المقالة الأصليّة
إنّي اليوم مسلمٌ لأنّي أرجو أن أكون مسيحيّاً
العدد ٣١٢٢ الاربعاء ٨ آذار ٢٠١٧
في الأوّل من شباط ٢٠١٧، دخل أحد العنصريين إلى أحد الجوامع في مدينة كيبيك وأطلق النار على المصلين، قاتلاً ستّة أشخاص. قُتِل أناس وتيتّم بنات وأبناء، وترمّلت نساء، وثُكِلَت أمّهات وآباء وأخوات وإخوة.
هذا الفعل المجرم، لا يمكن النظر إليه بأنّه مجرّد عمل فردي من إنسان عنصريّ، بل يتحمّل مسؤوليّته أيضاً كلّ من قال كلاماً عنصريّاً بحقّ المسلمين كمسلمين، في كلّ بقعة من بقاع العالم، وفي كندا وكيبيك بالذات، لأنّ هكذا كلام يساهم في خلق أرضيّة حاضنة للفعل بطريقة غير مباشرة أو مباشرة.
لقد سبق أن شنّ «الحزب الكيبيكيّ» المحافظ حملة شعواء بدافع انتخابيّ واضح، عام ٢٠١٣، لإمرار قرار برلماني في المقاطعة تلك، حول «ميثاق للقيم» يتمحور حول ضرورة منع الشعارات الدينيّة الواضحة في الميادين الرسميّة من دوائر حكوميّة ومدارس ومستشفيات وغيرها، ولكنّ النقاش المحيط باقتراح القانون ذاك، كان يظهر بوضوح أنّ المقصود من المشروع هو المهاجرون، وبالأخصّ منع ارتداء الحجاب في الأماكن الرسميّة، على الطريقة الفرنسيّة. في الوقت نفسه، شنّ أحد مستشفيات مقاطعة أوناتريو حملات دعائيّة مضادة تبرز عاملات وعاملين في قطاع الصحّة، مغطّي الرؤوس بحسب الديانة التي يتّبعونها (مسلمون وهندوس وسيخ)، داعيةً العاملين والعاملات في قطاع الطبّ في كيبيك، والمتخوّفين من احتمال إقرار مشروع القانون إلى الانتقال للعمل في مقاطعة أونتاريو، حيث «لا يهمّنا ما فوق رأسك، يهمّنا ما فيه». كانت النتيجة أن سقط حزب المحافظين في الانتخابات سقطة مدوّية، وكان لدفع ذاك الحزب بمشروع القانون المذكور إلى الواجهة دور أساسي في هزيمته. ودفن المشروع مع تلك الهزيمة. لكنّ الموضوع ترك أثره في المجتمع، فقد أظهر بحثٌ جامعي في الطبّ النفسيّ أنّ ثلث عيّنة من ٤٤١ طالباً في إحدى جامعات كيبيك عاشوا أعمال تمييز ضدّهم أو شهدوها تحدث ضدّ آخرين بعد طرح «الحزب الكيبيكيّ» مشروع قانون «الميثاق» في التداول؛ وهكذا، كشفت الدراسة عن تنامي أعمال «عنفٍ يوميّ» ضدّ المهاجرين في كيبيك (١). هذا العنف اليوميّ ترافق مع ارتفاع ملحوظ في التعبير عن التطرّف على الفايسبوك كما دلّت دراسة أخرى (٢)؛ ولاحظت دراسة ثالثة أنّ عنصر الشباب المتعلّم كان يدعم بشكل ملحوظ مشروع قانون «الميثاق» عندما كان القانون مطروحاً في إطار «ضرورات» العلمنة، قبل أن يتراجع هذا الدعم الشبابيّ مع تغيّر الخطاب السياسي لحزب المحافظين ووضع مشروع القانون في خانة مواجهة المهاجرين (٣). بعد دفن مشروع القانون، تجدّد الطرح الإسلاموفوبي بطريقة أخرى عام ٢٠١٦ حيث قام حزب «تحالف مستقبل كيبيك» المعارض بطرح موضوع اللباس النسائيّ البحري المعروف بالبوركيني، والذي ترتديه بعض النساء المسلمات؛ لكنّ الطرح قوبل بسخرية الحزب الليبرالي الحاكم في مقاطعة كيبيك من رئيس حزب «التحالف» ومحاولات حزبه البائسة.
