خريستو المرّ
في الجزء الأوّل من هذه الورقة حاولنا أن نبيّن بأنّ التراث يحتوي مستويات مختلفة :
- مستوى العقيدة ومستوى الآراء اللاهوتيّة في الكنيسة
- مستوى التغيير في التعبير عن العقيدة ومستوى التغيير في محتوى العقيدة نفسها
ورأينا بأنّ الأمانة للتقليد، المخلصة للإيمان وللآباء، تقتضي عدم الجمود وتقتضي ابتكار فكر لاهوتيّ جديد مخلص للتراث، ويجيب عن أسئلة جديدة مطروحة على ضمير المؤمنات والمؤمنين؛ وأنّ هذا الابتكار الدائم هو تعبير عن الثقة بحضور الروح القدس في الكنيسة ويتمّ في قلبها.
في الجزء الثاني هذا نناقش بأنّ التقليد هو حركة دائمة في الروح.
3 الحقيقة الإلهيّة حركة دائمة في الروحإنّ أصحاب الرأي المُجَمِّدِ للتراث يرون ملء الحقيقة الإيمانيّة في كلّ ما قاله الآباء ماضياً، لكنّه من المعروف بأنّ "هناك قدّيسون عديدون بل وأيضاً آباء في الكنيسة تقدّموا بأفكار حَكَم عليها المسيحيّون لاحقاً بأنّها غير دقيقة أو خاطئة"، وأنّ "كتابات آباء الكنيسة لا تخلو من الأخطاء، ولقد قيل بأنّه في كتابات أيّ واحد منهم، يمكن إيجاد آراء يمكن أن يُشكّ بصحّتها على ضوء ملء تراث الكنيسة"، كما يقول الأستاذ في معهد اللاهوت الأرثوذكسيّ في معهد القدّيس فلاديمير، توماس هوبكو[1].
ثمّ إن كان مسعى كلّ حاملي التراث والمساهمين به هو أن ينقلوا الحقيقة الإيمانيّة عن الله وعلاقته بالناس، ومسعى المؤمن اليوم هو أن "يعرف" هذه الحقيقة، فإنّ معرفة الحقيقة الإلهيّة لا يمكنها أن تكون إلاّ على شاكلة المعرفة الإنجيليّة، أي هي معرفة العلاقة؛ ولذا فهي تعتمد على علاقتنا بالله، على محبّتنا لله كمؤمنين، أي ككنيسة، في هدى الروح القدس. وهذا بالضبط الجذر الذي منه انطلق الرسل والقدّيسين والآباء لنقل الحقيقة الإلهيّة في التراث، إذا مساهمتهم كانت مبنيّة على هذه العلاقة‑المعرفة بالله.
هكذا، فإنّ عيش واكتشاف الحقيقة الإلهيّة، كما ونقلها، هو حياة ديناميّة يحياها المؤمنون في كلّ زمن وليس أمراً جامداً منتهياً.
3 .1 الحقيقة الإلهيّة حركة وحيٍ وليست إنزالاًهذه الديناميّة أشار إليها يسوع في خطابه إلى الآب، إذ قال "عرّفتهم اسمك وسأعرّفهم أيضاً" (يو 17: 24)؛ هذا يعني أنّ معرفة اسم الله، معرفة الله، معرفة الحقيقة الإلهيّة، ليست أمراً انتهى في الماضي وإنّما أمرٌ ديناميّ، سيعرّفنا عليه يسوع. فالروح القدس سيقودنا إلى معرفة الله، إلى "كمال" هذه المعرفة في الكنيسة، من خلال حضوره فينا ومن خلال المسيحيّات والمسيحيّين المحبّين لله، وذلك في كلّ زمن.
إنّ الحقيقة الإلهيّة، محور التراث، هي أمامنا وفينا أيضاً وليست فقط خلفنا، فيسوع نفسه أبلغنا بأنّه "مَتَى جاءَ ذاكَ، روحُ الحَقّ، فهو يُرشِدُكُمْ إلى جميعِ الحَقّ"(يو 16: 13)، ممّا يعني أنّ جميع الحقّ هو تقدّم إلى الأمام بهدى الروح. كلمة يسوع هذه تشكّل لنا دعوة دائمة ومفتوحة لاكتشاف الوجوه الجديدة التي تبدو لنا اليوم من الحقيقة الإلهيّة، وذلك بإرشاد الروح القدس، الفاعل في الكنيسة كلّ يوم.
يقول يسوع "إذا ثَبَـتُّم في كلامي، صِرتُم في الحَقيقةِ تلاميذي، تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يو 8: 31 - 32)؛ المسيح إذاً هو أساس إيماننا ومعرفتنا العلائقيّة لله، للحقيقة الإلهيّة، "فإنَّهُ لا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَضَعَ أساسًا آخَرَ غَيرَ الَّذي وُضِعَ، الَّذي هو يَسوعُ المَسيحُ"(1كو 3، 11). من هنا إنّ دور التراث هو أن يضعنا في خطّ الحقيقة الإلهيّة، بوضعنا في خطّ الوحدة مع المسيح. أمّا كمال معرفتنا لمقاصد الله ولعمله في الكون (وهذان جزء من الحقيقة الإلهيّة)، وكمال التعبير عن الحقيقة الإلهيّة (عن العقيدة كما وعن مقاصد الله وعمله[2])، وكمال معرفتنا للمسيح‑الحقّ (أساس الإيمان)، فهي كمالات أمامنا دائماً، أو بتعبير أدقّ هي خبرة حاضرةٌ وديناميّةٌ "تمتدّ إلى الأمام"[3]؛ فالله هو أوسع وأشمل من كلّ ما نعرفه ونكتشفه عنه، والعلاقة معه سرّ محبّة لا قعر لها.
