الغاز «المسيّل للدموع» سلاحٌ كيميائي مؤذٍ معوِّق وقاتل
الجمعة 28 تشرين ثاني/نوفمبر، ٢٠١٩
لا يوجد كلمة واحد عن الغازات المسيّلة للدموع على الموقع الرسمي لوزارة الداخليّة والبلديات اللبنانيّة. ولكن حول العالم، يسوّق الغاز المسيل بالدموع بواسطة المسمّى نفسه بأنه غاز بريء غير مؤذ، يسبب الدموع ليس إلاّ. الواقع أنّ للغاز المسيل للدموع يأتي مباشرة من الغازات السامّة التي انتجها الأوروبيّون في الحرب العالميّة الأولى.
الغاز المسيل للدموع هو سلاح كيميائيّ، مهما قال عنه العسكريّون والشرطة والحكومات أنّه «حضاريّ». بحسب الاختصاصيّين، هناك عدّة أنواع من الغاز المسيل للدموع (مثل CS, OCK, PAVA)، وهي تحتوي على مواد يمكن أن تسبب السرطان وكذلك العيوب الخلقية؛ وعادة ما تورد الشركات المنتجة تحذيرات من إمكانيّة تسبيبها بأذى دائم أو بالموت.
يعود استخدام هذا الغاز إلى الحرب العالميّة الأولى عندما رمى الفرنسيّون في شهر آب من عام 1914 الجنود الألمان بعبوات من غاز يدعى methylbenzyl bromide، ممّا اضطرّ الجنود الألمان للخروج من تحصيناتهم فقتلهم الجنود الفرنسيّين على الفور. وردّ الألمان برميهم الفرنسيّين بغاز الكلورين في نيسان/أبريل عام 1915، كما تورد الباحثة أنّا فاينجينباوم في كتابها حول الغاز المسيل للدموع(1).
بعد انتهاء الحرب، أراد هؤلاء الذين شاركوا في الحرب الكيميائية خاصة في الولايات المتحدة، تطوير ما أسموه "استخدامات سلميّة لغازات حربيّة". تشرح فاينجينباوم أنّ الولايات المتحدة وألمانيا وجنوب أفريقيا كانوا من أوّل المتبنين للغاز ولحقتهم بريطانيا؛ وقد روّجت الولايات المتحدة لاستخدام الغاز هذا على المستوى الدولي. رغم ذلك فتورد مصادر متعدّدة أنّ الغاز هذا ممنوع من الاستخدام في الحروب بحسب بروتوكول جينيف 1925، واتّفاقيّة الأسلحة الكيميائيّة لعام 1993(3).
وقد وقع الاختيار على هذا الغاز لأنّه كان يمكن استخدامه عمليّا لقمع المتظاهرين والحفاظ على «الأمن» الداخلي، بقليلٍ من التدريب ودون تكلفة عالية، ولأنّه يمكن استعماله على مساحات واسعة، عن بُعد، وعلى أفراد عديدين؛ والأهمّ أنّه يمكن تسويقه بأنّه سلاح «غير قاتل» ولا يثير سوى نزول الدموع (كما يوحي اسمه)، كما أنّه إن تسبّب بالقتل فإنّه لا يتسبّب بإهراق الدم (كالمسدّسات والرشّاشات) وهو ما تفضّل الشرطة عادة تجنّبه أثناء عمليّات القتل التي تمارسها في جمهوريّات ديموقراطيّة أم جمهوريّات شكليّة مثل لبنان. وتلاحظ فاينجينباوم بذكاء أنّ عمليّة الفرار الاضطراريّ الذي تسبّبه الغازات تلك في الجماهير المحتشدة تعطي الانطباع بالفوضى ولكأنّ الفوضى هي التي سبّبت إطلاق الغاز وليس الغاز هو الذي سبّب الفوضى، إذ عندها "أي شيء يبدو سلميًا، سوف يبدو أشبه بأعمال شغب. أي شيء يبدو هادئًا سيبدو شيئًا فوضويًا، وهذا التحول في الصور التي تغطيها وسائل الإعلام، يجعل الأمر يبدو وكأن الشرطة لها ما يبررها في استخدامها للسيطرة لأنها اضطرت إلى السيطرة على تلك الفوضى"(5).
