خريستو المرّ
شو بخاف دق عليك وما لاقيك
يا ربّ. أيّها المسيح. يا محتضن وجهي فوق ركبيتي حنانك عند تعبي. يا نازل خلفي إلى الجحيم، يا محتضني "هناك" كي لا أفنى. يا منتظر عودتي من أفق ضلالاتي الكثيرة. يا من غناؤك الهامس يدقّ باب قلبي كلّ ثانية. يا موجوع وجعي، يا مصلوب كفري. يا متدفّقا بروحه في طيّات ترابي. أيّها الوجه الباكي خلف بكائي. يا أنت الفرح المولود في مزود عودتي إليك، وعودتي إليّ. يا جابر رضوض قصب إرادتي، ومُشْعِلَ فتيل قلبي المدخِّن بلهيب حبّك... يا ربّ.
كم أخاف أن أقف أمامك، أمام أيقونة مسيحك. كم أخاف أن أقف وأناديك، كم أخاف أن أخرج من وجعي لأراك. وعندما أخرج، كم أخاف أن أفتح باب قلبي فلا أرى سوى آثار قدميك، كم أخاف أن أفتح باب موتي فلا أرى حتّى آثارهما، كم أخاف أن أدقّ أبواب حبّك ولا تتناهى إلى أذنَيْ قلبي ريحَ أغانيك، كم أخاف ألاّ ألاقيك، كم أخاف عند دوار رأسي أن أدقّ على أبوابِ حنانك فتخذل كتفيك دموعي. "شو بخاف دقّ عليك وما لاقيك".
شو بخاف بنص الليل ما حاكيك
وكم أخاف في قلب جحيم جحيمي، في قلبي انتحار أرادتي، في قلب معاكستي لأمنيّة أمنياتي، في قلب إخطائي لاشتهاء قلبي لك، في قلب عتمة عتماتي، وعلى أطراف هاوية عدمي التي أتدلّى منها، كم أخاف ألاّ أجالسك، ألاّ أنظر إلى أيقونة حبّك، إلاّ أناديك، ألاّ يضيء صوتك منتصف ليلي، أنتَ المنادي الدائم على باب وحدتي، كم أخاف ألاّ تكسر ألحانُ همسك أنصالَ عزلتي "شو بخاف بنص الليل ما حاكيك".
شو بحس الليلة صعبة
كما أشعر أنّ الليل طويل عليّ. ذاك الليل الذي أدْخُلُه بنفسي أحيانا، والذي يدخلني فيه العالم أحيانا أُخرى، ذاك الليل الذي تسرّب حبره من حروب بلادي التي لا تنتهي فمزّق ألوان مراهقتي وشبابي. بلادي التي هاجهما الليل فهاجمني، بلادي التي أنت علّمتني أن أحبّها، التي ربّيتي على الدفاع عنها بعينيّ، بلادي بلادك، تلك التي عرفتُها معك في وجوه المخلَّعين والمهمَّشين والمرفوضين من النفاق العام؛ بلادي، بلادك، التي هاجمها الليل منذ كانت طفولتي تستعين بلعبة الكلّة حتّى تسافر عن حارات الفقر وصحاريها الثقافيّة. كما أشعر أنّ الليل، ذاك الليل، هذا الليل، طويل؛ وإنّي أشعر بصعوبةٍ في الرؤية وصعوبة في التنفّس كلّما وجدت آثار الليل على جسد طفل لفظ أنفاسه الأخيرة. في هذا العالم المُتَلَيِّل، "شو بحس الليلة صعبة"، إنّها ليلةٌ صعبةٌ، كلّ يوم صعبةٌ. وكلّ ليلة أجلسُ معك لأخاطبك بدموع النهار، بدموع ما زرعته فيّ من ضوء وحنان منذ قابلتك في علّيةٍ، في حركةِ الألق والوجع.
بسمعها ضربة ضربة
وكم من مرّة فاجأني الليل بالوجع الكثيف. وكم من مرّة سمعت ضربات الليل على أبواب قلبي، بعضها كان من خارج وبعضها من الداخل. تلك الضربات القاحلة، المبشّرة بالعطش والجوع وكأس الرمل وخبز الجليد. تلك الضربات كم سمعتها وأسمعها، "بسمعها ضربة ضربة".
بيخطرلي آخد حبة
فأتعب، وأتعب، وأشعر بعجز لحمي أمام سكاكين العتمة، ويغريني الهرب، وتتراقص أمامي المخدّرات: المال، الجنس، النشاط المفرط، التسلّط، الخضوع، الاستهلاك، الطقوس، وتطير ببالي الخواطر الانتحاريّة، "بيخطرلي آخد حبة" من مطلق أيّ مخدّر من هذه المخدّرات، حتّى أستطيع احتمال الليل الطويل.