أمّا من جهة الولايات المتّحدة، فقد حصل ٧٨ اعتداءً على مساجد في الولايات المتّحدة خلال عام ٢٠١٥، وهو رقم قياسي. لا يمكن للمرء إلا أن يربط بين تصاعد هذه الاعتداءات وإطلاق خطاب ترمب وصحبه للخلفيّة العنصريّة من عقالاتها، عبر بثّ الخطاب العنصريّ في الفضاء العام بشكل يوميّ. إنّ خطاب ترمب العنصريّ منح مشروعيّة للكلام والتصرّف العنصريَّين؛ وإن كان خطابه العنصريّ هو خطاب للبيض أساساً، فقد لحق به كلّ ذي حقد دينيّ وعنصريّ من ناحية، وكلّ خائف من الآخرين والـ«غرباء» من ناحية أخرى، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الخطاب العنصريّ استفاد من الجوّ الإرهابيّ الذي نشرته القاعدة ثمّ داعش وإخوته في بلادنا، بغضّ النظر عن مسؤوليّة بعض دول العالم الديموقراطيّ وغير الديموقراطيّ في نشوء هذا الإرهاب أو استمراره.
من هنا، فإنّ حائط ترامب مع المكسيك ليس أمراً بعيداً لا شأن لنا به، إذ يجب النظر إليه في الإطار نفسه: إطار صعود خطّ عنصريّ إسلاموفوبي (ينشر الخوف من المسلمين) ومحتقر للنساء ولغير «البيض»، خطّ لن يتوانى عن ارتكاب المذابح بحقّ الشعوب الأخرى. هناك بين شعوبنا من يعقلن دعمَه وحماسته لأقوال ترامب وقراراته ومشاريعه، من بناء حائط على الحدود مع المكسيك، إلى حظر دخول مواطني بعض الدول ذات الغالبية المسلمة إلى أميركا، حتّى لو كانوا يملكون إقامات، ويدرسون أو يعملون في الولايات المتّحدة، هذه العقلنة تتذرّع بأنّ الأمر موضوع سياديّ، وداخليّ، إلخ. وعندما يتمّ نقد حائط ترمب ووصفه بالعنصريّ، يقف بعض الناس موقفاً دماغياً بحتاً، متوقفين على ظاهر الأمور وتقنياتها، فيتحججون بأن من الضروري حماية حدود كلّ بلد، وأنّ هذا أمر طبيعيّ ومشروع، وأنّ ترامب يعمل مصلحة بلاده، وأنّنا نتمنّى أن نضبط الحدود في لبنان أو سوريا، إلخ. لكن يغيب عن بالهم أنّ النقد لا يطال الحائط، أو عمليّة بنائه وكيفيّتها، أو موضوع حماية حدود بلد ما؛ فالأمور لا تُنتقد بظاهرها، وإنّما بما تعنيه وما تؤدّي إليه. إنّ الحائط الذي يحلم به ترامب، ومريدوه، والمتحمّسون له من بلادنا، هو حائط عنصريّ، وتعبير عن عنصريّة، مثله مثل حائط الفصل العنصريّ في فلسطين المحتلة، وذاك الذي في صيدا. لم يتكلّم ترامب على حائط حول منزله، ولا عن مشاكل حدودية مع ميليشيات مسلّحة تقتحم دولته الضعيفة، وإنّما قال بأنّ المكسيكيين هم مغتصبو نساء، وتجّار مخدّرات، وأنّ «البعض منهم - كما أتصوّر – هم جيّدون». كلامه إذاً عنصريّ، والحائط هذا بالذات هو وليد هذا الفكر العنصريّ بالذات. إنّ الحائط مع المكسيك، إن تمّ بناؤه، سيكون رمزاً عنصريّاً، وسيؤدّي وجوده إلى رفع منسوب السماح للمشاعر العنصريّة بالتعبير عن نفسها عنفاً على عنفٍ، بحقّ كلّ «غريب»، بحقّ الإنسان المكسيكي، والمسلم، وبحقّ المرأة التي أظهر ترامب لها كلّ احتقار وتشييء، وبحقّ المعوّقين الذين سخر ترمب من إعاقة أحدهم ــ وهو صحافي – خلال حملته الانتخابيّة. مَنْ لم يذهب أبعد من البذلة وربطة العنق والمال، ليرى ملامح القمع والجريمة في كلام ترامب وتصرّفاته، ما زال متمسّكاً بقشرة الواقع.