وبالرغم من أنّه لا يوجد أرقام مبيعات دقيقة للغاز «المسيل للدموع» لأنه لا يوجد توثيق لتجارته لا على مستوى وطني أو دولي، فإنّ فاينجينباوم تشير إلى أنّه منذ انطلاق الانتفاضات في العالم العربيّ عام 2011 بات المصنّعون يتفاخرون بأن المبيعات قد تضاعفت ثلاث مرات.
أسلحة غير مؤذية؟
طبعا يتمّ التسويق للغاز «المسيل للدموع» على أنّه لا يتسبّب للقتل ولكن الحقيقة أنّ هذا الغاز يقلّل من إمكانيّة القتل ولا ينفيها تماما. ففي البحرين مثلا قتل 34 متظاهرا جرّاء الغاز «المسيل للدموع»(2). كما أنّ الغاز يسبّب بأذى دائم؛ ففي بحث خاص بالموضوع شمل 5131 شخصا أصيبوا بالغاز، وثّق الباحثون حالتي وفاة و70 حالة إعاقة دائمة جرّاء الغاز (حوال 1.3 في المائة من المصابين)، كما وثّقت الدراسة أنّ الأسطوانات التي تحتوي الغاز تسبّبت بـ 231 إصابة 63 منها (27%) كانت إصابات فادحة؛ كما وثّقت 73 إصابة في الرأس والرقبة منها 6 حالات فقدان بصر، و 45 إصابة في الصدر والبطن والظهر والأعضاء التناسليّة، و95 حالة من الإصابات في الذراعين والرجلين تسبّبت بثلاث حالات من البتر و16 حالة من الإصابات الخطرة التي تسبّبت بإعاقة في أحد الأطراف. وخلصت الدراسة الواسعة تلك إلى أنّه "يمكن [للغاز] أن يتسبب بإصابات كبيرة وإعاقة دائمة وموت"(4)؛ وبالنسبة للميت وأهله لا يوجد موت بسبب غاز سلمي وآخر بسبب غاز حربيّ، كما وبالنسبة للمعوّق وأهله لا يوجد إعاقة بسبب غاز سلمي وأخرى بسبب غاز حربيّ.
في عام 1918، نشر الشاعر-الجندي البلجيكي دان بوينز، شهادته عن حرب الغازات بين الفرنسيين والألمان وتستشهد فينينباوم بالقصيدة:
"الرائحة الكريهة لا تطاق، بينما الموت يسخر
والأقنعة حول الخدين تبدو كأنوف حيوانات وحشية،
الأقنعة بعيون برّية، مجنونة أو لا معقولة،
جثثهم تنجرف حتى تتعثر بالفولاذ.
الرجال لا يعرفون شيئًا، يتنفسون في خوفٍ.
أيديهم تشبث بالأسلحة كأنّها عوامّة لغريق،
إنهم لا يرون العدو، الذي يلوح في الأفق ملثم هو الآخر،
ويقتحمونه مخبئين في حلقات الغاز.
وهكذا في الضباب القذر، تحدث أكبر جريمة قتل".
خريستو المرّ
مراجع
(1) Feigenbaum, A. (2017). Tear Gas: From the Battlefields of World War I to the Streets of Today: Verso Books.