تا اقدر نام
علّني أنام، علّني لا أشعر، علّني أنسى، علّ الوجع يتوقّف، علّني أغسلني عن الليل طالما الليل لا يغيب عنّي، علّني... علّني لا أصحو؛ أيْ، يا ربّ، يا حلو، علّني أخونك، علّني أعود طفلا لا يواجه شيء، وينتظر من أبيه وأمّه أن يواجها عنه. ومن هنا، يا ربّ، من قلب هذه الرغبات المعوجّة المستيقظة من كثرة الوجع، من قلب رغباتي بالعودة إلى طفولتي القاصرة، طالما اتّهمتك بأنّك غائب ولا تفعل، وكانت الحقيقة أنّي أنا كنتُ الغائبَ الأكبر، كنتُ أراقبُ حبوبَ المخدّرات ويخطر لي أن آخذ إحداها، "تا اقدر نام"، أي كي أغيب أكثر! كنتُ أنا الغائب واتّهمتك بالغياب.
شو بخاف حتّى الخط ما يلاقيك
وأنا أكلّمك، كلّ ليلة، كلّ يوم، وأخاف، مع أنّي عالم أنّك هنا، وأنّك فيّ، وأنّك تحملني في الجحيم اليوميّ، أخاف أن صلاتي، هاتفي وهُتافي إليك، لا تثمر عن رؤيتك، لا تثمر عن لقيا وجهك الجميل، فأبقى أصارع ليلي مع رجائي فقط، والرجاء – أنت تعلم – أصعب من اليقين. ولهذا أخاف. ولكنّي اليوم أعلم أنّ اليقين هو وجه من وجوه رغباتي المعوجّة بالعودة إلى اتّكاليّة الطفولة دون جرأتها، وأنّي بذلك أتراجع حتّى بالنسبة للأطفال. ولكنّي أخبرك اليوم، حبيبي، أنّي أخاف. أخبرك عن ضُعفاتي وركبتيّ الرخوتين حتّى لا يبقى منّي شيئاً بدون ضوء عينيك. فأنا في هذا الليل أصلّي، أخاطبك، أهاتفك بخطّ الدمع فوق خدّي، و"شو بخاف حتّى الخط ما يلاقيك". لو أنّي أخاطبك بعقل جامد لما كنت أخاف، ولكنّي أخاطبك بكلّ روحي، بكلّ أحشائي المرتجفة وجسمي المعطوب ونَفْسي التعبة. أخاطبك بحبّ، معطوبٌ هو ولكنّه حبّ، ولهذا أخاف. أنت تعلم، كم نخشى خروجنا برغبة القلب إلى الهواء الطلق، كم نخشى خروجنا من ذاتنا إلى وجه الحبيب، كم نخاف أن لا نلاقيه، أن لا يلاقينا.
شو بحس انو لازم يلقيك
"شو بحسّ لازم لاقيك". كم أشعر بأنّ أمنية قلبي، لبّ لبّي، حبّ حبّي، أحشاء أحشائي، جسد جسدي، يريد أن يلاقيك أنت، أنت الشهوة الصافية خلف شهواتي كلّها، يا حبيب، يا شاعر اللقاء على صليب الأوجاع، أيّها المحبّ الأكبر، المتفجّر قيامةً في قلب المرفوعين على صلبان الليل الكثير، والذين لم يتركوك. أيّها المولود في الأيادي المتشابكة فوق الأسِرَّة، والسواعد المتشابكة في البيوت، في الحقول، في الشوارع، في المقاهي، في الأديرة، في الكنائس، في العراء المطلق من كلّ موت، في حركة الأحشاء أمام الأحشاء، في حركة الأجساد المعمَّدةِ في بحيرات الروح، والمُهَجِّئَةِ الملكوت في تراب الحبّ.
وتردّ وحاكيك
أشعر أنّني يجب أن ألاقيك، أنّه يجب أن تردّ على حركة شهوتي بأن ألاقيك، كي أتابع معك مشوار كلامي، مشوار حركتي إليك. وأتمنّى أن ألاقيك "وتردّ وحاكيك".
وضل عم حاكيك
فأكلّمك، "وضل عم حاكيك". وأتمسّك بك، وأطلب منك أن ننصب خياماً هنا كي نجلس معا، وأردّد بكلّ حركة من جسدي وروحي "حسنٌ أن نكون هنا" فلنبقى معاً، فلنبق هنا ونستكين.