الحقيقة هي المسيح، فهو "الطريق والحقّ والحياة". ولكن إن كان هو الحقّ فهو أيضاً الطريق، أي أنّ العلاقة معه، "معرفته"، هي مسيرة حياة وليس جمود وانخطاف إلى الماضي، وتأبيد للماضي ولتعابير الماضي. الماضي يحمل حقيقة يسوع، ولكن لا يكشف كلّ أوجهها. التقليد يحمل الحقيقة الإلهية كنزاً في آنية خزفيّة (2 كو 4: 7)، وفي الحاضر يمكننا نحن أيضاً أن نحمل هذه الحقيقة، فنعبّر عنها، ونكتشف أوجهاً جديدة منها (كمقاصد الله، وآثار عمله)، ولكن نحملها ونكتشف "في آنية خزفيّة"، فنحن أيضاً لا نحمل الحقيقة كاملة. ويأتي بعدنا من يسير في نفس خطّ كشف الحقيقة الإلهيّة، إلى أن يأتي كمال الملكوت الحاضر، فيزيل الله الحجب، ونراه وجهاً لوجه وليس كما في لغز. وحتّى في ذلك اليوم لن نحيا من الحقيقة الإلهيّة إلاّ ما يسمح به وضعنا كمخلوقين أن نحياه (فالجوهر الإلهيّ سيبقى خارج أيّ نوع من أنواع الإدراك البشريّ).
3 .2 الحقيقة الإلهيّة ليست محصورة وإنّما حياة في كنف الروح القدسهكذا، فالحقيقة الإلهيّة ليست محصورة، فهي حياة في المسيح، والمعرفة الحقيقيّة الممكنة هي معرفة العلاقة به. المسيح لا يحصره الكتاب المقدّس ولا الماضي، ولهذا الآباء ارتكزوا إلى الكتاب، ولكن أيضاً إلى الليتورجيا، وإلى كتابات من سبقوهم، وإلى الكنيسة كحاملة للحقيقة، وإلى الفلسفة وعلوم عصرهم، وارتكزوا أوّلاً إلى إرشاد الروح القدس الذي فيهم، وإلى صورة الله التي فيهم (من عقل وحرّية)، لكي يكتبوا بتعابير جديدة عن الحقيقة الإيمانيّة التي يحملها التقليد. وهم رغم إخلاصهم وقعوا أحياناً في أخطاء وغموض في التعابير، لكن هذا لم يخفّف شيئاً من مساهماتهم اللاهوتيّة وقداستهم (من منّا يوافق النيصصي اليوم على رأيه بوجود شيء من مطهر بعد القيامة، أو رأيه، الشبيه برأي أوريجنّس، بحتميّة خلاص الجميع في الملكوت بعد فترة تطهّر بالآلام[4]).
الحقيقة الإلهيّة لايحصرها زمن، ولا مكان، ولا خبرة، لقد أُعطِيَت للبشر في المسيح، ونتقدّم مكتشفينها في الطريق الذي هو المسيح، في كنف الروح القدس، في الكنيسة. وقولنا هذا ينسجم مع ما تعلّمناه من الآباء، فقد كان النزينزي مثلاً يرى بأنّ يسوع المسيح علّم التلاميذ بتدرّج، وبأنّه كشف ألوهة الروح القدس بتدرّج إلى أن كُشِفَت هذه الحقيقة الكاملة من قِبَل الروح القدس نفسه بعد القيامة والعنصرة، وأشار النزينزي إلى أنّ هناك تعاليم وحقائق أخرى يكشفها الله لنا بتدرّج[5].
3 .3 ضرورة التمييز بين المحدود واللامحدودإنّنا نعتقد بأنّ هناك تمييزَيْن قد يساعدانا على جلاء رؤيتنا في موضوع التقليد الكنسيّ، ألا وهما:
1- التمييز بين الحقيقة الإلهيّة التي لا يمكن حصرها، وبين كلماتنا وتعابيرنا وفهمنا المحدود لها
2- والتمييز بين فهمنا المحدود للحقيقة الإلهيّة، وبين الأسلوب التعبيريّ المحدود عن فهمنا المحدود
هذان التمييزان يُصالحا بين الماضي والحاضر، ويجعلانا ننظر إلى التراث-التقليد كأمر نستلمه ونجدّده بشكل دائم، وضروريّ. فالتمييز بين الحقيقة الإلهيّة وبين فهمنا المحدود لها يعني أنّ علينا دائماً أن "نمتدّ إلى الأمام" كي نفهم الحقيقة بشكل أوضح وأعمق، وبالتالي علينا أن نقبل بأنّه يمكننا ككنيسة أن نكتشف في حاضرنا وماضينا أوجهاً للحقيقة، للـ"الإيمانِ المُسَلَّمِ مَرَّةً للقِدّيسينَ" (يهوذا 1: 3)[6]، لم تكن قد بدت لنا وللآباء قبلنا. أمّا التمييز بين فهمنا المحدود للحقيقة الإلهيّة وبين الأسلوب التعبيريّ المحدود عمّا فهمناه، فيدفعنا إلى استخدام تعابير جديدة (أساليب) لا تخون فهمنا الأساس (المعاني، العقائد) للتراث.
أحياناً نقرأ دعوات إلى التواضع أمام نتاج الأباء على أساس أنّهم قدّيسون، وعلى أساس أنّنا يجب أن نشعر بالمحدوديّة أمام عظمة الآباء؛ وبأنّ الآباء ليس لديهم آراء وإنّما تعليم وبأنّنا بالتالي يجب أن نقبل كلّ ما قالوه لأنّه فكر المسيح. إنّ هكذا دعوات على ما يبدو فيها ظاهريّاً من صحّة، هي دعوات ملتسبة جدّاً وخاطئة؛ إذ عدا أنّها لا تقيم اعتباراً للتراث الأرثوذكسيّ الذي يقرّ بوجود آراء لاهوتيّة قابلة للنقاش في الكنيسة طالما هي لا تطاول العقيدة؛ فإنّها تقيم تقابلاً بين "محدوديّة" من جهة (جهتنا) و"عظمة" من جهة أخرى (جهة الآباء)؛ أي أنّها لا ترى محدوديّة في نتاج الآباء، بل عظمة تامّة (ولهذا يقابل أصحاب هذا الرأي عظمة الآباء بمحدوديّتنا). لكنّ الحقيقة هي أنّ كلّ صنع بشريّ ولو أنّه مصنوع بوحي من الروح، يبقى محدوداً، ولا يوجد سوى الله غير محدود؛ لذا فتراث الآباء هو محدود بطبيعته[7].