(2) Physicians for Human Rights. (2012). Tear Gas or Lethal Gas? Bahrain’s Death Toll Mounts to 34. Retrieved from https://phr.org/our-work/resources/tear-gas-or-lethal-gas-bahrains-death-toll-mounts-to-34
(3) The Economist. (2019). Banned in warfare, tear-gas is the default response to controlling protests. Retrieved from https://www.economist.com/international/2019/11/14/banned-in-warfare-tear-gas-is-the-default-response-to-controlling-protests
(4) International Network of Civil Liberties Organizations. (2019). LETHAL IN DISGUISE: The Health Consequences of Crowd-Control Weapons. Retrieved from https://www.inclo.net/issues/lethal-in-disguise/
(5) Tremonti, A. M. (2018). The Current: November 28, 2018. Retrieved from https://www.cbc.ca/radio/thecurrent/the-current-for-november-28-2018-1.4922257/nov-28-2018-episode-transcript-1.4924306
الغاز المسيل للدموع هو سلاح كيميائيّ، مهما قال عنه العسكريّون والشرطة والحكومات أنّه «حضاريّ». بحسب الاختصاصيّين، هناك عدّة أنواع من الغاز المسيل للدموع (مثل CS, OCK, PAVA)، وهي تحتوي على مواد يمكن أن تسبب السرطان وكذلك العيوب الخلقية؛ وعادة ما تورد الشركات المنتجة تحذيرات من إمكانيّة تسبيبها بأذى دائم أو بالموت.
يعود استخدام هذا الغاز إلى الحرب العالميّة الأولى عندما رمى الفرنسيّون في شهر آب من عام 1914 الجنود الألمان بعبوات من غاز يدعى methylbenzyl bromide، ممّا اضطرّ الجنود الألمان للخروج من تحصيناتهم فقتلهم الجنود الفرنسيّين على الفور. وردّ الألمان برميهم الفرنسيّين بغاز الكلورين في نيسان/أبريل عام 1915، كما تورد الباحثة أنّا فاينجينباوم في كتابها حول الغاز المسيل للدموع(1).
بعد انتهاء الحرب، أراد هؤلاء الذين شاركوا في الحرب الكيميائية خاصة في الولايات المتحدة، تطوير ما أسموه "استخدامات سلميّة لغازات حربيّة". تشرح فاينجينباوم أنّ الولايات المتحدة وألمانيا وجنوب أفريقيا كانوا من أوّل المتبنين للغاز ولحقتهم بريطانيا؛ وقد روّجت الولايات المتحدة لاستخدام الغاز هذا على المستوى الدولي. رغم ذلك فتورد مصادر متعدّدة أنّ الغاز هذا ممنوع من الاستخدام في الحروب بحسب بروتوكول جينيف 1925، واتّفاقيّة الأسلحة الكيميائيّة لعام 1993(3).
وقد وقع الاختيار على هذا الغاز لأنّه كان يمكن استخدامه عمليّا لقمع المتظاهرين والحفاظ على «الأمن» الداخلي، بقليلٍ من التدريب ودون تكلفة عالية، ولأنّه يمكن استعماله على مساحات واسعة، عن بُعد، وعلى أفراد عديدين؛ والأهمّ أنّه يمكن تسويقه بأنّه سلاح «غير قاتل» ولا يثير سوى نزول الدموع (كما يوحي اسمه)، كما أنّه إن تسبّب بالقتل فإنّه لا يتسبّب بإهراق الدم (كالمسدّسات والرشّاشات) وهو ما تفضّل الشرطة عادة تجنّبه أثناء عمليّات القتل التي تمارسها في جمهوريّات ديموقراطيّة أم جمهوريّات شكليّة مثل لبنان. وتلاحظ فاينجينباوم بذكاء أنّ عمليّة الفرار الاضطراريّ الذي تسبّبه الغازات تلك في الجماهير المحتشدة تعطي الانطباع بالفوضى ولكأنّ الفوضى هي التي سبّبت إطلاق الغاز وليس الغاز هو الذي سبّب الفوضى، إذ عندها "أي شيء يبدو سلميًا، سوف يبدو أشبه بأعمال شغب. أي شيء يبدو هادئًا سيبدو شيئًا فوضويًا، وهذا التحول في الصور التي تغطيها وسائل الإعلام، يجعل الأمر يبدو وكأن الشرطة لها ما يبررها في استخدامها للسيطرة لأنها اضطرت إلى السيطرة على تلك الفوضى"(5).
