا أو ذاك من الكتب[3]؛ فقد تطوّرت الليتورجيا عبر التاريخ، واليوم نحن نزيد عليها (في آب 2011، قرّرت الكنيسة الروسيّة زيادة صلاة من أجل تعزية أهالي المنتحرين)، ونختصر منها (حاليّاً الصلوات التي تقام في الرعايا هي أقصر من تلك التي تقام في الأديار).
على الصعيد الليتورجيّ، لم تكتف الكنيسة بما بدأت به، بل طوّرت ليتورجيّتها عبر الزمن، منطلقة من التراث اليهوديّ. ولا تجد الكنيسة تعارضاً بين الإخلاص للتقليد وبين تطوير الممارسة الليتورجيّة، فالتغيير في الممارسة الليتورجيّة كان متواصلاً عبر التاريخ وإلى اليوم[4]. هكذا، تطوّرت الصلوات ووضعت الأصوام، وأضيف كلّ الإبداع البيزنطيّ (صلوات، عمارة، أيقونات، موسيقى)، كما دخلت على الليتورجية البيزنطيّة تعبيرات نتجت عن إنحرافات لاهوتيّة تقتضي تصحيحاً في زمننا (مثل رؤية التكريس في الكهنوت حصراً[5]، وبالتالي منع العلمانيّين من دخول الهيكل مبنى الكنيسة باستثناء الامبرطور[6] بينما المسيحيّون هم هيكل الله الحيّ (2 كور 6: 16)، والأيقونسطاس، وتلاوة الأفاشين بصوت منخفض).
وفي القرن الخامس عشر، بعد وقوع بيزنطيّة تحت الحكم العثمانيّ، طرأت إضافات عديدة على ثياب المطران، فاتّخذ الكثير من مظاهر الإمبرطور البيزنطيّ (التاج مثلاً)، بعد أن غدا المطران ممثّلاً مدنيّاً للشعب الأرثوذكسيّ في الدولة العثمانية[7].
أمّا حاليّاً، فمن مظاهر الديناميّة في الليتورجيا، هو أنّ التيبيكون الحاليّ[8]، يُتَّبَعُ بطريقتين واحدة مختصرة في الرعايا وأخرى مطوّلة في الأديار. وقد تطوّرت خلال التاريخ ثلاث أنواع من التيبيكون، فأنتجت الكنيسة (1)تيبيكون كاتدرائيّ في بيزنطية كان يُصّلّى في الكاتدرائيّات، (2)وتيبيكون"ستودّي" مستوحى من تقليد أديار القسطنطينيّة وبشكل خاص من دير ستوديون (studion) وقد دخل عليه لاحقاً تقليد الأديار الفلسطينيّة، (3)وأخيراً التيبيكون "السابائيّ" الأورشليميّ المتأثّر بدير سابا؛ وهذا الأخير هو أساس التيبيكون الحاليّ المعتمد بنسختين: واحدة مطوّلة تتبعها الدول السلافيّة، وأخرى مختصرة تتّبعها أنطاكيا وأورشليم والاسكندريّة وقبرص واليونان وبلغاريا[9].
4 .3 الجِدّة والإخلاص: مثال يحتذىهذا التصرّف الكنسيّ والآبائيّ الذي طوّر في اللاهوت والليتورجيا، أبدع لاهوتاً وتعابيراً كانت جميعها ضروريّة لتثبيت الإيمان وتوضيحه، ولنَقَلَه بلغة العصر، وذلك كي يبقى خلاص الإنسان محفوظاً، أي كي تبقى إمكانيّة التألّه مفتوحة أمام الإنسان. ما كان للتقليد أن يكون لو تجمّد الآباء وجمّدوا ما كان موجوداً في الكنيسة منذ بدايتها، ما كان للتقليد اليوم أن يكون لو لم يجدّد الآباء في التقليد الذي تسلّموه.