النظرة إلى نتاج الآباء على أنّه لا محدود نظرة تخلط بين الله كمطلق، وبين النتاج الإنسانيّ‑الإلهيّ كتآزر (سينرجيّة)، والذي هو محدود بالطبيعة، يحمل الكنز في آنية من خزف ولهذا يختلط فيه الكنز بطينٍ علق من ثقافة العصر ومن محدوديّة الإنسان كمخلوق. المشكلة في نظرةٍ كهذه إلى التراث هي أنّها نظرة مونوفيزيّة (دون أن يدري أصحابها)؛ فهي نظرة تبتلع الإنسانيّ في الإلهيّ، إذ تظنّ أنّ حضور الله في الآباء يلغي ويبتلع محدوديّتهم، والواقع أنّ للآباء نفس بشريّة محدودة بطبيعتها، ومعقّدة، ويعتريها النقصان رغم قداستها، وللآباء لغة محدودة بقدرتها على التعبير عن الحقيقة الإلهيّة، ومحدودة بمعرفتها المحدودة لحقائق هذا الكون المحدودة أصلاً.
إن كان الخطر عند الناس البعيدين عن الكنيسة هو تأليه العلوم، فالخطر عند المخلصين الذين هم في الكنيسة يأتي من الانزلاق إلى تأليه التقليد ونسيان أنّه في النهاية نتاج إنسانيّ‑إلهيّ. التقليد الذي تسلّمناه كنتاج إنسانيّ‑إلهيّ هو تعبير محدود عن الحقيقة الإلهيّة، وهذه الحقيقة تبقى أشمل وأوسع من التعابير المختلفة عنها. التقليد الكنسيّ هو تقليد حيّ، هو التيّار الحيّ للروح القدس الذي لا يمكننا أن نجمّده نهائيّاً في تعابير وأفكار. النيصصيّ كان واضحاً بقوله أنّ "الأفكار[عن الله] تنشئ أصناماً، وحده الذهول يُدرِكُ شيئاً"؛ الأفكار ليست الله، والعقيدة المعبّر عنها في الكلمات هي في النهاية تعبير فكريّ (رغم أنّ العقيدة لتكون صحيحة يجب أن تكون مُعاشة حياةً متجسّدة في كنيسة الروح القدس).
لقد شدّد التقليد الكنسيّ على اللاهوت التنزيهيّ الذي يرفض كلّ تحديد عن الله، مع تشديده على اللاهوت الإيجابيّ الذي يتكلّم عن الله بتحديدات معيّنة (كأن نقول أنّ الله محبّة). التقليد الذي تسلّمناه كنتاج إلهيّ‑إنسانيّ هو محدود، الله وحده لا محدود ولا يسعه شيء. حتّى التحديدات العقائديّة، وهي أكثر ما في التقليد حساسيّةً بعد الإنجيل، كانت ضروريّة فقط كي نعرف اليوم نحن بماذا نؤمن وندافع عن الإيمان القويم، كي نحفظ أسس الإيمان القويم فنبقى بعلاقة مع الله الحيّ، ولم تكن كي نعود إليها كأمر لا محدود، وإلاّ تحوّلت أصناماً كما أشار النيصصيّ. يجب أن نعيش التقليد (بما يحتويه من عقائد) علاقةً شخصيّة مع المسيح، في الروح القدس، في الكنيسة، وأن نعبّر عن هذه العلاقة، عن الحقّ الحاضر فينا ككنيسة، في اليوم الحاضر، بلغة الحاضر وأطر الحاضر ووسائل الحاضر.
إنّ دعوةً إلى الإحساس بمحدوديّتنا، أمام "عظمةٍ" للآباء تبدو ولكأنّها كمال، هي غير صائبة كنسيّاً. من هنا قولنا بأنّه يجب أن نميّز في التراث بين الإطار الذي يرتبط بتاريخ وحضارة محدودتين، وبين الحقيقة الإيمانيّة، بين المحدود واللامحدود.
3 .4 اكتشاف الحقيقة الإلهيّة يقتضي القبول بمغامرة الحياةلا شكّ أنّ هذه الرؤية مُقلِقَة ومخيفة، لأنّ الأخطار تحتفّ بها، أخطار الأهواء التي يمكنها أن تحجب عنّا نور الله[8]. ولهذا نتفهّم مخاوف من يقرأ هذه السطور ومن يلجأ إلى الموقف اللاهوتيّ الذي يريد تجميد التقليد، لكن هذا التفهّم لا يعني موافقة، لأنّ ذلك الموقف خَطِر. علينا تجاوز الخوف، لأنّنا إن بقينا في الخوف نصير إلى عبوديّة؛ لقد شاركنا يسوع طبيعتنا ليحرّر"الَّذينَ - خَوفًا مِنَ المَوتِ - كانوا جميعًا كُلَّ حَياتِهِمْ تحتَ العُبوديَّةِ "(عب 2: 14 - 15)؛ هذا يجب أن يكون لنا رؤية.
علينا أن نتذكّر بأنّ الله نفسه ارتضى أن يخوض معنا غمار هذه المخاوف، إذ هو خلقنا مع علمه بأنّنا قد ننزلق إلى الخطيئة التي تشكّل خطراً علينا، خلقنا الله آخذاً على نفسه تبعات هذا الخطر، خطر رفضنا حبّه وتفضيلنا الخطيئة وانجرارنا إلى الأهواء، آخذاً على عاتقه مغامرة حبّه، مغامرة‑صليب؛ أو ليست الحكمة، ومحبّة الله، تقتضيان إذاً أن نتشبّه به، فلا نرفض صليب مغامرة الإيمان، مغامرة العلاقة مع الله، مغامرة الحياة، مع ما يحتفّ بها من إمكانيّة خطأ وأهواء؟ أو ليس قبولنا هذه المغامرة، يعني أنّنا نسير بهدى الروح على درب التشبّه بالله، على درب الكمال كما دعانا يسوع: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل" (متى 5: 48)؟ أليس القبول بمغامرة المحبّة والإيمان والاكتشاف والإبداع، أي أساساً بمغامرة التوبة والحرّية، يكون بالفعل طاعةً لإرادة الله[9] الذي أطلق مغامرة الخلق؛ بينما تكون الرغبة بتجميد الأمور خوفاً من المخاطر تشدّنا بعيداً عن إرادته؟ أليست الرغبة التي تدغدغنا، خوفا من انحراف الإيمان، بأن نأخذ الإنسان بيده إلى مطلق أيّ مكان - مهما كنّا نراه جميلاً - بعد أن نقيّد حرّيته وقدرته على التساؤل والإبداع، تشكّل تجربة انحياز لهوىً يوهمنا بأنّنا هكذا نخلّص الناس بقوانا الذاتيّة، بوضعهم على سكّة مرسومة سلفاً، وبإعطائهم أجوبة جاهزة على كلّ الأسئلة شرط أن يسلّمونا إرادتهم؟!