حبيبي
أرتعش وأرتجف وأقول لك حبيبي، "حبيبي"، حبيبي، ابقَ هنا. أصلّي مرتجفا وأتمسّك بك، بوجودك. أهي شدّة الحبّ؟
تا إقدر نام
أم أنّي أتمسّك بك...أه، "تا اقدر نام"، كي ينام قلقي؟ أهي شدّة الحبّ، أم أنّ من بين كلّ الحبوب المخدّرة أردت أن أخدع نفسي خديعة كبرى فأحوّلك أنت، وباسم الحبّ، باسم ألوهتك بالذات، أحوّلك إلى حبّة مخدّر لرغبتي بالعودة إلى جزء قاصر من طفولتي؟ أهو الحبّ المحرّك للقلب، للجسد، للعيون، للأيدي، للمشاعر، للفكر، للكلمات، المحرّك لبركة الماء في القلب لتصير عين حياة متفجّرة شافية للكثيرين، أم هو الحبّ الملتفّ حلزونيّاً على نفسه؟ أهو الحبّ القائم أم هو المخدّر الهارب؟
ويدفعني جوابي المتسائل كي أستيقظ من إغراء رقصاتِ المخدّر، وأرتمي لأقبّل أيقونة عينيك في عيني حبيبتي.
شو بداري هالحب حتى يدوم
وإذا بي أتابع تعبي على حبّي. أتعب واجتهد لأحافظ على حبّي لك. أسهر على حبّي كأمّ تسهر على ابنها. أسهر على شعلة الأبديّة في حبّي بكلمتك، فكلمتك تحرق الأوهام. أحاول أن أُبقي حبّي مشتعلاً بنار حبّك الذي لا يَحرِقُ، فيدوم. "شو بداري هالحب حتى يدوم"، حتّى يدوم حبّاً بالفعل. حتّى لا أقتات من أوهام إرادتي بلا وجهك. ولهذا، متمسّكاً بكلمة عينيك، أحيا، فأحبّ، وأخطئ، وأتوهّم، وأرى، وأعمل، وأخلق، وألتقي، وأصادق، وأفرح، وأحزن، وأتألّم، وأتعب، وأرتاح، وأصلّي، وأتأمّل، وأصير.
شو بخاف انت وهون فجأة تقوم / بتصوّر صورة وَحْدِي / مش حلوة سودة وْ حَدِّي
أحيا وأصير، وما من يقين لي سوى عينيك. ولهذا عندما أخشى ألاّ يدوم لقاؤنا، أنظر إلى عينيك اللتَيْن تخاطباني وأنا أرتجف فرحاً وأرتجف خشيةً. أُدمِعُ فرِحاً بعينك، وأُدمِعُ لأنّي سأشتاق إليهما ما أن تغيبا عن سمائي. ولهذا عندما نلتقي "شو بخاف انت وهون فجأة تقوم"، وتغيب عن اليقين وعن الرؤية في تلك الصحراء الخفيّة بيننا. أخاف أن أعود إلى الوقوف وحيداً في تلك الوديان الداخليّة الحميمة والموحشة، أخشى أن أقف أمام كلّ الأسئلة والأجوبة، وكلّ التعب والفرح، وأن أكون وحدي، "بتصوّر صورة وَحْدِي". فأنا لا أريد أن أكون وحدي فقط، ولا أن أكون وحدي معك، بل أن أكون معهم ومعك، لأنّي على صورة لقائك الثالوثيّ، على صورة رقصة الحبّ الأبديّة في الثالوث، ووحدي ما من رقص وما من حبّ، وحتّى رقصتنا أنا وحبيبتي تصطدم بحائط الموت. ولهذا لا نجاة لنا ولحبّنا إلاّ وجهك، إلاّ حياة قيامتك فينا، فبدون وجهك حتّى صورتنا وحيدين "مش حلوة سودة وْ حَدِّي".
وبالليل الصوت بودي، ولو مش مفهوم
هكذا تجدني أحيانا أغنّي لك. تعلّمتُ أن أرسل لك كلماتي وتلعثمي وعدم وضوحي أغنيةً لك في ليل انعدام احساسي بحضورك، "وبالليل الصوت بودي، ولو مش مفهوم". أرسل لك مراسيل الحبّ بغنائيّ، ولا يهمّني صوتي المترجرج، وتلعثم كلماتي وتعثّرها بخشيتي وبصمتي، فأنت قلت لي بأنّ صوتي، كما هو، موسيقى يطرب لها قلبك.