بالطبع، لم تغلق فصول القرار الأخير حول منع دخول سكّان سبعة بلدان إلى الولايات المتّحدة (قبل أن يستثني العراق قبل يومين)، فمستقبل القرار لا يحدّده ترامب وحده. هناك مقاومة متنامية لقرارات ترامب من قبل جزء من سكّان الولايات المتّحدة، ومن قبل أصحاب الشركات العملاقة المتضرّرة من أفعاله، وهناك ردّات فعل ملحوظة في جامعات عدة في الولايات المتحدة أعلنت أنّها تفتح حرمها ملاذاً آمناً للمهاجرين؛ وقد بلغت ردّات الفعل البلد المجاور كندا، حيث أعلنت قطاعات واسعة من النقابات والجامعات والجمعيّات مواقف مناهضة لسياسات ترامب وخطابه العنصريّ الواضح.
إنّ كلام ترامب وفحوى خطابه وقراراته بحقّ المكسيكيين والمسلمين، وأيضاً كلام بعض السياسيين الكنديين العنصريّ، وكلّ كلام عنصريّ قد ينطق به أيّ واحد منّا، هو الذي يبيح «أخلاقيّاً» الجرائم الحالية، واللاحقة التي سترتكب، بحقّ متحدّرين من تلك البلدان أو الأديان. هذا الفكر العنصريّ الذي يعبّر عن نفسه بأشخاص يترأسّون أحزاباً أو دولاً، وأشخاص يحضنون هؤلاء الرؤساء فكريّاً وشعوريّاً، هو ما يعطي ذريعة للجريمة، لأنّه يؤمّن مشروعيّة «أخلاقيّة»، وسماحاً «أخلاقيّاً» لكلّ أنواع الممارسات اللاأخلاقيّة، بحقّ مَن يصوّرهم هذا الفكر بأنّهم أقلّ من بشر، وغير متساوين في الكرامة. إنّ اسم «هتلر» اليوم يرنّ بشكل خاص في الأذن، لأنه يعبّر عن الجريمة والتدمير والإبادة، ولكن عندما أتى رجل اسمه أدولف هتلر إلى الحكم في ألمانيا، كان اسمه اسماً عادياً، ولا يحمل أيّ رمز وحشيّ. فلينتبه كلّ إنسان اليوم إلى ألّا يكون مشدوداً، من حيث لا يدري، إلى شخصيّة مدمّرة ومليئة بالكراهية للحياة، هي شخصيّة ترامب. إنّ كلّ خطوة انغلاق عن آخرين، ولامبالاة بحقّهم، هي خطوة تأخذ الإنسان إلى نواح مظلمة. الأمر لا يتطلّب أكثر من خطوة أولى منحازة، لتليها خطوة أكثر انحيازاً، لتصل في نهاية الخطّ إلى دعم العنف ضدّ الأبرياء والحروب العبثيّة.