ما من معنى إيمانيّ لأيّة مسيرة تقيّد حرّية الإنسان وقدرته على الشكّ والتساؤل والبحث والحياة وبالتالي قدرته على المحبّة نفسها. ما من معنى إيمانيّ لأيّة مسيرة يُستَلَبُ فيها الإنسان وتُقيّد فيه صورة الله : الحرّيةُ والعقلُ والقدرةُ على الخلق. لقد اوصى باسيليوس الكبير بضرورة استعمال العقل حيث لا نجد وصيّة إنجيليّة[10]، أين نحن اليوم من هكذا رؤية؟
3 .5 خلاصةلا مجال لنا إن كنّا نريد أن نكون أمينين لروحيّة الآباء، وللبّ إيماننا إلاّ أن نرتضي مغامرة الحياة، تلك المغامرة التي أطلقها الله نفسه، مع ما يتضمّنها من إمكانيّة خطأ وصراع وتغيير. لا يمكننا أن نصل إلى نهاية الطريق من أوّلها بل يجب أن نسير فيها، لا يمكننا أن نبلغ ما يمكننا بلوغه من كمال الحقّ دون أن نسير في الحقّ، معتمدين على ما تحمله الكنيسة في تقليدها، ومضيفين إليه ما يبدو لنا من "الحقّ الحاضر" اليوم (2 بطرس 1: 12)، في تجديد لاهوتيّ لا يخرج عن العقيدة بل يؤوّنها. مميّزين بين المحدود واللامحدود، بين الكنز وخزف الآنية، ومتجذّرين في الحياة في كنف الروح، في الكنيسة، حسّاسين ومنتبهين "لما يقوله الروح للكنائس"، اليوم (رؤيا 2: 7).
خريستو المرّ
[1] راجع: T. HOPKO, La Foi Orthodoxe, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe - Saint Serge, 1971, p. 17.
[2] من الأوجه الجديدة للحقيقة الإلهيّة نعطي مثلاً: اليوم يمكننا أن نتحدّث عن الآثار الإلهيّة التي يحملها الجنس الإنسانيّ بسبب من علم التحليل النفسيّ فكوستي بندلي يوضح (في كتبه الصادرة مؤخّراً بالفرنسيّة عن تعاونيّة النور للنشر والتوزيع) حقيقة علاقة الصوم بنشوء المحبة وأنسنة النزعة النفسيّة المدعوّة بالفمويّة، وحقيقة اتّجاه الإنسان إلى الله المسجّل في الرغبة.
إن كون الإنسان على صورة الله ومثاله هو حقيقة إيمانيّة، ولكنّ عملنا العلميّ يسمح لنا باكتشاف كيفيّة تجسّد هذه الصورة في الجسد والنفس الإنسانيّين؛ وهذا الكشف العلميّ (بقراءته الإيمانيّة) يعلّمنا كيف "جبلنا" الله على صورته، يجعلنا نلاقي شيئاً من "فكر" الله، أي يجعلنا نلاقي شيئاً منه، من قواه (التي قال بها بالاماس)، كما في مرآة، مرآة الخليقة. هكذا، من خلال العلوم مثلاً، يمكننا كمؤمنين أن نلاقي آثار الله نفسه، في خليقته.
[3] "ليس أنّي قد نِلتُ أو صِرتُ كامِلاً، ولكِنّي أسعَى لَعَلّي أُدرِكُ الَّذي لأجلِهِ أدرَكَني أيضًا المَسيحُ يَسوعُ. أيُّها الإخوَةُ، أنا لَستُ أحسِبُ نَفسي أنّي قد أدرَكتُ. ولكِنّي أفعَلُ شَيئًا واحِدًا: إذ أنا أنسَى ما هو وراءُ وأمتَدُّ إلى ما هو قُدّامُ" (فيليبي 3: 12 - 13)
[4] راجع: J. LAPORTE, Les Pères De l'Eglise, coll. «Initiations aux Pères De l'Eglise», Paris, Editions du Cerf, 2010, p. 148-149
[5] راجع: J. LAPORTE, Les Pères De l'Eglise, coll. «Initiations aux Pères De l'Eglise», Paris, Editions du Cerf, 2010, p. 159
[6] "الإيمان المسلّم دفعة واحدة"، بمعنى أنّه لا يتبدّل من ناحية أسس الإيمان بالثالوث، بالمسيح كلمة الله المتجسّد، المرسل من الآب، والمخلّص إيانا بالروح القدس الحاضر في كنيسته.
[7] يقول اللاهوتيّ فلاديمير لوسكي في معرض حديثة عن التفكير والكلام حول الله‑الثالوث "لا يمكن للفكر وللّغة أن تأسرا اللامحدود بمفاهيم تًحِدًّ بينما هي تسعى أن تًعَرِّف".
V. LOSSKY, “Théologie Dogmatique", Paris, Institut de Théologie Orthodoxe de Saint Serge, 1986, p. 4.
[8] نحن نستخدم الأهواء هنا بالمعنى السلبيّ للعبارة أي معنى الطاقات الإنسانيّة التي انحرفت عن هدفها أي عن نهج محبّة الله والإنسان.