وبالرغم من أنّه لا يوجد أرقام مبيعات دقيقة للغاز «المسيل للدموع» لأنه لا يوجد توثيق لتجارته لا على مستوى وطني أو دولي، فإنّ فاينجينباوم تشير إلى أنّه منذ انطلاق الانتفاضات في العالم العربيّ عام 2011 بات المصنّعون يتفاخرون بأن المبيعات قد تضاعفت ثلاث مرات.
أسلحة غير مؤذية؟
طبعا يتمّ التسويق للغاز «المسيل للدموع» على أنّه لا يتسبّب للقتل ولكن الحقيقة أنّ هذا الغاز يقلّل من إمكانيّة القتل ولا ينفيها تماما. ففي البحرين مثلا قتل 34 متظاهرا جرّاء الغاز «المسيل للدموع»(2). كما أنّ الغاز يسبّب بأذى دائم؛ ففي بحث خاص بالموضوع شمل 5131 شخصا أصيبوا بالغاز، وثّق الباحثون حالتي وفاة و70 حالة إعاقة دائمة جرّاء الغاز (حوال 1.3 في المائة من المصابين)، كما وثّقت الدراسة أنّ الأسطوانات التي تحتوي الغاز تسبّبت بـ 231 إصابة 63 منها (27%) كانت إصابات فادحة؛ كما وثّقت 73 إصابة في الرأس والرقبة منها 6 حالات فقدان بصر، و 45 إصابة في الصدر والبطن والظهر والأعضاء التناسليّة، و95 حالة من الإصابات في الذراعين والرجلين تسبّبت بثلاث حالات من البتر و16 حالة من الإصابات الخطرة التي تسبّبت بإعاقة في أحد الأطراف. وخلصت الدراسة الواسعة تلك إلى أنّه "يمكن [للغاز] أن يتسبب بإصابات كبيرة وإعاقة دائمة وموت"(4)؛ وبالنسبة للميت وأهله لا يوجد موت بسبب غاز سلمي وآخر بسبب غاز حربيّ، كما وبالنسبة للمعوّق وأهله لا يوجد إعاقة بسبب غاز سلمي وأخرى بسبب غاز حربيّ.
في عام 1918، نشر الشاعر-الجندي البلجيكي دان بوينز، شهادته عن حرب الغازات بين الفرنسيين والألمان وتستشهد فينينباوم بالقصيدة:
"الرائحة الكريهة لا تطاق، بينما الموت يسخر
والأقنعة حول الخدين تبدو كأنوف حيوانات وحشية،
الأقنعة بعيون برّية، مجنونة أو لا معقولة،
جثثهم تنجرف حتى تتعثر بالفولاذ.
الرجال لا يعرفون شيئًا، يتنفسون في خوفٍ.
أيديهم تشبث بالأسلحة كأنّها عوامّة لغريق،
إنهم لا يرون العدو، الذي يلوح في الأفق ملثم هو الآخر،
ويقتحمونه مخبئين في حلقات الغاز.
وهكذا في الضباب القذر، تحدث أكبر جريمة قتل".
خريستو المرّ
مراجع
(1) Feigenbaum, A. (2017). Tear Gas: From the Battlefields of World War I to the Streets of Today: Verso Books.
(2) Physicians for Human Rights. (2012). Tear Gas or Lethal Gas? Bahrain’s Death Toll Mounts to 34. Retrieved from https://phr.org/our-work/resources/tear-gas-or-lethal-gas-bahrains-death-toll-mounts-to-34
(3) The Economist. (2019). Banned in warfare, tear-gas is the default response to controlling protests. Retrieved from https://www.economist.com/international/2019/11/14/banned-in-warfare-tear-gas-is-the-default-response-to-controlling-protests
(4) International Network of Civil Liberties Organizations. (2019). LETHAL IN DISGUISE: The Health Consequences of Crowd-Control Weapons. Retrieved from https://www.inclo.net/issues/lethal-in-disguise/
(5) Tremonti, A. M. (2018). The Current: November 28, 2018. Retrieved from https://www.cbc.ca/radio/thecurrent/the-current-for-november-28-2018-1.4922257/nov-28-2018-episode-transcript-1.4924306