أغنّي لك في ليل انعدام احساسي بحضورك، فأنت لا تغيب أيّة لحظة، وإنّما هو أنا الذي لا أعود أرى وأشعر بحضورك الذي يلفّ العالم؛ وهو أنت الذي لا تريد أن تقتحم حياتي بحضورٍ يفرض نفسه، ولهذا تتوارى، دون أن تنسحب من وجودك فيّ، فما أحد منّا يوجد بدون وجودك، بدون كلماتك المؤسِّسَة لكياننا كلّ لحظة. أغنّي، فتتراأى لي حقيقتك وحقيقتي، حقيقة أنّك تحبّني أكثر ممّا أحبّك. فأنا أحبّك وأخشى، أخشى صليب الحبّ، ولهذا أريد أن أمسكك، أن أقيم لك منزلا عندي. وأنت تحبّني بلا خشية من صليب حبّك، ولهذا تريد أن تقيمني في منازلك، ومنازلك مشرّعة للريح، للنموّ، للركض، للفرح، للسباحة وللتحليق. أنا أحبّك ولي خشية، هي خشيتي من تراجع حبّي، وخشيتي من أن تنساني، ولهذا أريد أن أمسكك، أن آخذ أيّة حبّة تخدّر خشيتي، وأكثر ما أخشاه هو مغامرة الحبّ، التي تدعوني أن أكون سندباد بحر حبّك الأبديّ المليء باللآلئ في الجزر البعيدة. أمّا أنت فحبّك حقّ، ولذا تحبّني ولا تخشى، فلا تأسرني، ولا تخشى أن أنساك بل تريد أن أُقبِلُ إليك دائما، كلّ يوم، بإرادتي الحرّة، فتقف إلى جانبي في قلب نسياني. لا تخشى الحبّ مثلي، فأنت الحبّ المسافر إلى قلوبنا منذ خلقت العالم، وأنتَ يا سندباد الحبّ سافرتَ فوق صليبك وواجهتَ حتّى شهادة الدم كي تخلّص أميرتك-أحشائي السجينة، وكلّ أحشاء هي أميرة في عينيك. أنت لا تخشى أن أكون حرّاً معك، فأنت تريد الحبّ لا شكل حبّ، تريد الحبّ لا طقسه، تريد المعنى ولا ترغب بمجرّد الصوت، والمعنى هو أن أقول لك حرّاً كلّ يوم حبّي بحرّية، أن أقوله حرّاً حتّى من ملامستك، من فرض وجودك عليّ، ولهذا تلعب معي الاستغمّاية، تختفي أحيانا، تؤكّد على المسافة التي تميّز بين فرادتك وفرادتي، بين حضورك وحضوري، فتدفعني بذلك إلى تأكيد ذاتي، وتأكيد وجودك، وتدفعني إلى توجيه قلبي إلى المعنى في قلب طقوس الحبّ، وإلى تجديد فرحِ الحضورِ بشوقِ الغياب. تختفي أحياناً لأنّك تريد أن أصل إلى تلك القفزة النهائيّة التي يعيشها كلّ حبيب مع حبيب: أنا لا أمتلك أيّ يقين نهائيّ معك سوى إيماني بحبّ عينيك لي ولو غابت عن عينيّ، وبحبّ عينيّ لك ولو غابتا عن عينيك.
يا ريت بيتك كان منو بعيد / والباب تحت البيت مش حديد / بلحظة بلاقيك / وبطلع تا حاكيك / حبيبي / تا اقدر نام
كنت لا أتمالك نفسي من التردّد أحيانا، كنت أفكّر أنْ "يا ريت بيتك كان منو بعيد"، ليتك كنت حاضرا هنا بلا حواجز الغياب، بلا أبواب الصمت الحديديّ الذي يفصل بيننا، ليت "الباب تحت البيت مش حديد"ـ لكنّي لمست آثار رغباتي الدفينة بأن أمتلكك، لتكون تحت إمرتي، فأحفّ مصباحَ رغباتي لتحضر كجُنيّ متى أردتُ أن تحضرَ، متى أرادت إرادتي المتعفّرة بالوهم أن تكونَ أنت تحت إمرتها، خاتماً باصبعها، تنفّذ رغباتها بالسهولة وبالامتلاك، بالقبض عليك لكي أنوّم رغباتي باسم الحبّ، بحيث أنّي "بلحظة بلاقيك، وبطلع تا حاكيك، حبيبي، تا اقدر نام". لكن بعدما لمست آثار رغباتي الدفينة بأن أمتلكك انتبهت بأنّ كلامي معك عندها لن يكون سوى عبارة عن رغبة بالتقوقع على ذاتي، عبارة عن طلبِ النوم، طلبِ مخدّرٍ لقلقي من مغامرة الحياة، عبارة عن طلب اليقين الكامل، واليقين الكامل هو انعكاس لرغبتي الدفينة أن يكون كلّ شيء فيّ أنا، أن يكون فيّ كلّ زمان وكلّ مكان، أي أن أكون إلها بذاتي، فينطوي فيّ كلّ شيء... أه كم أنت إله حلو، جميل، لم تنطوي على ذاتك أنت الحبّ الكامل، بل خرجت من ذاتك بالخلق، ومددت ذاتك إلى العالم بالتجسّد، ووقفت –أنت مالئ القلوب- على باب القلب تقرع. أه، كم أنت بعيد عن تشويهات تصوّراتنا للألوهة. كم أنت مختلف عن أوهامنا، كم أنت حقيقيّ.