إنّ حائط ترامب ليس موضوع حماية حدود. هو واقعيّاً، كما جاء في سياق خطاب ترامب العنصريّ، مسألة عنصريّة، ولهذا فإنّ كلام البابا فرنسيس الذي أطلقه بعد زيارته المكسيك وحدودها مع الولايات المتّحدة، بأنّ «مَنْ لا يفكّر سوى ببناء الجدران... ليس بمسيحي» هو كلام في موضعه، لأنّ البابا فرنسيس لم يعلّق حول مسألة حدود وحمايتها، وإنّما علّق على مسألة الانغلاق الفكري والقلبيّ الذي يرمز له الحائط، علّق على مسألة الانغلاق الذي يقطع به الإنسان نفسه عن غيره من البشر، فيرى شعوباً بأكملها أنّها مجرّد مجموعة من المغتصبين وتجار المخدّرات، أو مجموعة من الإرهابيّين، أو غير ذلك. إنّ الحائط عنصريّ، وبالتالي غير مسيحي. إنّ كلمات البابا هي على نقيض حادّ مع محاولة البعض تسويق ترامب والعنصريين أمثاله في كندا، على أنّهم مسيحيّون مخلصون طيّبون. إنّ كلام البابا على نقيض مع الموتورين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين ينشرون صور ترامب يوقّع مراسيمه، والمسيح خلفه يمدّ يده موقّعاً معه، هؤلاء هم على مثال الموتورين الذين رسموا صور القديسين على طائرات الروس في سوريا؛ هؤلاء يُلسبون مواقفهم السياسية والعسكرية لباس الدين، كداعش تماماً.
إنّ العودة إلى إنجيل يسوع المسيح، ومسيح الإنجيل، تبيّن بوضوح، أنّ المسيح ــ الذي يعلو تعليمه وممارساته على أيّ كلام أو توصية أو تفسير أو ممارسة في التراث المسيحي ــ يلزم المسيحيين بأن يقفوا مع المستضعف المصلوبِ على قراراتٍ وتصرّفات جائرة، لكي يبقوا واقفين مع المسيح. في كندا، إنّي اليوم مسلمٌ لأنّي أرجو أن أكون مسيحيّاً.
* أستاذ جامعي
مراجع:
١- Hassan٬ G.٬ Mekki-Berrada٬ A.٬ Rousseau٬ C.٬ Lyonnais-Lafond٬ G.٬ Jamil٬ U.٬ & Cleveland٬ J. (2016). Impact of the Charter of Quebec Values on psychological well-being of francophone university students. Transcultural Psychiatry
٢- Nadeau٬ F. & Helly٬ D. «Extreme Right in Quebec?: The Facebook Pages in Favor of the “Quebec Charter of Values”.» Canadian Ethnic Studies٬ vol. 48 no. 1٬ 2016٬ pp. 1-18.
٣- Tessier٬ C.٬ & Montigny٬ É. (2016). Untangling myths and facts: Who supported the Québec Charter of Values? French Politics٬ 14(2)٬ 272-285.
خريستو المر
هذا الفعل المجرم، لا يمكن النظر إليه بأنّه مجرّد عمل فردي من إنسان عنصريّ، بل يتحمّل مسؤوليّته أيضاً كلّ من قال كلاماً عنصريّاً بحقّ المسلمين كمسلمين، في كلّ بقعة من بقاع العالم، وفي كندا وكيبيك بالذات، لأنّ هكذا كلام يساهم في خلق أرضيّة حاضنة للفعل بطريقة غير مباشرة أو مباشرة.
