الظلم والعنف البنيويّين: تشويه الإيمان والخيار الصعب بين النضال اللاعنفيّ والنضال العنفيّ
مجلّة تيلوس، العدد صفر -تشرين ثاني/ نوفمبر ٢٠١٩
خريستو المرّ
عند التأمّل بموضوع العنف في الحروب لتلمّس قراءة مسيحيّة، من الضروري وضع هذا التأمّل في إطار الواقع لئلا يأتي الكلام عامّا منفصلاً عن واقع الظلم والتوق لتحقيق العدالة، وتبقى المبادئ مجدبة غير قادرة على إلهام الواقع. من جهة أخرى، ينبغي الانتباه كي يأتي التحليل ملتصقًا بإنجيل يسوع المسيح وحياته وتعاليمه، لئلاّ ينحدر التحليل إلى واقعيّة تستسهل الحلول التي تبرّر أشنع الممارسات وتخالف مبادئ الإيمان بيسوع المسيح.
1 ظلم العنف السافر: بعضٌ من واقعتخضع البقعة الجغرافيّة الممتدّة بين غرب أسية وشمال أفريقيا (العالم العربيّ) لعنف خارجيّ مستمرّ منذ حوالي المائتي عام؛ فبين حملة نابليون على مصر 1798 وغزو العراق من الجيش الأميركيّ عام 2003 كان العالم العربيّ مسرحا لغزوات واحتلالات وحملات عسكريّة أوروبيّة وأميركيّة واسرائيليّة متتالية (مدعومة من قوى إقليميّة) بالإضافة إلى حروب عربيّة-عربيّة بتدخّل أوروبيّ أو أميركيّ مباشر، وقد أحصينا ستّة وعشرين حربًا بمعدّل حرب واحدة كلّ حوالي ٨ سنوات ونيّف (جدول ١)، رافقها تهديم إنسانيّ وأخلاقيّ ومعنويّ ومادّي، وهدرٍ للثروات، ونهبٍ لها.
جدول رقم ١: أهمّ الغزوات والحروب التي شنّت على (وفي) العالم العربيّ منذ حملة نابليون بونابارت عام ١٧٩٨
إنّ هذه الحروب التي تهدف، ككلّ الحروب، إلى استغلال موارد هذه البلاد وإخضاع سكّانها الأصليّين، هي من العوامل الأساس المسؤولة عن عدم تقدّم البلاد العربيّة على طريق الازدهار والحرّيات العامّة؛ بالإضافة لأنظمة الحكم القمعيّة المتحالفة مع العدوان والاستغلاليّ الخارجيّين. في هذا المحيط، تتميّز الحرب اللبنانيّة بقيام ميليشيات عَرَّفَت على نفسها بأنّها "مسيحيّة" بخوض الحرب وارتكاب المجازر، ومن هنا تكتسب أهمّية خاصّة.
2 ظلم العنف الخفيّ: ذاك العنف المنسيّبالإضافة إلى العنف الحربيّ، هناك عنف ٌآخر منسيّ ألا وهو عنفُ القمعِ السياسيّ، في فترات "السلم"، والذي يعمل على أسر إرادة وأجساد ملايين من المواطنين، ويرتكب بحقّ الكثيرين منهم التعذيب والقتل. وهناك أيضًا عنفٌ "ناعمٌ" أكثر خبثًا، يقتل كما يقتل العنف الدمويّ، وإنّما بصمت دون إسالة دماء. فتحت مسمّى "الموت" من المرض تقتل أنظمة الاستغلال الداخليّة-الخارجيّة المواطنينَ بتلويث بيئتهم (مياه، هواء، غذاء) وإهمال معايير السلامة؛ وإهمال الخدمات الطبّية المجانيّة... وتحت مسمّى "التسرّب المدرسيّ" تخفي نظم الاستغلال واقع مساهمتها المباشرة بتفقير عائلات تلجأ إلى دفع أولادها للعمل المبكر. وأمّا مسمّى "مستويات الذكاء" المنخفضة، فيخفي مسؤوليّة نظم الاستغلال عن قلّة التغذية والفقر وأثرهما على الدماغ. إلى ما هنالك من عنف جسديّ ومعنويّ يحدث بصمت تحت ستار "حال الدنيا" و"طبيعة الحياة".
3 ظلم عنف الفصل العنصريّ الاسرائيليّوهناك حالة خاصّة من العنف السافر والمعنويّ الذي يتعرّض له الفلسطينيّون داخل كامل فلسطين المحتلّة، إنّه عنفٌ بنيويٌّ يشكّل سياسةَ فصل عنصريّ، بشهادة المطران ديزموند توتو الذي أعلن أنّه يجب على المسيحيين أن يروا في إسرائيل دولة فصل عنصريّ، ونوّه مرارا بالشبه الكبير بين النظام الاسرائيليّ ونظام الفصل العنصريّ الجنوب أفريقيّ البائد. وقد كان للكنائس المسيحيّة في فلسطين مواقف متعدّدة تشير فيها إلى أنواع القمع الذي يتعرّض له الفلسطينيّون من قبل نظام الأبارتهايد الاسرائيليّ وتدعو لمقاطعته.
4 تأمّلات في ضوء رسالة الانجيلكيف يتعامل الإنسان المسيحيّ مع كلّ هذا العنف؟ سنكتفي هنا بالإشارة إلى موقفين مسيحيّين من العنف من خلال رأي للمطران جورج خضر (جبل لبنان للروم الأرثوذكس)، ومن خلال قراءة لنتاج المفكّر اللاهوتيّ كوستي بندلي من خلال كتبه "نضال عنفي أم لا عنفيّ لإحقاق العدالة"، و"المحبّة والعدالة والعنف"، و"النضال اللاعنفيّ ملامح وصور".