إذا أخذنا المجمع المسكونيّ الأوّل (نيقية)، نرى مثالاً ساطعاً على روح التجديد التي كان ينتهجها الآباء في التراث، مع الإخلاص الكامل للإيمان. ففي المجمع المسكونيّ الأوّل رفض بعض الحاضرين إدخال مطلق أيّة صياغة عقائديّة على الكنيسة، ومالوا إلى عدم كتابة أيّ تحديد عقائديّ؛ ولكن كسر الجمود العديد من الآباء وعلى رأسهم القدّيس إسكندر الاسكندري، بدعوتهم إلى ضرورة ابتكار عبارات جديدة، وتثبيت الإيمان كتابةً، فتبنّوا عبارة "المساوي في الجوهر" التي كان يستعملها الغنوصيّون في بدعهم(!)، مستعملينها في إطار جديد، ومعنى جديد، يختصّ بعلاقة الإبن بالآب. وقد اقتنع الآباء الحاضرين بذلك فكانت بداية رحلة كتابة دستور الإيمان.
هذا هو المثال الذي يجب أن نحتذيه، مثال مجمع نيقية الذي ذهب إلى "قمّة الجرأة"، بتعبير الأب أندريه سكريما[10]، فنجْمع اليوم أيضاً الجِدَّة بالإخلاص.
5 خلاصةإنّ الآباء لم يكتفوا فقط بما وصل إليهم، بل نحتوا معانٍ جديدة من ألفاظ موجودة في اللغة المتوفّرة لديهم، هذه اللغة كانت ناتجة عن علوم عصرهم (كالفلسفة)، واستخدموها لكي يقولوا حقائق إلهيّة عاشوها في الكنيسة، والتقليد المتوفّر لديهم.
لذلك فنحن لا نرى تعارضاً بين الإخلاص للتقليد وبين الجدّة اللاهوتيّة، وما يقتضيه ذلك من تطوير للخطاب واللغة والأسلوب، وتطوير للّيتورجيا، وتتبّع لآثار الله في خليقته لم نفطن لها قبلاً، وقراءة لعلاماتِ هذه الأزمنة لنرى مايقوله الروح للكنائس اليوم. فنحن يمكننا :
1- أن نقول الأمور نفسها التي قالها الآباء بطريقة جديدة: مثلاً ما الذي يمنع من أن نقول أنّ الناس خدّام لله في خلقِه، عوض ان نقول أنّهم عبيد لله؟ أليس المعنى هو نفسه؟ أليس المطلوب هو أن ننقل الحقيقة الإلهيّة إلى هذا الإنسان الذي يعيش "هنا والآن"، والذي تمثّل له العبوديّة نظاماً لا أخلاقيّاً ولا إنسانيّاً؟ أين الخيانة للحقيقة الإيمانيّة أن نستخدم تعابير يفهمها إنسان اليوم؟ أو ليس رفض تغيير التعابير هو الذي يوقعنا بالخيانة لروح الآباء المتوثّبة والمبتكرة لتعابير جديدة في عصرهم؟
2- أن نساهم في التطوّر الليتورجيّ، فالتطوّر الليتورجيّ واضح المعالم تاريخيّاً ولو أنّه تمّ بتروٍّ. إنّ أيّ تغيير اليوم لا يخرج عن منحى التغيير الذي كان حاضراً في الكنيسة. اليوم، تطرح الممارسة الليتورجيّة أسئلة على المؤمنات والمؤمنين. مثلاً، يطرح البعض، ومنذ زمن بعيد، مشكلة المناولة عن طريق الملعقة وما يمكن أن تسبّبه من انتقال للأمراض. ليس صحيحاً أنّ المناولة في الكنيسة كانت منذ البدء كما هي اليوم، فالمناولة قديماً كانت تتمّ بطريقة مختلفة عن اليوم، إذ كان المؤمنون يأخذون من الكاهن قطعة من القربان المتحوّل، من ثم يشربون مباشرة من الكأس. اليوم هل نحتاج لطريقة أخرى في المناولة؟ مجرّد طرح السؤال يبدو كفراً بنظر البعض. ومع ذلك فالممارسة تتغيّر اليوم، إذ نرى أنّ بعض الإخوة يفتحوا أفواههم كي لا يلامسوا الملعقة، وكهنة يتجاوبون مع هذا التصرّف. البعض الآخر يطرح قضايا اللغة والترجمة، وآخرون يطرحون موضوع العماد بالتغطيس، إلخ. هناك أسئلة جدّية تتناول بعض القضايا الطقسيّة لا يمكن للكنيسة أن تتجاهلها وترفض أن تواجهها وتكون في نفس الوقت أمينة للتقليد! هل نجد في نهاية الأمر أجوبة وممارسات أخرى غير الحاليّة، أم نقتنع بممارساتنا الموجودة؟ لست أدري؛ ولكن إيمانيّاً لا يجوز ألاّ نطرح الأسئلة، ولا يجوز ألاّ نسمح بطرحها، ولا يجوز ألاّ نبحث عن أجوبة.