اليوم إلهي، أمدّ إليك راحتي، روحي، وأقول لك، في قلب غيابك الكامل، في قلب غياب إحساسي الكامل عن حقيقة وجودك وحضورك الكامل، إنّي أومن بأنّك هنا، بأنّ الباب ليس بحديد، بأنّ الباب قلبي، بأنّ الباب عيناي إن شفّتا واحتضنتا الكلّ. أعرف الآن بأنّ الخطّ يلاقيك كلّما رأيت وجهي كإنسان، كلّما غُصْتُ في بحيرة عيني حبيبتي، وفي وديان وجوه أصدقائي، وفي سفري الذي لا ينتهي خلف الأسئلة التي لا تنتهي والأجوبة التي تفتح أبواب الأسئلة. وأنّي بتّ لا أخشى القلق، لا أخشى لأنّ الأجوبة والأسئلة أراها رسائل حبّ تركتها لي على طريق حياتي كي تقول لي "حبيبي أنا هنا، قربك، في قلب سؤالك قبل أن أكون في قلب الجواب. حبيبي أنا لم أتركك لحظة، ولكن لا أودّ أن أقتحم حياتك كلّ لحظة كديكتاتور لا يؤمن بحبّك له، ولا بإخلاصك له. حبيبي أنا أيضا أومن، أومن بك، «عندي ثقة فيك» قلتُ لك يوماً".
اليوم، يا ربّ، أسمعُك في صمتك، وفي أغاني خفرك واحترامك اللذَيْن كنتُ أدعوهما غياباً. اليوم أتكلّم معك إن سمعتُ ردَّك أم لم أسمعه. اليوم أسهر معك كلاماً وصمتاً وأغانٍ، ويكفيني. فأنا تركتُ رغبتي بأن أتحكّم بكلّ شيء، وحافظتُ على ثقةٍ واحدةٍ: أنّك تحبّني مهما حدث لي، وأنّك معي على كلّ الصلبان المرفوع أنا عليها، لتمدّني بقوّة قيامتك. وإن أنا بكيتُ أعلم أنّي أذوق طعم ملح دموعك مع ملح دموعي، وإن أنا فرحتُ حرّك أحشائي فرحك. اليوم يا ربّ، سأسهر على دوام حبّي لك بأن أحبّ حبيبتي أعمق وأصدقائي أنقى، وبأن أسهر على بقاء شيءٍ من الجنون في كلّ ما أفعل. وصرتُ أعرف أنّ دقّات قلبي هتافٌ منك إليّ، منه يتعالى حبّك غناءً وأجنحة.
خريستو المرّ
شو بخاف دق عليك وما لاقيك
يا ربّ. أيّها المسيح. يا محتضن وجهي فوق ركبيتي حنانك عند تعبي. يا نازل خلفي إلى الجحيم، يا محتضني "هناك" كي لا أفنى. يا منتظر عودتي من أفق ضلالاتي الكثيرة. يا من غناؤك الهامس يدقّ باب قلبي كلّ ثانية. يا موجوع وجعي، يا مصلوب كفري. يا متدفّقا بروحه في طيّات ترابي. أيّها الوجه الباكي خلف بكائي. يا أنت الفرح المولود في مزود عودتي إليك، وعودتي إليّ. يا جابر رضوض قصب إرادتي، ومُشْعِلَ فتيل قلبي المدخِّن بلهيب حبّك... يا ربّ.
كم أخاف أن أقف أمامك، أمام أيقونة مسيحك. كم أخاف أن أقف وأناديك، كم أخاف أن أخرج من وجعي لأراك. وعندما أخرج، كم أخاف أن أفتح باب قلبي فلا أرى سوى آثار قدميك، كم أخاف أن أفتح باب موتي فلا أرى حتّى آثارهما، كم أخاف أن أدقّ أبواب حبّك ولا تتناهى إلى أذنَيْ قلبي ريحَ أغانيك، كم أخاف ألاّ ألاقيك، كم أخاف عند دوار رأسي أن أدقّ على أبوابِ حنانك فتخذل كتفيك دموعي. "شو بخاف دقّ عليك وما لاقيك".
شو بخاف بنص الليل ما حاكيك
وكم أخاف في قلب جحيم جحيمي، في قلبي انتحار أرادتي، في قلب معاكستي لأمنيّة أمنياتي، في قلب إخطائي لاشتهاء قلبي لك، في قلب عتمة عتماتي، وعلى أطراف هاوية عدمي التي أتدلّى منها، كم أخاف ألاّ أجالسك، ألاّ أنظر إلى أيقونة حبّك، إلاّ أناديك، ألاّ يضيء صوتك منتصف ليلي، أنتَ المنادي الدائم على باب وحدتي، كم أخاف ألاّ تكسر ألحانُ همسك أنصالَ عزلتي "شو بخاف بنص الليل ما حاكيك".