الموقف المسيحيّ الأساس هو رفض ممارسة العنف، انطلاقا من مواقف وتعاليم يسوع، ومن فهم المسيحيين أنّ القتل لم يكن يوما من مقاصد الله في الكون، ومن أنّ الإنسان - مهما فعل من شرور – يبقى أخًا/أختًا في عائلة الله الآب. يعبّر المطران خضر عن هذا الموقف في حديث له بعنوان "العنف في منظور اللاهوت المسيحي" بقوله "ولكون العنف يثير العنف، ينبغي أن تعفَّ عنه ليبطل – بغفرانك – البغض الذي حلَّ في خصمك. هذا هو معنى قول الناصري: لا تقاوموا الشَّر. ذلك إنَّ المحبة هي ذروة السعي لمحو الشَّر عند الآخر... أنت مقتنع أنَّ أحدًا لا يؤذي نفسك، ولو أضرَّ بمصالحك أو جسدك. أنت ترى أنّه آذى نفسه فقط، لذلك عيَّنكَ الله طبيبًا له... بالحب". هذا الموقف هو موقف المحبّة المطلقة التي تأنف أن تقتل مهما كان السبب، يمثّلها أيّما تمثيل يسوع المسيح الإله المتجسّد المعلّق على الصليب ضحيّةً بريئة.
أمّا كوستي بندلي، وهو دكتور في الفلسفة وأخصّائيّ في علم النفس، فهو ينطلق من مسلّمة ضرورة إحقاق العدالة على هذه الأرض، وهذه ليست مسلّمة مفروغا منها عند المؤمنين والمسؤولين الدينيّين. ينطلق بندلي من الضرورة الانجيليّة بالتمسّك (١) بمحبّة الأعداء التي تفترض عدم استعمال العنف، (٢) وبمقاومة الشرّ ورفع الظلم عن إخوة يسوع الصغار، فيرى بأنّ النضال اللاعنفيّ هو الوسيلة التي تسمح بتحقيق هاتين الضرورتين الانجيليّتين معًا. ويوضح بندلي أنّ النضال اللاعنفيّ يتفوّق على العنفيّ في نواح عمليّة، فهو، مثلاً، يسمح بشقّ صفوف الخصم، وبمشاركة أوسع من الشعب في تحرير ذاته.
لكنّ تحقيق العدالة يبقى المعيار الأساس عند بندلي. ولذلك رغم تفضيله للنضال اللاعنفيّ لتحقيق العدالة، يرى بأنّه إن استحال النضال اللاعنفيّ، فإنّه من الممكن ممارسة العنف لإحقاق العدالة، على أن يُمارس تحت شروط صارمة منعًا لجنوح العنف إلى التدمير، وانقلابه على غاية العدالة. فبندلي يشدّد أن العنف شرّ، ولكنّه قد يكون أهون الشرّين: شرّ ظلم العدوّ (الداخليّ أو الخارجيّ) الذي يسحق الشعب، وشرّ العنف الذي يلحق بالعدوّ عند استخدام العُنف لإحقاق العدالة.
هكذا، يبقى بندلي مشدودا إلى متطلّبات الإنجيل دون أن يغفل عينه عن الواقع، فيقف موقفًا وسطًا بين موقفين، الموقف الأوّل ينظر إلى العنف برومنسيّة أو بميكيافلّية، متعاميًا عن مخاطر استعمال العنف (كانفلات الغرائز، وانقلاب العنفيّين على المبادئ التي نادوا بها، والتنكيل، وقمع الشعب بعد تحريره)، والموقف الثاني يتمسّك بطهريّة لاعنفيّة تريد إحقاق العدالة ولكنّها ترفض ممارسة العنف مهما كلّف الثمن، فتفوّت على نفسها فرصة العدالة، فتنقلب بذلك على هدفها.
لكن حتّى المطران خضر في رفضه لممارسة العنف، يبدو أنّه لا يتطرّق إلى موضوع الحرب الدفاعيّة، وإنّما إلى موضوع تعامل الإنسان المسيحيّ مع كلّ آخر داخل مجتمع مسالم فيه عدالة وسلام؛ فيقول في حديثه عن العنف في منظور اللاهوت المسيحي: "ألا تقاوم الشرَّ بالشرِّ يتطلب جهادًا روحيًّا كبيرًا يفترض العدالة مقرونة بالسلام. أن ترفض لي عدالتي وحريتي هو أن ترفضني من جذوري" (التشديد مُضاف)، وكأنّه بذلك يترك المجال مفتوحا أمام إمكانيّة اللجوء للعنف في حالات انعدام العدالة والسلام. ويؤيّد تفسيرنا هذا مدح المطران خضر، في مقالة أخرى للمناضلين الفلسطينيّين ضدّ دولة الاستيطان العنصريّ الاسرائيليّة؛ فهو رغم إيمانه بالوسائل اللاعنفيّة إلاّ أنّه يقترب من الإقرار بضرورة النضال العنفيّ بقوله في مقالته "دخول يسوع إلى أورشليم" (النهـار، ٢٧ نيسان، ٢٠٠٢) "ستقوم فلسطين ليس فقط بمقادسها ولكن بمجاهديها الميامين." (التشديد مُضاف). وهو أعلن بوضوح في مقالة له بالفرنسيّة حول سرّ الشكر والتحرير في مجلّة كونتاكت (2019) أنّه "لا يوجد أيّ مبرّر للحرب في التراث الآبائيّ اليونانيّ، لأنّ الحرب هي الموت. لربّما يمكننا أن نقبل الحرب الدفاعيّة... أتفهّم أن يريد الإنسان أن يعيش في الحرّية وأن يدافع عن مواطنيه".
5 عنف الحروب وأثره على الإيمانبرأينا، علينا أن نقرأ رؤية بندلي المتوازنة بتأنٍّ. بندلي يسوّغ العنف فقط في ظروف قاهرة يستحيل فيها النضال اللاعنفيّ. وقد عدّد مبادئ ومعايير ينبغي أن تضبط استخدام العنف في الحروب، وشدّد عليها: اجتناب احتقار الخصم وتجريده من إنسانيّته، تجنّب مذهبة العنف وتمجيده وإضفاء مشروعيّة مطلقة عليه، حصر العنف في هدف إزالة الظلم، احترام حياة الخصم قدر الإمكان. دون هذه الضوابط من المرشّح أن يتدهور استخدام العنف (على افتراض أنّه يستعمل للتحرير والعدالة وليس لتثبيت سلطة ظالمة) إلى قمع وحشيّ، وعاجلا أم آجلا لا بدّ أن يتحوّل هدفه من "العدوّ" إلى الناس المظلومين.