[9] أي إصغاءً لصوت الله وتجاوباً مع إرادته
[10] راجع: J. LAPORTE, Les Pères De l'Eglise II: les Père Grecs, coll. «Initiations aux Pères De l'Eglise», Paris, Editions du Cerf, 2010, p. 125
في الجزء الأوّل من هذه الورقة حاولنا أن نبيّن بأنّ التراث يحتوي مستويات مختلفة :
- مستوى العقيدة ومستوى الآراء اللاهوتيّة في الكنيسة
- مستوى التغيير في التعبير عن العقيدة ومستوى التغيير في محتوى العقيدة نفسها
ورأينا بأنّ الأمانة للتقليد، المخلصة للإيمان وللآباء، تقتضي عدم الجمود وتقتضي ابتكار فكر لاهوتيّ جديد مخلص للتراث، ويجيب عن أسئلة جديدة مطروحة على ضمير المؤمنات والمؤمنين؛ وأنّ هذا الابتكار الدائم هو تعبير عن الثقة بحضور الروح القدس في الكنيسة ويتمّ في قلبها.
في الجزء الثاني هذا نناقش بأنّ التقليد هو حركة دائمة في الروح.
3 الحقيقة الإلهيّة حركة دائمة في الروحإنّ أصحاب الرأي المُجَمِّدِ للتراث يرون ملء الحقيقة الإيمانيّة في كلّ ما قاله الآباء ماضياً، لكنّه من المعروف بأنّ "هناك قدّيسون عديدون بل وأيضاً آباء في الكنيسة تقدّموا بأفكار حَكَم عليها المسيحيّون لاحقاً بأنّها غير دقيقة أو خاطئة"، وأنّ "كتابات آباء الكنيسة لا تخلو من الأخطاء، ولقد قيل بأنّه في كتابات أيّ واحد منهم، يمكن إيجاد آراء يمكن أن يُشكّ بصحّتها على ضوء ملء تراث الكنيسة"، كما يقول الأستاذ في معهد اللاهوت الأرثوذكسيّ في معهد القدّيس فلاديمير، توماس هوبكو[1].
ثمّ إن كان مسعى كلّ حاملي التراث والمساهمين به هو أن ينقلوا الحقيقة الإيمانيّة عن الله وعلاقته بالناس، ومسعى المؤمن اليوم هو أن "يعرف" هذه الحقيقة، فإنّ معرفة الحقيقة الإلهيّة لا يمكنها أن تكون إلاّ على شاكلة المعرفة الإنجيليّة، أي هي معرفة العلاقة؛ ولذا فهي تعتمد على علاقتنا بالله، على محبّتنا لله كمؤمنين، أي ككنيسة، في هدى الروح القدس. وهذا بالضبط الجذر الذي منه انطلق الرسل والقدّيسين والآباء لنقل الحقيقة الإلهيّة في التراث، إذا مساهمتهم كانت مبنيّة على هذه العلاقة‑المعرفة بالله.
هكذا، فإنّ عيش واكتشاف الحقيقة الإلهيّة، كما ونقلها، هو حياة ديناميّة يحياها المؤمنون في كلّ زمن وليس أمراً جامداً منتهياً.
3 .1 الحقيقة الإلهيّة حركة وحيٍ وليست إنزالاًهذه الديناميّة أشار إليها يسوع في خطابه إلى الآب، إذ قال "عرّفتهم اسمك وسأعرّفهم أيضاً" (يو 17: 24)؛ هذا يعني أنّ معرفة اسم الله، معرفة الله، معرفة الحقيقة الإلهيّة، ليست أمراً انتهى في الماضي وإنّما أمرٌ ديناميّ، سيعرّفنا عليه يسوع. فالروح القدس سيقودنا إلى معرفة الله، إلى "كمال" هذه المعرفة في الكنيسة، من خلال حضوره فينا ومن خلال المسيحيّات والمسيحيّين المحبّين لله، وذلك في كلّ زمن.
إنّ الحقيقة الإلهيّة، محور التراث، هي أمامنا وفينا أيضاً وليست فقط خلفنا، فيسوع نفسه أبلغنا بأنّه "مَتَى جاءَ ذاكَ، روحُ الحَقّ، فهو يُرشِدُكُمْ إلى جميعِ الحَقّ"(يو 16: 13)، ممّا يعني أنّ جميع الحقّ هو تقدّم إلى الأمام بهدى الروح. كلمة يسوع هذه تشكّل لنا دعوة دائمة ومفتوحة لاكتشاف الوجوه الجديدة التي تبدو لنا اليوم من الحقيقة الإلهيّة، وذلك بإرشاد الروح القدس، الفاعل في الكنيسة كلّ يوم.
يقول يسوع "إذا ثَبَـتُّم في كلامي، صِرتُم في الحَقيقةِ تلاميذي، تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يو 8: 31 - 32)؛ المسيح إذاً هو أساس إيماننا ومعرفتنا العلائقيّة لله، للحقيقة الإلهيّة، "فإنَّهُ لا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَضَعَ أساسًا آخَرَ غَيرَ الَّذي وُضِعَ، الَّذي هو يَسوعُ المَسيحُ"(1كو 3، 11). من هنا إنّ دور التراث هو أن يضعنا في خطّ الحقيقة الإلهيّة، بوضعنا في خطّ الوحدة مع المسيح. أمّا كمال معرفتنا لمقاصد الله ولعمله في الكون (وهذان جزء من الحقيقة الإلهيّة)، وكمال التعبير عن الحقيقة الإلهيّة (عن العقيدة كما وعن مقاصد الله وعمله[2])، وكمال معرفتنا للمسيح‑الحقّ (أساس الإيمان)، فهي كمالات أمامنا دائماً، أو بتعبير أدقّ هي خبرة حاضرةٌ وديناميّةٌ "تمتدّ إلى الأمام"[3]؛ فالله هو أوسع وأشمل من كلّ ما نعرفه ونكتشفه عنه، والعلاقة معه سرّ محبّة لا قعر لها.