شو بحس الليلة صعبة
كما أشعر أنّ الليل طويل عليّ. ذاك الليل الذي أدْخُلُه بنفسي أحيانا، والذي يدخلني فيه العالم أحيانا أُخرى، ذاك الليل الذي تسرّب حبره من حروب بلادي التي لا تنتهي فمزّق ألوان مراهقتي وشبابي. بلادي التي هاجهما الليل فهاجمني، بلادي التي أنت علّمتني أن أحبّها، التي ربّيتي على الدفاع عنها بعينيّ، بلادي بلادك، تلك التي عرفتُها معك في وجوه المخلَّعين والمهمَّشين والمرفوضين من النفاق العام؛ بلادي، بلادك، التي هاجمها الليل منذ كانت طفولتي تستعين بلعبة الكلّة حتّى تسافر عن حارات الفقر وصحاريها الثقافيّة. كما أشعر أنّ الليل، ذاك الليل، هذا الليل، طويل؛ وإنّي أشعر بصعوبةٍ في الرؤية وصعوبة في التنفّس كلّما وجدت آثار الليل على جسد طفل لفظ أنفاسه الأخيرة. في هذا العالم المُتَلَيِّل، "شو بحس الليلة صعبة"، إنّها ليلةٌ صعبةٌ، كلّ يوم صعبةٌ. وكلّ ليلة أجلسُ معك لأخاطبك بدموع النهار، بدموع ما زرعته فيّ من ضوء وحنان منذ قابلتك في علّيةٍ، في حركةِ الألق والوجع.
بسمعها ضربة ضربة
وكم من مرّة فاجأني الليل بالوجع الكثيف. وكم من مرّة سمعت ضربات الليل على أبواب قلبي، بعضها كان من خارج وبعضها من الداخل. تلك الضربات القاحلة، المبشّرة بالعطش والجوع وكأس الرمل وخبز الجليد. تلك الضربات كم سمعتها وأسمعها، "بسمعها ضربة ضربة".
بيخطرلي آخد حبة
فأتعب، وأتعب، وأشعر بعجز لحمي أمام سكاكين العتمة، ويغريني الهرب، وتتراقص أمامي المخدّرات: المال، الجنس، النشاط المفرط، التسلّط، الخضوع، الاستهلاك، الطقوس، وتطير ببالي الخواطر الانتحاريّة، "بيخطرلي آخد حبة" من مطلق أيّ مخدّر من هذه المخدّرات، حتّى أستطيع احتمال الليل الطويل.
تا اقدر نام
علّني أنام، علّني لا أشعر، علّني أنسى، علّ الوجع يتوقّف، علّني أغسلني عن الليل طالما الليل لا يغيب عنّي، علّني... علّني لا أصحو؛ أيْ، يا ربّ، يا حلو، علّني أخونك، علّني أعود طفلا لا يواجه شيء، وينتظر من أبيه وأمّه أن يواجها عنه. ومن هنا، يا ربّ، من قلب هذه الرغبات المعوجّة المستيقظة من كثرة الوجع، من قلب رغباتي بالعودة إلى طفولتي القاصرة، طالما اتّهمتك بأنّك غائب ولا تفعل، وكانت الحقيقة أنّي أنا كنتُ الغائبَ الأكبر، كنتُ أراقبُ حبوبَ المخدّرات ويخطر لي أن آخذ إحداها، "تا اقدر نام"، أي كي أغيب أكثر! كنتُ أنا الغائب واتّهمتك بالغياب.
شو بخاف حتّى الخط ما يلاقيك
وأنا أكلّمك، كلّ ليلة، كلّ يوم، وأخاف، مع أنّي عالم أنّك هنا، وأنّك فيّ، وأنّك تحملني في الجحيم اليوميّ، أخاف أن صلاتي، هاتفي وهُتافي إليك، لا تثمر عن رؤيتك، لا تثمر عن لقيا وجهك الجميل، فأبقى أصارع ليلي مع رجائي فقط، والرجاء – أنت تعلم – أصعب من اليقين. ولهذا أخاف. ولكنّي اليوم أعلم أنّ اليقين هو وجه من وجوه رغباتي المعوجّة بالعودة إلى اتّكاليّة الطفولة دون جرأتها، وأنّي بذلك أتراجع حتّى بالنسبة للأطفال. ولكنّي أخبرك اليوم، حبيبي، أنّي أخاف. أخبرك عن ضُعفاتي وركبتيّ الرخوتين حتّى لا يبقى منّي شيئاً بدون ضوء عينيك. فأنا في هذا الليل أصلّي، أخاطبك، أهاتفك بخطّ الدمع فوق خدّي، و"شو بخاف حتّى الخط ما يلاقيك". لو أنّي أخاطبك بعقل جامد لما كنت أخاف، ولكنّي أخاطبك بكلّ روحي، بكلّ أحشائي المرتجفة وجسمي المعطوب ونَفْسي التعبة. أخاطبك بحبّ، معطوبٌ هو ولكنّه حبّ، ولهذا أخاف. أنت تعلم، كم نخشى خروجنا برغبة القلب إلى الهواء الطلق، كم نخشى خروجنا من ذاتنا إلى وجه الحبيب، كم نخاف أن لا نلاقيه، أن لا يلاقينا.