في ظلّ ما تشهده منطقتنا من حروب ومجازر، من الواضح أنّه من السهل أن ينسى الإنسان الضوابط التي يجب أن تحكم أيّ لجوء إلى السلاح. فقد رأينا مرارا وتكرارا تيّاراتَ التزمت العنف لتحقيق العدالة (على الأقلّ من وجهة نظرها) ثمّ جنحت إلى استخدام العنف دون رادع، بعد أن مسخت إنسانيّة الخصوم واعتبرتهم "حشرات" أو "وحوش" أو "أوساخ" أو "سرطان" يجب "تنظيفه"، فسوّغت لنفسها ارتكاب المجازر بحقّهم وحقّ أطفالهم ونسائهم وعائلاتهم، وممارسة التعذيب، وقتل الجرحى، وتشويه الجثث، وبرّرت كلّ ذلك على أنّه دفاع عن النفس أو عن الوطن وإحقاقًا لعدالة.
وأبشع ما رأيناه في الحربين السوريّة واللبنانيّة، هو استخدام الدين نفسه للترويج للأجندات السياسيّة وللجرائم والمجازر والأفعال المشينة لهذا الفريق أو ذاك باسم المسيحيّة (وباسم الإسلام، وباسم اليهوديّة). وضاع المعيار الأخلاقيّ والقانونيّ، فانجرفت أعداد كبيرة من المسيحيّين في موجات الدعوة إلى القتل والتشفّي، متهجّمة على الجرائم عندما تصدر عن "الآخر"، ومبرّرة إيّاها عندما تصدر عن الفريق الذاتيّ. وجرى في الحرب السوريّة مثلا استخدام عبارة "الدروع البشريّة" التي استخدمها جيش الاحتلال الأميركيّ عند غزو العراق، ويستخدمها جيش الاحتلال للكيان الصهيونيّ في فلسطين؛ واستخدمت وسائلَ إعلامٍ هذه العبارة التي طالما انتقدتها في ماضٍ قريب.
هكذا، فقد كان للحروب واللجوء إلى العنف أثرًا فادحًا على ترجمة الإيمان بالسلوك، فقد غدا ذاك الأخير في تضاد مع متطلّبات الانجيل، فخان الكثير من المسيحيين والمسيحيات مسيحهم، وهو أمر يجب أن يُقال بوضوح.
6 عنف السلم وأثره على الإيمانبالإضافة إلى العنف الدمويّ المستمرّ حتّى اليوم، بقي عنفُ القمع اليوميّ الداخليّ سيّد الموقف بعد التحرّر من المستعمر الخارجيّ، ما خلا فلسطين التي تخضع لاحتلال من قبل القائمين على آخر مشروع استيطانيّ على وجه الكوكب. هذا العنف اليوميّ المسكوت عنه، عنف أزمنة السلم، كان له أيضا أثرًا ملحوظًا هو الآخر على الإيمان المسيحيّ، وأدّى إلى تشوّهات إيمانيّة بارزة.
ففي ظلّ أنظمة قمعيّة لا تترك للمرء حرّية التعبير دون خوف من فقدان حياته، أو السجن التعسّفيّ، أو التعذيب، يجنح المرء إلى (١) اجتناب أيّ نقد من أيّ نوع لأيّة سلطة، (٢) والشعور بالحاجة الدائمة للحماية من تعسّفات الحكم، (٣) وانعدام الأمان والثقة بالآخر. هذا كلّه يدفع بالإنسان إلى مواقف مخالفة للإنجيل، منها اثنين: الأوّل هو اجتناب العمل العام والانطواء على إيمان محصور بالطقوس والخدمة الاجتماعيّة، والثاني هو الاشتراك بممارسة العنف اليوميّ.
6 .1 الانطواء الطقوسيّالمسيحيّة ليس دينا "ما ورائيّا" يقضي فيه المرء حياته كأنّه يحيا "خارج العالم"، فيسوع قد صلّى إلى الآب قائلاً "لا أطلب منك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرّير". لكنّ العيش في ظلّ العنف المعنويّ للأنظمة القمعيّة يؤدّي بالإنسان إلى تضييق هامش اهتماماته إلى دوائر أصغر فأصغر، وحصر اهتماماته في شؤون العائلة والقضايا الكنسيّة الداخليّة؛ والحالة الوحيدة التي عمل فيها المسيحيّون في الشأن العام بشكل بارز كانت في لبنان، ولكنّها حالة عبّرت عند قطاعات واسعة ليس عن الانجيل وإنّما عن مخالفة له ولمتطلّباته، إذ كان حالة انطواء طائفيّ شوفينيّ.
إنّ العنف اليوميّ للأنظمة هو من العوامل الموضوعيّة التي أدّت إلى انطواء على الطقوس، وإلى "زهد" غير إنجيليّ بالشأن العام، وتضخّم غير صحّي لناحية مهمّة من الحياة المسيحيّة - ولكنّها تبقى ناحية وليست كلّ شيء - ألا وهي الصلاة والصوم وكتابات الرهبان، وهي ناحيةٌ تكاد تلتهم كلّ النواحي الحياتيّة الأخرى كالاهتمام بالتربية، وبالأدب، والفنون، والعلوم، بل وحتّى الإنجيل نفسه، إذ يغيب في بعض الأحاديث والكتابات أيّ استلهام ليسوع وكلامه وحياته ويُكتفى بترداد كتابات الرهبان والآباء.
إنّ العنف اليوميّ في أزمنة السلم هو جزء أساس من الأسباب التي أدّت إلى الفصام الذي نراه منتشرا بين الأفكار والأعمال، بين معرفة تفاصيل العقائد وممارسة الطقوس وبين الانسحاب الكلّي من الحياة العامة، وضعف الحسّه النقديّ (الذي يحتاج إلى حرّية)، وانتشار ذهنيّة الخضوع والاستزلام. وحتّى في بلد فيه مجال مقبول من الحرّية كلبنان، تنتشر ذهنيّة الاستزلام والخضوع بسبب انتشار العنف المعنويّ المتمثّل بالاستغلال والتفقير ورمي الفتات من الحقوق مقابل الخضوع الاعمى للسياسيّين.