الحقيقة هي المسيح، فهو "الطريق والحقّ والحياة". ولكن إن كان هو الحقّ فهو أيضاً الطريق، أي أنّ العلاقة معه، "معرفته"، هي مسيرة حياة وليس جمود وانخطاف إلى الماضي، وتأبيد للماضي ولتعابير الماضي. الماضي يحمل حقيقة يسوع، ولكن لا يكشف كلّ أوجهها. التقليد يحمل الحقيقة الإلهية كنزاً في آنية خزفيّة (2 كو 4: 7)، وفي الحاضر يمكننا نحن أيضاً أن نحمل هذه الحقيقة، فنعبّر عنها، ونكتشف أوجهاً جديدة منها (كمقاصد الله، وآثار عمله)، ولكن نحملها ونكتشف "في آنية خزفيّة"، فنحن أيضاً لا نحمل الحقيقة كاملة. ويأتي بعدنا من يسير في نفس خطّ كشف الحقيقة الإلهيّة، إلى أن يأتي كمال الملكوت الحاضر، فيزيل الله الحجب، ونراه وجهاً لوجه وليس كما في لغز. وحتّى في ذلك اليوم لن نحيا من الحقيقة الإلهيّة إلاّ ما يسمح به وضعنا كمخلوقين أن نحياه (فالجوهر الإلهيّ سيبقى خارج أيّ نوع من أنواع الإدراك البشريّ).
3 .2 الحقيقة الإلهيّة ليست محصورة وإنّما حياة في كنف الروح القدسهكذا، فالحقيقة الإلهيّة ليست محصورة، فهي حياة في المسيح، والمعرفة الحقيقيّة الممكنة هي معرفة العلاقة به. المسيح لا يحصره الكتاب المقدّس ولا الماضي، ولهذا الآباء ارتكزوا إلى الكتاب، ولكن أيضاً إلى الليتورجيا، وإلى كتابات من سبقوهم، وإلى الكنيسة كحاملة للحقيقة، وإلى الفلسفة وعلوم عصرهم، وارتكزوا أوّلاً إلى إرشاد الروح القدس الذي فيهم، وإلى صورة الله التي فيهم (من عقل وحرّية)، لكي يكتبوا بتعابير جديدة عن الحقيقة الإيمانيّة التي يحملها التقليد. وهم رغم إخلاصهم وقعوا أحياناً في أخطاء وغموض في التعابير، لكن هذا لم يخفّف شيئاً من مساهماتهم اللاهوتيّة وقداستهم (من منّا يوافق النيصصي اليوم على رأيه بوجود شيء من مطهر بعد القيامة، أو رأيه، الشبيه برأي أوريجنّس، بحتميّة خلاص الجميع في الملكوت بعد فترة تطهّر بالآلام[4]).
الحقيقة الإلهيّة لايحصرها زمن، ولا مكان، ولا خبرة، لقد أُعطِيَت للبشر في المسيح، ونتقدّم مكتشفينها في الطريق الذي هو المسيح، في كنف الروح القدس، في الكنيسة. وقولنا هذا ينسجم مع ما تعلّمناه من الآباء، فقد كان النزينزي مثلاً يرى بأنّ يسوع المسيح علّم التلاميذ بتدرّج، وبأنّه كشف ألوهة الروح القدس بتدرّج إلى أن كُشِفَت هذه الحقيقة الكاملة من قِبَل الروح القدس نفسه بعد القيامة والعنصرة، وأشار النزينزي إلى أنّ هناك تعاليم وحقائق أخرى يكشفها الله لنا بتدرّج[5].
3 .3 ضرورة التمييز بين المحدود واللامحدودإنّنا نعتقد بأنّ هناك تمييزَيْن قد يساعدانا على جلاء رؤيتنا في موضوع التقليد الكنسيّ، ألا وهما:
1- التمييز بين الحقيقة الإلهيّة التي لا يمكن حصرها، وبين كلماتنا وتعابيرنا وفهمنا المحدود لها
2- والتمييز بين فهمنا المحدود للحقيقة الإلهيّة، وبين الأسلوب التعبيريّ المحدود عن فهمنا المحدود
هذان التمييزان يُصالحا بين الماضي والحاضر، ويجعلانا ننظر إلى التراث-التقليد كأمر نستلمه ونجدّده بشكل دائم، وضروريّ. فالتمييز بين الحقيقة الإلهيّة وبين فهمنا المحدود لها يعني أنّ علينا دائماً أن "نمتدّ إلى الأمام" كي نفهم الحقيقة بشكل أوضح وأعمق، وبالتالي علينا أن نقبل بأنّه يمكننا ككنيسة أن نكتشف في حاضرنا وماضينا أوجهاً للحقيقة، للـ"الإيمانِ المُسَلَّمِ مَرَّةً للقِدّيسينَ" (يهوذا 1: 3)[6]، لم تكن قد بدت لنا وللآباء قبلنا. أمّا التمييز بين فهمنا المحدود للحقيقة الإلهيّة وبين الأسلوب التعبيريّ المحدود عمّا فهمناه، فيدفعنا إلى استخدام تعابير جديدة (أساليب) لا تخون فهمنا الأساس (المعاني، العقائد) للتراث.
أحياناً نقرأ دعوات إلى التواضع أمام نتاج الأباء على أساس أنّهم قدّيسون، وعلى أساس أنّنا يجب أن نشعر بالمحدوديّة أمام عظمة الآباء؛ وبأنّ الآباء ليس لديهم آراء وإنّما تعليم وبأنّنا بالتالي يجب أن نقبل كلّ ما قالوه لأنّه فكر المسيح. إنّ هكذا دعوات على ما يبدو فيها ظاهريّاً من صحّة، هي دعوات ملتسبة جدّاً وخاطئة؛ إذ عدا أنّها لا تقيم اعتباراً للتراث الأرثوذكسيّ الذي يقرّ بوجود آراء لاهوتيّة قابلة للنقاش في الكنيسة طالما هي لا تطاول العقيدة؛ فإنّها تقيم تقابلاً بين "محدوديّة" من جهة (جهتنا) و"عظمة" من جهة أخرى (جهة الآباء)؛ أي أنّها لا ترى محدوديّة في نتاج الآباء، بل عظمة تامّة (ولهذا يقابل أصحاب هذا الرأي عظمة الآباء بمحدوديّتنا). لكنّ الحقيقة هي أنّ كلّ صنع بشريّ ولو أنّه مصنوع بوحي من الروح، يبقى محدوداً، ولا يوجد سوى الله غير محدود؛ لذا فتراث الآباء هو محدود بطبيعته[7].