لقد سبق أن شنّ «الحزب الكيبيكيّ» المحافظ حملة شعواء بدافع انتخابيّ واضح، عام ٢٠١٣، لإمرار قرار برلماني في المقاطعة تلك، حول «ميثاق للقيم» يتمحور حول ضرورة منع الشعارات الدينيّة الواضحة في الميادين الرسميّة من دوائر حكوميّة ومدارس ومستشفيات وغيرها، ولكنّ النقاش المحيط باقتراح القانون ذاك، كان يظهر بوضوح أنّ المقصود من المشروع هو المهاجرون، وبالأخصّ منع ارتداء الحجاب في الأماكن الرسميّة، على الطريقة الفرنسيّة. في الوقت نفسه، شنّ أحد مستشفيات مقاطعة أوناتريو حملات دعائيّة مضادة تبرز عاملات وعاملين في قطاع الصحّة، مغطّي الرؤوس بحسب الديانة التي يتّبعونها (مسلمون وهندوس وسيخ)، داعيةً العاملين والعاملات في قطاع الطبّ في كيبيك، والمتخوّفين من احتمال إقرار مشروع القانون إلى الانتقال للعمل في مقاطعة أونتاريو، حيث «لا يهمّنا ما فوق رأسك، يهمّنا ما فيه». كانت النتيجة أن سقط حزب المحافظين في الانتخابات سقطة مدوّية، وكان لدفع ذاك الحزب بمشروع القانون المذكور إلى الواجهة دور أساسي في هزيمته. ودفن المشروع مع تلك الهزيمة. لكنّ الموضوع ترك أثره في المجتمع، فقد أظهر بحثٌ جامعي في الطبّ النفسيّ أنّ ثلث عيّنة من ٤٤١ طالباً في إحدى جامعات كيبيك عاشوا أعمال تمييز ضدّهم أو شهدوها تحدث ضدّ آخرين بعد طرح «الحزب الكيبيكيّ» مشروع قانون «الميثاق» في التداول؛ وهكذا، كشفت الدراسة عن تنامي أعمال «عنفٍ يوميّ» ضدّ المهاجرين في كيبيك (١). هذا العنف اليوميّ ترافق مع ارتفاع ملحوظ في التعبير عن التطرّف على الفايسبوك كما دلّت دراسة أخرى (٢)؛ ولاحظت دراسة ثالثة أنّ عنصر الشباب المتعلّم كان يدعم بشكل ملحوظ مشروع قانون «الميثاق» عندما كان القانون مطروحاً في إطار «ضرورات» العلمنة، قبل أن يتراجع هذا الدعم الشبابيّ مع تغيّر الخطاب السياسي لحزب المحافظين ووضع مشروع القانون في خانة مواجهة المهاجرين (٣). بعد دفن مشروع القانون، تجدّد الطرح الإسلاموفوبي بطريقة أخرى عام ٢٠١٦ حيث قام حزب «تحالف مستقبل كيبيك» المعارض بطرح موضوع اللباس النسائيّ البحري المعروف بالبوركيني، والذي ترتديه بعض النساء المسلمات؛ لكنّ الطرح قوبل بسخرية الحزب الليبرالي الحاكم في مقاطعة كيبيك من رئيس حزب «التحالف» ومحاولات حزبه البائسة.
أمّا من جهة الولايات المتّحدة، فقد حصل ٧٨ اعتداءً على مساجد في الولايات المتّحدة خلال عام ٢٠١٥، وهو رقم قياسي. لا يمكن للمرء إلا أن يربط بين تصاعد هذه الاعتداءات وإطلاق خطاب ترمب وصحبه للخلفيّة العنصريّة من عقالاتها، عبر بثّ الخطاب العنصريّ في الفضاء العام بشكل يوميّ. إنّ خطاب ترمب العنصريّ منح مشروعيّة للكلام والتصرّف العنصريَّين؛ وإن كان خطابه العنصريّ هو خطاب للبيض أساساً، فقد لحق به كلّ ذي حقد دينيّ وعنصريّ من ناحية، وكلّ خائف من الآخرين والـ«غرباء» من ناحية أخرى، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الخطاب العنصريّ استفاد من الجوّ الإرهابيّ الذي نشرته القاعدة ثمّ داعش وإخوته في بلادنا، بغضّ النظر عن مسؤوليّة بعض دول العالم الديموقراطيّ وغير الديموقراطيّ في نشوء هذا الإرهاب أو استمراره.