3- أن نكتشف أموراً جديدة متوافقة مع إيماننا، لم يفطن لها الآباء، ليس لأنّنا أفضل أو أقدس ولكن لأنّ الله، بالعقل والقلب اللذين أعطانا إيّاهما، يمكنه أن يكشف لنا أموراً جديدة، بهدي روحه القدس، وبواسطة ما نثره من حقائق في علوم عصرنا. مثلاً، كيف كان لأحد الآباء أن يتحدّث عن علاقة الرضاعة والفميةّ بالصوم، والرغبة بالحنان، وعلاقة كلّ هذا بالمحبّة وبالله وبالرهبنة، إن لم يكن قد عرف معطيات علوم النفس؟
4- أن نرى ماذا يقول لنا إيماننا اليوم أمام تحدّيات عصرنا. ما هو موقفنا الإيمانيّ من الطائفيّة والتدمير، للإنسان والأوطان، الذي ينتج عنها؟ هذا أمر يكاد يكون قضيّة حياة وموت اليوم، ولن نجد في التراث إجابة لأنّ الموضوع لم يكن مطروحاً عند فلان أو فلان من الآباء.
إنّ "التقليد ليس إيداعاً جامداً أو ميّتاً، ولكنّه حياة روح الحقّ نفسه الذي يعلّم الكنيسة"، كما يقول فلاديمير لوسكي[11]. إذ "ليست الأرثوذكسية جامدة ولا مقاومة للتغيير، إنّها مليئة بالقوة والنشاط وتقليدية في الوقت نفسه. فالتقليدية ليست المحافَظة بل الإبداع، ليست حالة بل حياة"، كما يقول أستاذ اللاهوت في جامعة تسالونيكي جورج مانتزاريذيس[12].
لهذا يؤكّد أوليفيه كليمان بأنّ من مسؤوليّة المؤمنين‑الكنيسة أن يبتكروا كلمات جديدة لنقل الإيمان، وهذه " «الكلمات الجديدة» التي من واجب الكنيسة أن تخلقها بتناغم خلاّق مع الكرازة الأولى، لا يمكن أن تتجاهل ولا أن تنقض كلمات «الآباء» السابقين، وإنّما تتآلف معها كسيمفونيّة موحاة... شرط أن لا ترَدَّد تلك الكلمات [التي للآباء] وتُمَنهَج... بل أن نعرف كيف نكشف النار التي تحتويها لنخلق، بتناغمٍ حيّ معها، تلك «الكلمات الجديدة» حيث كلّ جيل، كلّ لحظة، كلّ مكان، وفي النهاية كلّ شخص - في شركة -... يساهم بتمجيده الخاص [لله]، وبدوره «يكشف ويمجّد سرّ التقوى الكبير». عندها، وعندها فقط، يجد «الآباء» خصوبتهم - على صورة الآب السماويّ الذي، منذ الأزل، يريد الإبن مساوياً له – وعندها يُبرهِن تقليدُ الكرازةِ [الرسوليّة] بأنّه ليس مجرّد نقل، وإنّما انفتاح على الأبديّة الحيّة والجديدة دائماً، لـ«ذاك الذي يأتي»، ذاك الذي كان، وسيبقى، جدّةً مُطلقَةً، «كي يجعل كلّ شيء جديداً»"[13].