النظرة إلى نتاج الآباء على أنّه لا محدود نظرة تخلط بين الله كمطلق، وبين النتاج الإنسانيّ‑الإلهيّ كتآزر (سينرجيّة)، والذي هو محدود بالطبيعة، يحمل الكنز في آنية من خزف ولهذا يختلط فيه الكنز بطينٍ علق من ثقافة العصر ومن محدوديّة الإنسان كمخلوق. المشكلة في نظرةٍ كهذه إلى التراث هي أنّها نظرة مونوفيزيّة (دون أن يدري أصحابها)؛ فهي نظرة تبتلع الإنسانيّ في الإلهيّ، إذ تظنّ أنّ حضور الله في الآباء يلغي ويبتلع محدوديّتهم، والواقع أنّ للآباء نفس بشريّة محدودة بطبيعتها، ومعقّدة، ويعتريها النقصان رغم قداستها، وللآباء لغة محدودة بقدرتها على التعبير عن الحقيقة الإلهيّة، ومحدودة بمعرفتها المحدودة لحقائق هذا الكون المحدودة أصلاً.
إن كان الخطر عند الناس البعيدين عن الكنيسة هو تأليه العلوم، فالخطر عند المخلصين الذين هم في الكنيسة يأتي من الانزلاق إلى تأليه التقليد ونسيان أنّه في النهاية نتاج إنسانيّ‑إلهيّ. التقليد الذي تسلّمناه كنتاج إنسانيّ‑إلهيّ هو تعبير محدود عن الحقيقة الإلهيّة، وهذه الحقيقة تبقى أشمل وأوسع من التعابير المختلفة عنها. التقليد الكنسيّ هو تقليد حيّ، هو التيّار الحيّ للروح القدس الذي لا يمكننا أن نجمّده نهائيّاً في تعابير وأفكار. النيصصيّ كان واضحاً بقوله أنّ "الأفكار[عن الله] تنشئ أصناماً، وحده الذهول يُدرِكُ شيئاً"؛ الأفكار ليست الله، والعقيدة المعبّر عنها في الكلمات هي في النهاية تعبير فكريّ (رغم أنّ العقيدة لتكون صحيحة يجب أن تكون مُعاشة حياةً متجسّدة في كنيسة الروح القدس).
لقد شدّد التقليد الكنسيّ على اللاهوت التنزيهيّ الذي يرفض كلّ تحديد عن الله، مع تشديده على اللاهوت الإيجابيّ الذي يتكلّم عن الله بتحديدات معيّنة (كأن نقول أنّ الله محبّة). التقليد الذي تسلّمناه كنتاج إلهيّ‑إنسانيّ هو محدود، الله وحده لا محدود ولا يسعه شيء. حتّى التحديدات العقائديّة، وهي أكثر ما في التقليد حساسيّةً بعد الإنجيل، كانت ضروريّة فقط كي نعرف اليوم نحن بماذا نؤمن وندافع عن الإيمان القويم، كي نحفظ أسس الإيمان القويم فنبقى بعلاقة مع الله الحيّ، ولم تكن كي نعود إليها كأمر لا محدود، وإلاّ تحوّلت أصناماً كما أشار النيصصيّ. يجب أن نعيش التقليد (بما يحتويه من عقائد) علاقةً شخصيّة مع المسيح، في الروح القدس، في الكنيسة، وأن نعبّر عن هذه العلاقة، عن الحقّ الحاضر فينا ككنيسة، في اليوم الحاضر، بلغة الحاضر وأطر الحاضر ووسائل الحاضر.
إنّ دعوةً إلى الإحساس بمحدوديّتنا، أمام "عظمةٍ" للآباء تبدو ولكأنّها كمال، هي غير صائبة كنسيّاً. من هنا قولنا بأنّه يجب أن نميّز في التراث بين الإطار الذي يرتبط بتاريخ وحضارة محدودتين، وبين الحقيقة الإيمانيّة، بين المحدود واللامحدود.
3 .4 اكتشاف الحقيقة الإلهيّة يقتضي القبول بمغامرة الحياةلا شكّ أنّ هذه الرؤية مُقلِقَة ومخيفة، لأنّ الأخطار تحتفّ بها، أخطار الأهواء التي يمكنها أن تحجب عنّا نور الله[8]. ولهذا نتفهّم مخاوف من يقرأ هذه السطور ومن يلجأ إلى الموقف اللاهوتيّ الذي يريد تجميد التقليد، لكن هذا التفهّم لا يعني موافقة، لأنّ ذلك الموقف خَطِر. علينا تجاوز الخوف، لأنّنا إن بقينا في الخوف نصير إلى عبوديّة؛ لقد شاركنا يسوع طبيعتنا ليحرّر"الَّذينَ - خَوفًا مِنَ المَوتِ - كانوا جميعًا كُلَّ حَياتِهِمْ تحتَ العُبوديَّةِ "(عب 2: 14 - 15)؛ هذا يجب أن يكون لنا رؤية.
علينا أن نتذكّر بأنّ الله نفسه ارتضى أن يخوض معنا غمار هذه المخاوف، إذ هو خلقنا مع علمه بأنّنا قد ننزلق إلى الخطيئة التي تشكّل خطراً علينا، خلقنا الله آخذاً على نفسه تبعات هذا الخطر، خطر رفضنا حبّه وتفضيلنا الخطيئة وانجرارنا إلى الأهواء، آخذاً على عاتقه مغامرة حبّه، مغامرة‑صليب؛ أو ليست الحكمة، ومحبّة الله، تقتضيان إذاً أن نتشبّه به، فلا نرفض صليب مغامرة الإيمان، مغامرة العلاقة مع الله، مغامرة الحياة، مع ما يحتفّ بها من إمكانيّة خطأ وأهواء؟ أو ليس قبولنا هذه المغامرة، يعني أنّنا نسير بهدى الروح على درب التشبّه بالله، على درب الكمال كما دعانا يسوع: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل" (متى 5: 48)؟ أليس القبول بمغامرة المحبّة والإيمان والاكتشاف والإبداع، أي أساساً بمغامرة التوبة والحرّية، يكون بالفعل طاعةً لإرادة الله[9] الذي أطلق مغامرة الخلق؛ بينما تكون الرغبة بتجميد الأمور خوفاً من المخاطر تشدّنا بعيداً عن إرادته؟ أليست الرغبة التي تدغدغنا، خوفا من انحراف الإيمان، بأن نأخذ الإنسان بيده إلى مطلق أيّ مكان - مهما كنّا نراه جميلاً - بعد أن نقيّد حرّيته وقدرته على التساؤل والإبداع، تشكّل تجربة انحياز لهوىً يوهمنا بأنّنا هكذا نخلّص الناس بقوانا الذاتيّة، بوضعهم على سكّة مرسومة سلفاً، وبإعطائهم أجوبة جاهزة على كلّ الأسئلة شرط أن يسلّمونا إرادتهم؟!