شو بحس انو لازم يلقيك
"شو بحسّ لازم لاقيك". كم أشعر بأنّ أمنية قلبي، لبّ لبّي، حبّ حبّي، أحشاء أحشائي، جسد جسدي، يريد أن يلاقيك أنت، أنت الشهوة الصافية خلف شهواتي كلّها، يا حبيب، يا شاعر اللقاء على صليب الأوجاع، أيّها المحبّ الأكبر، المتفجّر قيامةً في قلب المرفوعين على صلبان الليل الكثير، والذين لم يتركوك. أيّها المولود في الأيادي المتشابكة فوق الأسِرَّة، والسواعد المتشابكة في البيوت، في الحقول، في الشوارع، في المقاهي، في الأديرة، في الكنائس، في العراء المطلق من كلّ موت، في حركة الأحشاء أمام الأحشاء، في حركة الأجساد المعمَّدةِ في بحيرات الروح، والمُهَجِّئَةِ الملكوت في تراب الحبّ.
وتردّ وحاكيك
أشعر أنّني يجب أن ألاقيك، أنّه يجب أن تردّ على حركة شهوتي بأن ألاقيك، كي أتابع معك مشوار كلامي، مشوار حركتي إليك. وأتمنّى أن ألاقيك "وتردّ وحاكيك".
وضل عم حاكيك
فأكلّمك، "وضل عم حاكيك". وأتمسّك بك، وأطلب منك أن ننصب خياماً هنا كي نجلس معا، وأردّد بكلّ حركة من جسدي وروحي "حسنٌ أن نكون هنا" فلنبقى معاً، فلنبق هنا ونستكين.
حبيبي
أرتعش وأرتجف وأقول لك حبيبي، "حبيبي"، حبيبي، ابقَ هنا. أصلّي مرتجفا وأتمسّك بك، بوجودك. أهي شدّة الحبّ؟
تا إقدر نام
أم أنّي أتمسّك بك...أه، "تا اقدر نام"، كي ينام قلقي؟ أهي شدّة الحبّ، أم أنّ من بين كلّ الحبوب المخدّرة أردت أن أخدع نفسي خديعة كبرى فأحوّلك أنت، وباسم الحبّ، باسم ألوهتك بالذات، أحوّلك إلى حبّة مخدّر لرغبتي بالعودة إلى جزء قاصر من طفولتي؟ أهو الحبّ المحرّك للقلب، للجسد، للعيون، للأيدي، للمشاعر، للفكر، للكلمات، المحرّك لبركة الماء في القلب لتصير عين حياة متفجّرة شافية للكثيرين، أم هو الحبّ الملتفّ حلزونيّاً على نفسه؟ أهو الحبّ القائم أم هو المخدّر الهارب؟
ويدفعني جوابي المتسائل كي أستيقظ من إغراء رقصاتِ المخدّر، وأرتمي لأقبّل أيقونة عينيك في عيني حبيبتي.
شو بداري هالحب حتى يدوم
وإذا بي أتابع تعبي على حبّي. أتعب واجتهد لأحافظ على حبّي لك. أسهر على حبّي كأمّ تسهر على ابنها. أسهر على شعلة الأبديّة في حبّي بكلمتك، فكلمتك تحرق الأوهام. أحاول أن أُبقي حبّي مشتعلاً بنار حبّك الذي لا يَحرِقُ، فيدوم. "شو بداري هالحب حتى يدوم"، حتّى يدوم حبّاً بالفعل. حتّى لا أقتات من أوهام إرادتي بلا وجهك. ولهذا، متمسّكاً بكلمة عينيك، أحيا، فأحبّ، وأخطئ، وأتوهّم، وأرى، وأعمل، وأخلق، وألتقي، وأصادق، وأفرح، وأحزن، وأتألّم، وأتعب، وأرتاح، وأصلّي، وأتأمّل، وأصير.