إنّ الخروج من الكنيسة يُضِلُّ، فالإيمان المسيحيّ القويم لا يُعاش إلاّ فيها في كنف الروح؛ ولكنّ الركون إلى الماضي فقط لا يضمن شيئاً، فالهراطقة ركنوا أيضاً إلى الماضي، وإلى الكتاب المقدّس، وكتابات الآباء وإلى المجامع المسكونيّة، بل أنّ بعضهم واجه البدع، ولكن ببدع أخرى؛ فأبولينير كان من المدافعين الشرسين عن مجمع نيقية، ولكن من أجل تأكيد ألوهيّة المسيح وقع في نفي إنسانيّته الكاملة؛ ونسطوريوس واجه أبولينير، ولكن من أجل التشديد على كامل إنسانيّة يسوع، وصل إلى فصلها عن الألوهة فيه فجعل الطبيعتين جنباً إلى جنب.
لهذا فالتقليد في الكنيسة في شركة الإيمان، لا يكون نقلاً جامداً لحرف أو لماضٍ، ولا بمجرّد الحماس ضدّ البدع، وإنّما بالركون للروح القدس الحيّ، روح الحقّ الحاضر، وهذا يعني التزام التقليد بشكل حيّ، متجدّد، ومُبدع، في الكنيسة، في كنف الروح.
نحن أمام خياران: إمّا تصنيمٌ وتأليهٌ للإنسانيّ والمحدود الذي يحمله التراث، بإلباسه قسراً لباس اللامحدود، أو القبول بمغامرة المحبّة والحرّية والإبداع في قلب الكنيسة، القبول بكنيسة حيّة، القبول بأن نكون، بالروح القدس، كالله حاملين صليب مغامرة الخلق، مغامرة المحبّة الحرّة والمبدعة مع ما يكتنفها من مخاطر موجودة بالضرورة في كلّ حياة. ألاّ نقبل المخاطر الرفيقة لكلّ حياة، والتي أخذها الله على عاتقه، هو أن نموت، وهو ألاّ نأخذ إيماننا على محمل الجدّ إلى نهايته: نهاية حَمْلِ حياة المسيح القائم المتفجّرة من القبر، إلى قلب هذا العالم المتغيّر، ليتجلّى كلّ يوم كوناً جديداً، فنرى تمتمات أرض جديدة، وسماء جديدة، وإنسان جديد حرّ مُحبّ وفَرِح، خادمٍ لعهدِ حبّ الله للبشر، عهد الحرّية والفرح والحياة، عهد الروح القدس لا عهد الحرف، "لأنَّ الحَرفَ يَقتُلُ ولكنَّ الرّوحَ يُحيي" (2 كور 3: 6).
خريستو المرّ
[1] N. KOULOMZINE, La Formation du Canon des Livres Néotestamentaire, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1987
[2] الكتاب المقدّس لم يتبدّل أمّا شرح الكتاب المقدّس قد تطوّر، وبات يستند اليوم، كما بات معروفاً، لا إلى الفكر الآبائيّ فقط، ولكن إلى العلوم المعاصرة أيضاً (تاريخ، لغة، آثار...) وإن كنّا نقرأ هذه كلّها في إطار التراث، أي في إطار الإيمان
[3] هكذا تردّد الغرب في قبول صحّة نسب "الرسالة إلى العبرانيّين" إلى بولس، ثمّ اعتبر المغبوط جيروم (345 - 420) كما المغبوط أغسطينوس (354 - 430) أنّ نسب الرسالة إلى بولس صحيح بناء على ثقتهم بالكنائس الشرقيّة التي تعترف بهذا النسب (اليوم نعرف بأنّ نسب الرسالة إلى بولس غير صحيح).