6 .2 الفصام والاشتراك بممارسة العنف اليوميّفي ظلّ التربية على الخضوع، والخوف، والعيش على مستوى تزوير الوجود، يُدفع المواطن بحكم الأجواء القمعيّة (الجسديّة أو المعنويّة) إلى الكذب، فيَشكر المتسلّطين عندما يُطلب منه ذلك، ويعيد انتخابهم أو "مبايعتهم" (والاثنين لا يختلفان سوى بالشكل في ظلّ التلاعب بقوانين الانتخابات)، ويحيا المواطن عامّة في خوف من "الأقوى"، وتحامل على "الأضعف" للتعويض عن واقعه.
هذا الوضع هو أيضًا وراء انتشار العنف، والخضوع والتسلّط معا (وهما دائما يترافقان)، في الكنيسة بين الإكليروس، وبين الشعب والإكليروس، وفي المجتمع عامّة. وهذا يعكس من جديد العيشِ الفصاميّ بين متطلّبات الإيمان المعروفة فكريًّا، وبين العيش العمليّ لها.
تبيّن علوم النفس أنّ الفراغ الداخليّ الذي يعيشه الإنسان المقموع، فراغ التهميش والإذلال، يؤسّس للمرارة، ولتصاعد الغضب، ولتصاعد عنفٍ كامنٍ ينتظرُ اللحظة المتاحة لينفجر. بيد انّ الشعور الداخليّ بالرغبة في الانتقام مخيفٌ في ظلّ القمع، لهذا يهرب الإنسان منه بالمزيد من الرضوخ وإظهار عكس ما يشعر، في كبتٍ للمشاعر عن مستوى الإدراك والوعي، فيعيش على مستوى تزوير الوجود. هكذا يُظهر الإنسان الطاعة والرضوخ ويخفي ذاتاً مهزومة تنفجر في عنف مدوٍّ عند أقلّ مشكلة. وإن كان البعض يظهر مظاهر "القوّة" إلاّ أنّه راضخ لمن هو " أقوى" ويحيا في تزوير الوجود نفسه، وحتّى أعلى الهرم المهزوم أيضًا أمام الحامي الخارجيّ.
ولكنّ الوضع الفصاميّ وتزوير الوجود ليسا حكرا على الأنظمة القمعيّة السافرة، فهو وضع يشترك فيه أيضا المواطنون في بلدان ذات نظمٍ استغلاليّةٍ ولو كانت تتمتّع بهامش من الحرّية، كلبنان، فالمواطن فيها يعيش في خوف دائم: من المرض، من الفقر، من البطالة، إلخ. فإذا به يبدي الإعجاب والرضوخ للزعيم السياسيّ، ويخفي الذلّ والغضب والرغبة بالانتقام. إنّه الانشطار الكيانيّ نفسه.
7 خلاصة: أيّة وسيلة للنضال وإحقاق العدالة؟يسوع كان مواجها للسلطة الدينيّة والسياسيّة، ويجب التأكيد على أنّ النضال من أجل حياة الانسان هو الموقف المسيحيّ المنسجم مع الانجيل. كما يجب التأكيد أنّ الوسيلة المنسجمة مع الإنجيل هي النضال اللاعنفيّ. ولكن، في حال انتفت القدرة على النضال اللاعنفيّ، يجوز الانطلاق من ضرورة جمع مسؤوليّة وصيّتيّ محبّة الأعداء والدفاع عن المستضعفين، للقيام بنضال عنفيّ كحلّ أخير لتحقيق العدالة، لكن في ظلّ شروط صارمة من احترام الإنسان.
إنّ الحروب التي تشنّ لإخضاع شعوب العالم العربيّ واستغلال موارده؛ ونظام الأبرتهايد الاسرائيليّ الذي يُخضع الفلسطينيّين لسياسات التمييز العنصريّ وأنواع القمع والقتل المُمَنهج، كما والأنظمة العربيّة التي تُخضع شعوبها للعنف البوليسيّ والمعنويّ (استغلال)، يولّدان العنف في المجتمع. هذا الوضع يولّد أخطارا إيمانيّة منها كالانطواءً على الطقوس، والانسحاب "الطهريّ" غير الطاهر من العالم، والتزوير الوجوديّ، والفصام الحياتيّ، والعنف اليوميّ الذي يتفلّت عنفًا أعمى يُترجم ارتكابًا لمجازر، وتهليلاً لها، واستخداما لله لتبريرها، وتقديسًا لسياسات قمعيّة واستغلاليّة. إنّ أحد المشاكل الكبرى التي تعاني منها الكنائس، برأيي، هو أنّ آثار العنف السافر (القمع) والخفيّ(استغلال) على الإيمان في أزمنة السلم لم تُحلّل كفاية، ولهذا لا يوجد تشديد تربويّ مسيحيّ على ضرورة مواجهته والحرص على الانتباه من مخاطِره.
إنّ الكنيسة تحتاج إلى التحديق بكلّ وضوح بالظلم والعنف البنيويّين المرسومَين في الأنظمة، والمساهمَين بتشويه الإيمان، وإدانتهما عوض غضّ النظر عنهما. إنّ البلاد العربيّة التي يقطنها مسيحيّون، تفتقر في الحقل العام إلى التزام مسيحيّ، إنجيليّ، لا طائفيّ، لا عُنفيّ، يعمل لتحرير الإنسان من العوز المادّي (الاستغلال) ومن العوز المعنويّ (العوز إلى الحرّية)، التزاما يعمل مع الجميع في المجتمع، من أجل "المدينة الآتية" (عبرانيين ١٣: ١٤) برسم ملامحها في الحياة العامّة في المدينة الحاضرة أحياءَ في الزمن الذي يأتي "وهو اليوم حاضر"، شاهدين "للحقّ الحاضر" (٢ بطرس ١: ١٢)، عدلا وحرّية وكرامة ينعم بها جميع خلق الله.