من هنا، فإنّ حائط ترامب مع المكسيك ليس أمراً بعيداً لا شأن لنا به، إذ يجب النظر إليه في الإطار نفسه: إطار صعود خطّ عنصريّ إسلاموفوبي (ينشر الخوف من المسلمين) ومحتقر للنساء ولغير «البيض»، خطّ لن يتوانى عن ارتكاب المذابح بحقّ الشعوب الأخرى. هناك بين شعوبنا من يعقلن دعمَه وحماسته لأقوال ترامب وقراراته ومشاريعه، من بناء حائط على الحدود مع المكسيك، إلى حظر دخول مواطني بعض الدول ذات الغالبية المسلمة إلى أميركا، حتّى لو كانوا يملكون إقامات، ويدرسون أو يعملون في الولايات المتّحدة، هذه العقلنة تتذرّع بأنّ الأمر موضوع سياديّ، وداخليّ، إلخ. وعندما يتمّ نقد حائط ترمب ووصفه بالعنصريّ، يقف بعض الناس موقفاً دماغياً بحتاً، متوقفين على ظاهر الأمور وتقنياتها، فيتحججون بأن من الضروري حماية حدود كلّ بلد، وأنّ هذا أمر طبيعيّ ومشروع، وأنّ ترامب يعمل مصلحة بلاده، وأنّنا نتمنّى أن نضبط الحدود في لبنان أو سوريا، إلخ. لكن يغيب عن بالهم أنّ النقد لا يطال الحائط، أو عمليّة بنائه وكيفيّتها، أو موضوع حماية حدود بلد ما؛ فالأمور لا تُنتقد بظاهرها، وإنّما بما تعنيه وما تؤدّي إليه. إنّ الحائط الذي يحلم به ترامب، ومريدوه، والمتحمّسون له من بلادنا، هو حائط عنصريّ، وتعبير عن عنصريّة، مثله مثل حائط الفصل العنصريّ في فلسطين المحتلة، وذاك الذي في صيدا. لم يتكلّم ترامب على حائط حول منزله، ولا عن مشاكل حدودية مع ميليشيات مسلّحة تقتحم دولته الضعيفة، وإنّما قال بأنّ المكسيكيين هم مغتصبو نساء، وتجّار مخدّرات، وأنّ «البعض منهم - كما أتصوّر – هم جيّدون». كلامه إذاً عنصريّ، والحائط هذا بالذات هو وليد هذا الفكر العنصريّ بالذات. إنّ الحائط مع المكسيك، إن تمّ بناؤه، سيكون رمزاً عنصريّاً، وسيؤدّي وجوده إلى رفع منسوب السماح للمشاعر العنصريّة بالتعبير عن نفسها عنفاً على عنفٍ، بحقّ كلّ «غريب»، بحقّ الإنسان المكسيكي، والمسلم، وبحقّ المرأة التي أظهر ترامب لها كلّ احتقار وتشييء، وبحقّ المعوّقين الذين سخر ترمب من إعاقة أحدهم ــ وهو صحافي – خلال حملته الانتخابيّة. مَنْ لم يذهب أبعد من البذلة وربطة العنق والمال، ليرى ملامح القمع والجريمة في كلام ترامب وتصرّفاته، ما زال متمسّكاً بقشرة الواقع.
بالطبع، لم تغلق فصول القرار الأخير حول منع دخول سكّان سبعة بلدان إلى الولايات المتّحدة (قبل أن يستثني العراق قبل يومين)، فمستقبل القرار لا يحدّده ترامب وحده. هناك مقاومة متنامية لقرارات ترامب من قبل جزء من سكّان الولايات المتّحدة، ومن قبل أصحاب الشركات العملاقة المتضرّرة من أفعاله، وهناك ردّات فعل ملحوظة في جامعات عدة في الولايات المتحدة أعلنت أنّها تفتح حرمها ملاذاً آمناً للمهاجرين؛ وقد بلغت ردّات الفعل البلد المجاور كندا، حيث أعلنت قطاعات واسعة من النقابات والجامعات والجمعيّات مواقف مناهضة لسياسات ترامب وخطابه العنصريّ الواضح.