ما من معنى إيمانيّ لأيّة مسيرة تقيّد حرّية الإنسان وقدرته على الشكّ والتساؤل والبحث والحياة وبالتالي قدرته على المحبّة نفسها. ما من معنى إيمانيّ لأيّة مسيرة يُستَلَبُ فيها الإنسان وتُقيّد فيه صورة الله : الحرّيةُ والعقلُ والقدرةُ على الخلق. لقد اوصى باسيليوس الكبير بضرورة استعمال العقل حيث لا نجد وصيّة إنجيليّة[10]، أين نحن اليوم من هكذا رؤية؟
3 .5 خلاصةلا مجال لنا إن كنّا نريد أن نكون أمينين لروحيّة الآباء، وللبّ إيماننا إلاّ أن نرتضي مغامرة الحياة، تلك المغامرة التي أطلقها الله نفسه، مع ما يتضمّنها من إمكانيّة خطأ وصراع وتغيير. لا يمكننا أن نصل إلى نهاية الطريق من أوّلها بل يجب أن نسير فيها، لا يمكننا أن نبلغ ما يمكننا بلوغه من كمال الحقّ دون أن نسير في الحقّ، معتمدين على ما تحمله الكنيسة في تقليدها، ومضيفين إليه ما يبدو لنا من "الحقّ الحاضر" اليوم (2 بطرس 1: 12)، في تجديد لاهوتيّ لا يخرج عن العقيدة بل يؤوّنها. مميّزين بين المحدود واللامحدود، بين الكنز وخزف الآنية، ومتجذّرين في الحياة في كنف الروح، في الكنيسة، حسّاسين ومنتبهين "لما يقوله الروح للكنائس"، اليوم (رؤيا 2: 7).
خريستو المرّ
[1] راجع: T. HOPKO, La Foi Orthodoxe, Paris, Institut de Théologie Orthodoxe - Saint Serge, 1971, p. 17.
[2] من الأوجه الجديدة للحقيقة الإلهيّة نعطي مثلاً: اليوم يمكننا أن نتحدّث عن الآثار الإلهيّة التي يحملها الجنس الإنسانيّ بسبب من علم التحليل النفسيّ فكوستي بندلي يوضح (في كتبه الصادرة مؤخّراً بالفرنسيّة عن تعاونيّة النور للنشر والتوزيع) حقيقة علاقة الصوم بنشوء المحبة وأنسنة النزعة النفسيّة المدعوّة بالفمويّة، وحقيقة اتّجاه الإنسان إلى الله المسجّل في الرغبة.
إن كون الإنسان على صورة الله ومثاله هو حقيقة إيمانيّة، ولكنّ عملنا العلميّ يسمح لنا باكتشاف كيفيّة تجسّد هذه الصورة في الجسد والنفس الإنسانيّين؛ وهذا الكشف العلميّ (بقراءته الإيمانيّة) يعلّمنا كيف "جبلنا" الله على صورته، يجعلنا نلاقي شيئاً من "فكر" الله، أي يجعلنا نلاقي شيئاً منه، من قواه (التي قال بها بالاماس)، كما في مرآة، مرآة الخليقة. هكذا، من خلال العلوم مثلاً، يمكننا كمؤمنين أن نلاقي آثار الله نفسه، في خليقته.
[3] "ليس أنّي قد نِلتُ أو صِرتُ كامِلاً، ولكِنّي أسعَى لَعَلّي أُدرِكُ الَّذي لأجلِهِ أدرَكَني أيضًا المَسيحُ يَسوعُ. أيُّها الإخوَةُ، أنا لَستُ أحسِبُ نَفسي أنّي قد أدرَكتُ. ولكِنّي أفعَلُ شَيئًا واحِدًا: إذ أنا أنسَى ما هو وراءُ وأمتَدُّ إلى ما هو قُدّامُ" (فيليبي 3: 12 - 13)
[4] راجع: J. LAPORTE, Les Pères De l'Eglise, coll. «Initiations aux Pères De l'Eglise», Paris, Editions du Cerf, 2010, p. 148-149
[5] راجع: J. LAPORTE, Les Pères De l'Eglise, coll. «Initiations aux Pères De l'Eglise», Paris, Editions du Cerf, 2010, p. 159
[6] "الإيمان المسلّم دفعة واحدة"، بمعنى أنّه لا يتبدّل من ناحية أسس الإيمان بالثالوث، بالمسيح كلمة الله المتجسّد، المرسل من الآب، والمخلّص إيانا بالروح القدس الحاضر في كنيسته.
[7] يقول اللاهوتيّ فلاديمير لوسكي في معرض حديثة عن التفكير والكلام حول الله‑الثالوث "لا يمكن للفكر وللّغة أن تأسرا اللامحدود بمفاهيم تًحِدًّ بينما هي تسعى أن تًعَرِّف".
V. LOSSKY, “Théologie Dogmatique", Paris, Institut de Théologie Orthodoxe de Saint Serge, 1986, p. 4.
[8] نحن نستخدم الأهواء هنا بالمعنى السلبيّ للعبارة أي معنى الطاقات الإنسانيّة التي انحرفت عن هدفها أي عن نهج محبّة الله والإنسان.
[9] أي إصغاءً لصوت الله وتجاوباً مع إرادته
[10] راجع: J. LAPORTE, Les Pères De l'Eglise II: les Père Grecs, coll. «Initiations aux Pères De l'Eglise», Paris, Editions du Cerf, 2010, p. 125