عند التأمّل بموضوع العنف في الحروب لتلمّس قراءة مسيحيّة، من الضروري وضع هذا التأمّل في إطار الواقع لئلا يأتي الكلام عامّا منفصلاً عن واقع الظلم والتوق لتحقيق العدالة، وتبقى المبادئ مجدبة غير قادرة على إلهام الواقع. من جهة أخرى، ينبغي الانتباه كي يأتي التحليل ملتصقًا بإنجيل يسوع المسيح وحياته وتعاليمه، لئلاّ ينحدر التحليل إلى واقعيّة تستسهل الحلول التي تبرّر أشنع الممارسات وتخالف مبادئ الإيمان بيسوع المسيح.
1 ظلم العنف السافر: بعضٌ من واقعتخضع البقعة الجغرافيّة الممتدّة بين غرب أسية وشمال أفريقيا (العالم العربيّ) لعنف خارجيّ مستمرّ منذ حوالي المائتي عام؛ فبين حملة نابليون على مصر 1798 وغزو العراق من الجيش الأميركيّ عام 2003 كان العالم العربيّ مسرحا لغزوات واحتلالات وحملات عسكريّة أوروبيّة وأميركيّة واسرائيليّة متتالية (مدعومة من قوى إقليميّة) بالإضافة إلى حروب عربيّة-عربيّة بتدخّل أوروبيّ أو أميركيّ مباشر، وقد أحصينا ستّة وعشرين حربًا بمعدّل حرب واحدة كلّ حوالي ٨ سنوات ونيّف (جدول ١)، رافقها تهديم إنسانيّ وأخلاقيّ ومعنويّ ومادّي، وهدرٍ للثروات، ونهبٍ لها.
جدول رقم ١: أهمّ الغزوات والحروب التي شنّت على (وفي) العالم العربيّ منذ حملة نابليون بونابارت عام ١٧٩٨
إنّ هذه الحروب التي تهدف، ككلّ الحروب، إلى استغلال موارد هذه البلاد وإخضاع سكّانها الأصليّين، هي من العوامل الأساس المسؤولة عن عدم تقدّم البلاد العربيّة على طريق الازدهار والحرّيات العامّة؛ بالإضافة لأنظمة الحكم القمعيّة المتحالفة مع العدوان والاستغلاليّ الخارجيّين. في هذا المحيط، تتميّز الحرب اللبنانيّة بقيام ميليشيات عَرَّفَت على نفسها بأنّها "مسيحيّة" بخوض الحرب وارتكاب المجازر، ومن هنا تكتسب أهمّية خاصّة.
2 ظلم العنف الخفيّ: ذاك العنف المنسيّبالإضافة إلى العنف الحربيّ، هناك عنف ٌآخر منسيّ ألا وهو عنفُ القمعِ السياسيّ، في فترات "السلم"، والذي يعمل على أسر إرادة وأجساد ملايين من المواطنين، ويرتكب بحقّ الكثيرين منهم التعذيب والقتل. وهناك أيضًا عنفٌ "ناعمٌ" أكثر خبثًا، يقتل كما يقتل العنف الدمويّ، وإنّما بصمت دون إسالة دماء. فتحت مسمّى "الموت" من المرض تقتل أنظمة الاستغلال الداخليّة-الخارجيّة المواطنينَ بتلويث بيئتهم (مياه، هواء، غذاء) وإهمال معايير السلامة؛ وإهمال الخدمات الطبّية المجانيّة... وتحت مسمّى "التسرّب المدرسيّ" تخفي نظم الاستغلال واقع مساهمتها المباشرة بتفقير عائلات تلجأ إلى دفع أولادها للعمل المبكر. وأمّا مسمّى "مستويات الذكاء" المنخفضة، فيخفي مسؤوليّة نظم الاستغلال عن قلّة التغذية والفقر وأثرهما على الدماغ. إلى ما هنالك من عنف جسديّ ومعنويّ يحدث بصمت تحت ستار "حال الدنيا" و"طبيعة الحياة".
3 ظلم عنف الفصل العنصريّ الاسرائيليّوهناك حالة خاصّة من العنف السافر والمعنويّ الذي يتعرّض له الفلسطينيّون داخل كامل فلسطين المحتلّة، إنّه عنفٌ بنيويٌّ يشكّل سياسةَ فصل عنصريّ، بشهادة المطران ديزموند توتو الذي أعلن أنّه يجب على المسيحيين أن يروا في إسرائيل دولة فصل عنصريّ، ونوّه مرارا بالشبه الكبير بين النظام الاسرائيليّ ونظام الفصل العنصريّ الجنوب أفريقيّ البائد. وقد كان للكنائس المسيحيّة في فلسطين مواقف متعدّدة تشير فيها إلى أنواع القمع الذي يتعرّض له الفلسطينيّون من قبل نظام الأبارتهايد الاسرائيليّ وتدعو لمقاطعته.
4 تأمّلات في ضوء رسالة الانجيلكيف يتعامل الإنسان المسيحيّ مع كلّ هذا العنف؟ سنكتفي هنا بالإشارة إلى موقفين مسيحيّين من العنف من خلال رأي للمطران جورج خضر (جبل لبنان للروم الأرثوذكس)، ومن خلال قراءة لنتاج المفكّر اللاهوتيّ كوستي بندلي من خلال كتبه "نضال عنفي أم لا عنفيّ لإحقاق العدالة"، و"المحبّة والعدالة والعنف"، و"النضال اللاعنفيّ ملامح وصور".