إنّ كلام ترامب وفحوى خطابه وقراراته بحقّ المكسيكيين والمسلمين، وأيضاً كلام بعض السياسيين الكنديين العنصريّ، وكلّ كلام عنصريّ قد ينطق به أيّ واحد منّا، هو الذي يبيح «أخلاقيّاً» الجرائم الحالية، واللاحقة التي سترتكب، بحقّ متحدّرين من تلك البلدان أو الأديان. هذا الفكر العنصريّ الذي يعبّر عن نفسه بأشخاص يترأسّون أحزاباً أو دولاً، وأشخاص يحضنون هؤلاء الرؤساء فكريّاً وشعوريّاً، هو ما يعطي ذريعة للجريمة، لأنّه يؤمّن مشروعيّة «أخلاقيّة»، وسماحاً «أخلاقيّاً» لكلّ أنواع الممارسات اللاأخلاقيّة، بحقّ مَن يصوّرهم هذا الفكر بأنّهم أقلّ من بشر، وغير متساوين في الكرامة. إنّ اسم «هتلر» اليوم يرنّ بشكل خاص في الأذن، لأنه يعبّر عن الجريمة والتدمير والإبادة، ولكن عندما أتى رجل اسمه أدولف هتلر إلى الحكم في ألمانيا، كان اسمه اسماً عادياً، ولا يحمل أيّ رمز وحشيّ. فلينتبه كلّ إنسان اليوم إلى ألّا يكون مشدوداً، من حيث لا يدري، إلى شخصيّة مدمّرة ومليئة بالكراهية للحياة، هي شخصيّة ترامب. إنّ كلّ خطوة انغلاق عن آخرين، ولامبالاة بحقّهم، هي خطوة تأخذ الإنسان إلى نواح مظلمة. الأمر لا يتطلّب أكثر من خطوة أولى منحازة، لتليها خطوة أكثر انحيازاً، لتصل في نهاية الخطّ إلى دعم العنف ضدّ الأبرياء والحروب العبثيّة.
إنّ حائط ترامب ليس موضوع حماية حدود. هو واقعيّاً، كما جاء في سياق خطاب ترامب العنصريّ، مسألة عنصريّة، ولهذا فإنّ كلام البابا فرنسيس الذي أطلقه بعد زيارته المكسيك وحدودها مع الولايات المتّحدة، بأنّ «مَنْ لا يفكّر سوى ببناء الجدران... ليس بمسيحي» هو كلام في موضعه، لأنّ البابا فرنسيس لم يعلّق حول مسألة حدود وحمايتها، وإنّما علّق على مسألة الانغلاق الفكري والقلبيّ الذي يرمز له الحائط، علّق على مسألة الانغلاق الذي يقطع به الإنسان نفسه عن غيره من البشر، فيرى شعوباً بأكملها أنّها مجرّد مجموعة من المغتصبين وتجار المخدّرات، أو مجموعة من الإرهابيّين، أو غير ذلك. إنّ الحائط عنصريّ، وبالتالي غير مسيحي. إنّ كلمات البابا هي على نقيض حادّ مع محاولة البعض تسويق ترامب والعنصريين أمثاله في كندا، على أنّهم مسيحيّون مخلصون طيّبون. إنّ كلام البابا على نقيض مع الموتورين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين ينشرون صور ترامب يوقّع مراسيمه، والمسيح خلفه يمدّ يده موقّعاً معه، هؤلاء هم على مثال الموتورين الذين رسموا صور القديسين على طائرات الروس في سوريا؛ هؤلاء يُلسبون مواقفهم السياسية والعسكرية لباس الدين، كداعش تماماً.
إنّ العودة إلى إنجيل يسوع المسيح، ومسيح الإنجيل، تبيّن بوضوح، أنّ المسيح ــ الذي يعلو تعليمه وممارساته على أيّ كلام أو توصية أو تفسير أو ممارسة في التراث المسيحي ــ يلزم المسيحيين بأن يقفوا مع المستضعف المصلوبِ على قراراتٍ وتصرّفات جائرة، لكي يبقوا واقفين مع المسيح. في كندا، إنّي اليوم مسلمٌ لأنّي أرجو أن أكون مسيحيّاً.
* أستاذ جامعي
مراجع:
١- Hassan٬ G.٬ Mekki-Berrada٬ A.٬ Rousseau٬ C.٬ Lyonnais-Lafond٬ G.٬ Jamil٬ U.٬ & Cleveland٬ J. (2016). Impact of the Charter of Quebec Values on psychological well-being of francophone university students. Transcultural Psychiatry
٢- Nadeau٬ F. & Helly٬ D. «Extreme Right in Quebec?: The Facebook Pages in Favor of the “Quebec Charter of Values”.» Canadian Ethnic Studies٬ vol. 48 no. 1٬ 2016٬ pp. 1-18.
٣- Tessier٬ C.٬ & Montigny٬ É. (2016). Untangling myths and facts: Who supported the Québec Charter of Values? French Politics٬ 14(2)٬ 272-285.
خريستو المر