N. KOULOMZINE, Le Texte du Nouveau Testament dans la Tradition Chrétienne, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1987
[4] لمتابعة كيفيّة تطوّر الليتورجيا يمكن العودة للمرجع التالي:
A. SCHMEMANN, Introduction à la Théologie Liturgique, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1986
[5] يقول الأب أفاناسييف " كان مبدأ التكريس هو السيف الذي قطع نهائيّاً الجسم الكنسيّ...ما أن تسرّب الى الفكر اللاهوتيّ حتّى اعتُبِرَ جميع أعضاء الكنيسة "مكرّسون" (مقدّسين وكاملين يقابلهم الملحدون والناقصون، أي غير المنتمين إلى الكنيسة. واتّخذ السرّ الأساسيّ للتكريس شكل المعموديّة والميرون والإفخاريستيّة، لأنّ الإفخاريستيّة تقود كلّ الذين ناولا سرّ المعموديّة إلى "الطبقة المقدّسة"). وهذا الشكل من التكريس لم يتعارض بعد مع مذهب الكهنوت الملوكيّ، لأنّ التكريس يهدف إلى الإدخال في الكهنوت الذي استمرّ في كونه "الشعب المقدّس". ولكنّ المنطق الداخليّ لمذهب التكريس لم يستطع أن يحتفظ بهذا الشكل إلى النهاية. فتوصّل الفكر البيزنطيّ إلى استنتاج أنّ السرّ الحقيقيّ للتكريس ليس المعموديّة بل سرّ الكهنوت، فأصبحت أكثريّة "المكرّسين" (أعضاء الكنيسة) "غير مُكرّسَة" لأنّها لم تنل إلاّ سرّ المعموديّة، وصارت الحلقة القديمة من المكرّسين مؤلّفة من "دنيويّين". وهكذا تقلّصت الطبقة المقدّسة بإقصاء العلمانيّين عنها وحصرها بالإكليريكيّين الذين نالوا الرتب العليا.
ولم يعد من الضروريّ البحث في الفرق بين هاتين الفئتين من حيث خدمة كلّ منهما وموقعه الخاص (هذا الفرق ثانوي!) لأنّ الاختلاف بينهما هو [أي صار] اختلاف في الطبيعة: فالتكريس يغيّر طبيعة المكرَّس، كما تغيّر المعموديّة طبيعة من ينتمي إلى الكنيسة.
ن. أفاناسييف، كنيسة الروح القدس، منشورات النور، 1986، ص. 56 - 57
[6] A. SCHMEMANN, Introduction à la Théologie Liturgique, Paris, Institut de Théologie de Saint Serge, 1986, p. 71-73
[7] في تلك الفترة مثلاً، صار المطران يُنادى بلقب "السيّد" (سيّدنا)، وتبنّى المكارنى العلامات الإمبرطوريّة فصاروا يلبسون مثل حكّام المسيحيّين السابقين (الأباطرة)، فذخل إلى اللباس التاج وثوب الإمبرطور (sakkos). وكذلك بدأ أعضاء الإكليروس يطيلون شعورهم، في تلك المرحلة "علامة على سلطتهم الزمنيّة" كما يقول توماس هوبكو.
T. HOPKO, L'Église, les Sacrements, les Cycles Liturgique, les Fêtes, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe - Saint Serge, 1984, p. 7
[8] الكتاب الذي يحدّد محتوى الصلوات
[9] A. GALAKA, Pratique Liturgique, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe - Saint Serge, 2010, p. 12-15
[10] O. CLÉMENT, Présentation de l'Eglise Orthodoxe, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe de Saint Serge, 1985, p. 46
[11] فلاديمير لوسكي، "بحث في اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق"، تعريب نقولا أبو مراد، منشورات النّور، 2000، ص. 93
[12] G. MANTZARIDES, Orthodox Spiritual Life, Holy Cross Orthodox Press, 1994, p. 1-5
http://www.orthodoxlegacy.org/Year3/030704MantzaridesOrthodoxy.html
[13] إنّ قنداق عيد آباء المجمع المسكونيّ الأوّل يذكر بأنّ الكنيسة حفظت كرازة الرسل وعقيدة الآباء وبأنّها "تكشف وتمجّد سرّ التقوى الكبير"، وسرّ التقوى هو سرّ يسوع المسيح الذي يذكّر به بولس تيموثاوس "عظيمٌ هو سِرُّ التَّقوَى: اللهُ ظَهَرَ في الجَسَدِ، تبَرَّرَ في الرّوحِ، تراءَى لمَلائكَةٍ، كُرِزَ بهِ بَينَ الأُمَمِ، أومِنَ بهِ في العالَمِ، رُفِعَ في المَجدِ" (1 تيموثاوس 3: 16).
O. CLÉMENT, Présentation de l'Eglise Orthodoxe, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe de Saint Serge, 1985, p. 40-41