الموقف المسيحيّ الأساس هو رفض ممارسة العنف، انطلاقا من مواقف وتعاليم يسوع، ومن فهم المسيحيين أنّ القتل لم يكن يوما من مقاصد الله في الكون، ومن أنّ الإنسان - مهما فعل من شرور – يبقى أخًا/أختًا في عائلة الله الآب. يعبّر المطران خضر عن هذا الموقف في حديث له بعنوان "العنف في منظور اللاهوت المسيحي" بقوله "ولكون العنف يثير العنف، ينبغي أن تعفَّ عنه ليبطل – بغفرانك – البغض الذي حلَّ في خصمك. هذا هو معنى قول الناصري: لا تقاوموا الشَّر. ذلك إنَّ المحبة هي ذروة السعي لمحو الشَّر عند الآخر... أنت مقتنع أنَّ أحدًا لا يؤذي نفسك، ولو أضرَّ بمصالحك أو جسدك. أنت ترى أنّه آذى نفسه فقط، لذلك عيَّنكَ الله طبيبًا له... بالحب". هذا الموقف هو موقف المحبّة المطلقة التي تأنف أن تقتل مهما كان السبب، يمثّلها أيّما تمثيل يسوع المسيح الإله المتجسّد المعلّق على الصليب ضحيّةً بريئة.
أمّا كوستي بندلي، وهو دكتور في الفلسفة وأخصّائيّ في علم النفس، فهو ينطلق من مسلّمة ضرورة إحقاق العدالة على هذه الأرض، وهذه ليست مسلّمة مفروغا منها عند المؤمنين والمسؤولين الدينيّين. ينطلق بندلي من الضرورة الانجيليّة بالتمسّك (١) بمحبّة الأعداء التي تفترض عدم استعمال العنف، (٢) وبمقاومة الشرّ ورفع الظلم عن إخوة يسوع الصغار، فيرى بأنّ النضال اللاعنفيّ هو الوسيلة التي تسمح بتحقيق هاتين الضرورتين الانجيليّتين معًا. ويوضح بندلي أنّ النضال اللاعنفيّ يتفوّق على العنفيّ في نواح عمليّة، فهو، مثلاً، يسمح بشقّ صفوف الخصم، وبمشاركة أوسع من الشعب في تحرير ذاته.
لكنّ تحقيق العدالة يبقى المعيار الأساس عند بندلي. ولذلك رغم تفضيله للنضال اللاعنفيّ لتحقيق العدالة، يرى بأنّه إن استحال النضال اللاعنفيّ، فإنّه من الممكن ممارسة العنف لإحقاق العدالة، على أن يُمارس تحت شروط صارمة منعًا لجنوح العنف إلى التدمير، وانقلابه على غاية العدالة. فبندلي يشدّد أن العنف شرّ، ولكنّه قد يكون أهون الشرّين: شرّ ظلم العدوّ (الداخليّ أو الخارجيّ) الذي يسحق الشعب، وشرّ العنف الذي يلحق بالعدوّ عند استخدام العُنف لإحقاق العدالة.
هكذا، يبقى بندلي مشدودا إلى متطلّبات الإنجيل دون أن يغفل عينه عن الواقع، فيقف موقفًا وسطًا بين موقفين، الموقف الأوّل ينظر إلى العنف برومنسيّة أو بميكيافلّية، متعاميًا عن مخاطر استعمال العنف (كانفلات الغرائز، وانقلاب العنفيّين على المبادئ التي نادوا بها، والتنكيل، وقمع الشعب بعد تحريره)، والموقف الثاني يتمسّك بطهريّة لاعنفيّة تريد إحقاق العدالة ولكنّها ترفض ممارسة العنف مهما كلّف الثمن، فتفوّت على نفسها فرصة العدالة، فتنقلب بذلك على هدفها.
لكن حتّى المطران خضر في رفضه لممارسة العنف، يبدو أنّه لا يتطرّق إلى موضوع الحرب الدفاعيّة، وإنّما إلى موضوع تعامل الإنسان المسيحيّ مع كلّ آخر داخل مجتمع مسالم فيه عدالة وسلام؛ فيقول في حديثه عن العنف في منظور اللاهوت المسيحي: "ألا تقاوم الشرَّ بالشرِّ يتطلب جهادًا روحيًّا كبيرًا يفترض العدالة مقرونة بالسلام. أن ترفض لي عدالتي وحريتي هو أن ترفضني من جذوري" (التشديد مُضاف)، وكأنّه بذلك يترك المجال مفتوحا أمام إمكانيّة اللجوء للعنف في حالات انعدام العدالة والسلام. ويؤيّد تفسيرنا هذا مدح المطران خضر، في مقالة أخرى للمناضلين الفلسطينيّين ضدّ دولة الاستيطان العنصريّ الاسرائيليّة؛ فهو رغم إيمانه بالوسائل اللاعنفيّة إلاّ أنّه يقترب من الإقرار بضرورة النضال العنفيّ بقوله في مقالته "دخول يسوع إلى أورشليم" (النهـار، ٢٧ نيسان، ٢٠٠٢) "ستقوم فلسطين ليس فقط بمقادسها ولكن بمجاهديها الميامين." (التشديد مُضاف). وهو أعلن بوضوح في مقالة له بالفرنسيّة حول سرّ الشكر والتحرير في مجلّة كونتاكت (2019) أنّه "لا يوجد أيّ مبرّر للحرب في التراث الآبائيّ اليونانيّ، لأنّ الحرب هي الموت. لربّما يمكننا أن نقبل الحرب الدفاعيّة... أتفهّم أن يريد الإنسان أن يعيش في الحرّية وأن يدافع عن مواطنيه".
5 عنف الحروب وأثره على الإيمانبرأينا، علينا أن نقرأ رؤية بندلي المتوازنة بتأنٍّ. بندلي يسوّغ العنف فقط في ظروف قاهرة يستحيل فيها النضال اللاعنفيّ. وقد عدّد مبادئ ومعايير ينبغي أن تضبط استخدام العنف في الحروب، وشدّد عليها: اجتناب احتقار الخصم وتجريده من إنسانيّته، تجنّب مذهبة العنف وتمجيده وإضفاء مشروعيّة مطلقة عليه، حصر العنف في هدف إزالة الظلم، احترام حياة الخصم قدر الإمكان. دون هذه الضوابط من المرشّح أن يتدهور استخدام العنف (على افتراض أنّه يستعمل للتحرير والعدالة وليس لتثبيت سلطة ظالمة) إلى قمع وحشيّ، وعاجلا أم آجلا لا بدّ أن يتحوّل هدفه من "العدوّ" إلى الناس المظلومين.
في ظلّ ما تشهده منطقتنا من حروب ومجازر، من الواضح أنّه من السهل أن ينسى الإنسان الضوابط التي يجب أن تحكم أيّ لجوء إلى السلاح. فقد رأينا مرارا وتكرارا تيّاراتَ التزمت العنف لتحقيق العدالة (على الأقلّ من وجهة نظرها) ثمّ جنحت إلى استخدام العنف دون رادع، بعد أن مسخت إنسانيّة الخصوم واعتبرتهم "حشرات" أو "وحوش" أو "أوساخ" أو "سرطان" يجب "تنظيفه"، فسوّغت لنفسها ارتكاب المجازر بحقّهم وحقّ أطفالهم ونسائهم وعائلاتهم، وممارسة التعذيب، وقتل الجرحى، وتشويه الجثث، وبرّرت كلّ ذلك على أنّه دفاع عن النفس أو عن الوطن وإحقاقًا لعدالة.
وأبشع ما رأيناه في الحربين السوريّة واللبنانيّة، هو استخدام الدين نفسه للترويج للأجندات السياسيّة وللجرائم والمجازر والأفعال المشينة لهذا الفريق أو ذاك باسم المسيحيّة (وباسم الإسلام، وباسم اليهوديّة). وضاع المعيار الأخلاقيّ والقانونيّ، فانجرفت أعداد كبيرة من المسيحيّين في موجات الدعوة إلى القتل والتشفّي، متهجّمة على الجرائم عندما تصدر عن "الآخر"، ومبرّرة إيّاها عندما تصدر عن الفريق الذاتيّ. وجرى في الحرب السوريّة مثلا استخدام عبارة "الدروع البشريّة" التي استخدمها جيش الاحتلال الأميركيّ عند غزو العراق، ويستخدمها جيش الاحتلال للكيان الصهيونيّ في فلسطين؛ واستخدمت وسائلَ إعلامٍ هذه العبارة التي طالما انتقدتها في ماضٍ قريب.
هكذا، فقد كان للحروب واللجوء إلى العنف أثرًا فادحًا على ترجمة الإيمان بالسلوك، فقد غدا ذاك الأخير في تضاد مع متطلّبات الانجيل، فخان الكثير من المسيحيين والمسيحيات مسيحهم، وهو أمر يجب أن يُقال بوضوح.
6 عنف السلم وأثره على الإيمانبالإضافة إلى العنف الدمويّ المستمرّ حتّى اليوم، بقي عنفُ القمع اليوميّ الداخليّ سيّد الموقف بعد التحرّر من المستعمر الخارجيّ، ما خلا فلسطين التي تخضع لاحتلال من قبل القائمين على آخر مشروع استيطانيّ على وجه الكوكب. هذا العنف اليوميّ المسكوت عنه، عنف أزمنة السلم، كان له أيضا أثرًا ملحوظًا هو الآخر على الإيمان المسيحيّ، وأدّى إلى تشوّهات إيمانيّة بارزة.
ففي ظلّ أنظمة قمعيّة لا تترك للمرء حرّية التعبير دون خوف من فقدان حياته، أو السجن التعسّفيّ، أو التعذيب، يجنح المرء إلى (١) اجتناب أيّ نقد من أيّ نوع لأيّة سلطة، (٢) والشعور بالحاجة الدائمة للحماية من تعسّفات الحكم، (٣) وانعدام الأمان والثقة بالآخر. هذا كلّه يدفع بالإنسان إلى مواقف مخالفة للإنجيل، منها اثنين: الأوّل هو اجتناب العمل العام والانطواء على إيمان محصور بالطقوس والخدمة الاجتماعيّة، والثاني هو الاشتراك بممارسة العنف اليوميّ.
6 .1 الانطواء الطقوسيّالمسيحيّة ليس دينا "ما ورائيّا" يقضي فيه المرء حياته كأنّه يحيا "خارج العالم"، فيسوع قد صلّى إلى الآب قائلاً "لا أطلب منك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرّير". لكنّ العيش في ظلّ العنف المعنويّ للأنظمة القمعيّة يؤدّي بالإنسان إلى تضييق هامش اهتماماته إلى دوائر أصغر فأصغر، وحصر اهتماماته في شؤون العائلة والقضايا الكنسيّة الداخليّة؛ والحالة الوحيدة التي عمل فيها المسيحيّون في الشأن العام بشكل بارز كانت في لبنان، ولكنّها حالة عبّرت عند قطاعات واسعة ليس عن الانجيل وإنّما عن مخالفة له ولمتطلّباته، إذ كان حالة انطواء طائفيّ شوفينيّ.
إنّ العنف اليوميّ للأنظمة هو من العوامل الموضوعيّة التي أدّت إلى انطواء على الطقوس، وإلى "زهد" غير إنجيليّ بالشأن العام، وتضخّم غير صحّي لناحية مهمّة من الحياة المسيحيّة - ولكنّها تبقى ناحية وليست كلّ شيء - ألا وهي الصلاة والصوم وكتابات الرهبان، وهي ناحيةٌ تكاد تلتهم كلّ النواحي الحياتيّة الأخرى كالاهتمام بالتربية، وبالأدب، والفنون، والعلوم، بل وحتّى الإنجيل نفسه، إذ يغيب في بعض الأحاديث والكتابات أيّ استلهام ليسوع وكلامه وحياته ويُكتفى بترداد كتابات الرهبان والآباء.
إنّ العنف اليوميّ في أزمنة السلم هو جزء أساس من الأسباب التي أدّت إلى الفصام الذي نراه منتشرا بين الأفكار والأعمال، بين معرفة تفاصيل العقائد وممارسة الطقوس وبين الانسحاب الكلّي من الحياة العامة، وضعف الحسّه النقديّ (الذي يحتاج إلى حرّية)، وانتشار ذهنيّة الخضوع والاستزلام. وحتّى في بلد فيه مجال مقبول من الحرّية كلبنان، تنتشر ذهنيّة الاستزلام والخضوع بسبب انتشار العنف المعنويّ المتمثّل بالاستغلال والتفقير ورمي الفتات من الحقوق مقابل الخضوع الاعمى للسياسيّين.
6 .2 الفصام والاشتراك بممارسة العنف اليوميّفي ظلّ التربية على الخضوع، والخوف، والعيش على مستوى تزوير الوجود، يُدفع المواطن بحكم الأجواء القمعيّة (الجسديّة أو المعنويّة) إلى الكذب، فيَشكر المتسلّطين عندما يُطلب منه ذلك، ويعيد انتخابهم أو "مبايعتهم" (والاثنين لا يختلفان سوى بالشكل في ظلّ التلاعب بقوانين الانتخابات)، ويحيا المواطن عامّة في خوف من "الأقوى"، وتحامل على "الأضعف" للتعويض عن واقعه.
هذا الوضع هو أيضًا وراء انتشار العنف، والخضوع والتسلّط معا (وهما دائما يترافقان)، في الكنيسة بين الإكليروس، وبين الشعب والإكليروس، وفي المجتمع عامّة. وهذا يعكس من جديد العيشِ الفصاميّ بين متطلّبات الإيمان المعروفة فكريًّا، وبين العيش العمليّ لها.
تبيّن علوم النفس أنّ الفراغ الداخليّ الذي يعيشه الإنسان المقموع، فراغ التهميش والإذلال، يؤسّس للمرارة، ولتصاعد الغضب، ولتصاعد عنفٍ كامنٍ ينتظرُ اللحظة المتاحة لينفجر. بيد انّ الشعور الداخليّ بالرغبة في الانتقام مخيفٌ في ظلّ القمع، لهذا يهرب الإنسان منه بالمزيد من الرضوخ وإظهار عكس ما يشعر، في كبتٍ للمشاعر عن مستوى الإدراك والوعي، فيعيش على مستوى تزوير الوجود. هكذا يُظهر الإنسان الطاعة والرضوخ ويخفي ذاتاً مهزومة تنفجر في عنف مدوٍّ عند أقلّ مشكلة. وإن كان البعض يظهر مظاهر "القوّة" إلاّ أنّه راضخ لمن هو " أقوى" ويحيا في تزوير الوجود نفسه، وحتّى أعلى الهرم المهزوم أيضًا أمام الحامي الخارجيّ.
ولكنّ الوضع الفصاميّ وتزوير الوجود ليسا حكرا على الأنظمة القمعيّة السافرة، فهو وضع يشترك فيه أيضا المواطنون في بلدان ذات نظمٍ استغلاليّةٍ ولو كانت تتمتّع بهامش من الحرّية، كلبنان، فالمواطن فيها يعيش في خوف دائم: من المرض، من الفقر، من البطالة، إلخ. فإذا به يبدي الإعجاب والرضوخ للزعيم السياسيّ، ويخفي الذلّ والغضب والرغبة بالانتقام. إنّه الانشطار الكيانيّ نفسه.
7 خلاصة: أيّة وسيلة للنضال وإحقاق العدالة؟يسوع كان مواجها للسلطة الدينيّة والسياسيّة، ويجب التأكيد على أنّ النضال من أجل حياة الانسان هو الموقف المسيحيّ المنسجم مع الانجيل. كما يجب التأكيد أنّ الوسيلة المنسجمة مع الإنجيل هي النضال اللاعنفيّ. ولكن، في حال انتفت القدرة على النضال اللاعنفيّ، يجوز الانطلاق من ضرورة جمع مسؤوليّة وصيّتيّ محبّة الأعداء والدفاع عن المستضعفين، للقيام بنضال عنفيّ كحلّ أخير لتحقيق العدالة، لكن في ظلّ شروط صارمة من احترام الإنسان.
إنّ الحروب التي تشنّ لإخضاع شعوب العالم العربيّ واستغلال موارده؛ ونظام الأبرتهايد الاسرائيليّ الذي يُخضع الفلسطينيّين لسياسات التمييز العنصريّ وأنواع القمع والقتل المُمَنهج، كما والأنظمة العربيّة التي تُخضع شعوبها للعنف البوليسيّ والمعنويّ (استغلال)، يولّدان العنف في المجتمع. هذا الوضع يولّد أخطارا إيمانيّة منها كالانطواءً على الطقوس، والانسحاب "الطهريّ" غير الطاهر من العالم، والتزوير الوجوديّ، والفصام الحياتيّ، والعنف اليوميّ الذي يتفلّت عنفًا أعمى يُترجم ارتكابًا لمجازر، وتهليلاً لها، واستخداما لله لتبريرها، وتقديسًا لسياسات قمعيّة واستغلاليّة. إنّ أحد المشاكل الكبرى التي تعاني منها الكنائس، برأيي، هو أنّ آثار العنف السافر (القمع) والخفيّ(استغلال) على الإيمان في أزمنة السلم لم تُحلّل كفاية، ولهذا لا يوجد تشديد تربويّ مسيحيّ على ضرورة مواجهته والحرص على الانتباه من مخاطِره.
إنّ الكنيسة تحتاج إلى التحديق بكلّ وضوح بالظلم والعنف البنيويّين المرسومَين في الأنظمة، والمساهمَين بتشويه الإيمان، وإدانتهما عوض غضّ النظر عنهما. إنّ البلاد العربيّة التي يقطنها مسيحيّون، تفتقر في الحقل العام إلى التزام مسيحيّ، إنجيليّ، لا طائفيّ، لا عُنفيّ، يعمل لتحرير الإنسان من العوز المادّي (الاستغلال) ومن العوز المعنويّ (العوز إلى الحرّية)، التزاما يعمل مع الجميع في المجتمع، من أجل "المدينة الآتية" (عبرانيين ١٣: ١٤) برسم ملامحها في الحياة العامّة في المدينة الحاضرة أحياءَ في الزمن الذي يأتي "وهو اليوم حاضر"، شاهدين "للحقّ الحاضر" (٢ بطرس ١: ١٢)، عدلا وحرّية وكرامة ينعم بها جميع خلق الله.