شو بخاف انت وهون فجأة تقوم / بتصوّر صورة وَحْدِي / مش حلوة سودة وْ حَدِّي
أحيا وأصير، وما من يقين لي سوى عينيك. ولهذا عندما أخشى ألاّ يدوم لقاؤنا، أنظر إلى عينيك اللتَيْن تخاطباني وأنا أرتجف فرحاً وأرتجف خشيةً. أُدمِعُ فرِحاً بعينك، وأُدمِعُ لأنّي سأشتاق إليهما ما أن تغيبا عن سمائي. ولهذا عندما نلتقي "شو بخاف انت وهون فجأة تقوم"، وتغيب عن اليقين وعن الرؤية في تلك الصحراء الخفيّة بيننا. أخاف أن أعود إلى الوقوف وحيداً في تلك الوديان الداخليّة الحميمة والموحشة، أخشى أن أقف أمام كلّ الأسئلة والأجوبة، وكلّ التعب والفرح، وأن أكون وحدي، "بتصوّر صورة وَحْدِي". فأنا لا أريد أن أكون وحدي فقط، ولا أن أكون وحدي معك، بل أن أكون معهم ومعك، لأنّي على صورة لقائك الثالوثيّ، على صورة رقصة الحبّ الأبديّة في الثالوث، ووحدي ما من رقص وما من حبّ، وحتّى رقصتنا أنا وحبيبتي تصطدم بحائط الموت. ولهذا لا نجاة لنا ولحبّنا إلاّ وجهك، إلاّ حياة قيامتك فينا، فبدون وجهك حتّى صورتنا وحيدين "مش حلوة سودة وْ حَدِّي".
وبالليل الصوت بودي، ولو مش مفهوم
هكذا تجدني أحيانا أغنّي لك. تعلّمتُ أن أرسل لك كلماتي وتلعثمي وعدم وضوحي أغنيةً لك في ليل انعدام احساسي بحضورك، "وبالليل الصوت بودي، ولو مش مفهوم". أرسل لك مراسيل الحبّ بغنائيّ، ولا يهمّني صوتي المترجرج، وتلعثم كلماتي وتعثّرها بخشيتي وبصمتي، فأنت قلت لي بأنّ صوتي، كما هو، موسيقى يطرب لها قلبك.
أغنّي لك في ليل انعدام احساسي بحضورك، فأنت لا تغيب أيّة لحظة، وإنّما هو أنا الذي لا أعود أرى وأشعر بحضورك الذي يلفّ العالم؛ وهو أنت الذي لا تريد أن تقتحم حياتي بحضورٍ يفرض نفسه، ولهذا تتوارى، دون أن تنسحب من وجودك فيّ، فما أحد منّا يوجد بدون وجودك، بدون كلماتك المؤسِّسَة لكياننا كلّ لحظة. أغنّي، فتتراأى لي حقيقتك وحقيقتي، حقيقة أنّك تحبّني أكثر ممّا أحبّك. فأنا أحبّك وأخشى، أخشى صليب الحبّ، ولهذا أريد أن أمسكك، أن أقيم لك منزلا عندي. وأنت تحبّني بلا خشية من صليب حبّك، ولهذا تريد أن تقيمني في منازلك، ومنازلك مشرّعة للريح، للنموّ، للركض، للفرح، للسباحة وللتحليق. أنا أحبّك ولي خشية، هي خشيتي من تراجع حبّي، وخشيتي من أن تنساني، ولهذا أريد أن أمسكك، أن آخذ أيّة حبّة تخدّر خشيتي، وأكثر ما أخشاه هو مغامرة الحبّ، التي تدعوني أن أكون سندباد بحر حبّك الأبديّ المليء باللآلئ في الجزر البعيدة. أمّا أنت فحبّك حقّ، ولذا تحبّني ولا تخشى، فلا تأسرني، ولا تخشى أن أنساك بل تريد أن أُقبِلُ إليك دائما، كلّ يوم، بإرادتي الحرّة، فتقف إلى جانبي في قلب نسياني. لا تخشى الحبّ مثلي، فأنت الحبّ المسافر إلى قلوبنا منذ خلقت العالم، وأنتَ يا سندباد الحبّ سافرتَ فوق صليبك وواجهتَ حتّى شهادة الدم كي تخلّص أميرتك-أحشائي السجينة، وكلّ أحشاء هي أميرة في عينيك. أنت لا تخشى أن أكون حرّاً معك، فأنت تريد الحبّ لا شكل حبّ، تريد الحبّ لا طقسه، تريد المعنى ولا ترغب بمجرّد الصوت، والمعنى هو أن أقول لك حرّاً كلّ يوم حبّي بحرّية، أن أقوله حرّاً حتّى من ملامستك، من فرض وجودك عليّ، ولهذا تلعب معي الاستغمّاية، تختفي أحيانا، تؤكّد على المسافة التي تميّز بين فرادتك وفرادتي، بين حضورك وحضوري، فتدفعني بذلك إلى تأكيد ذاتي، وتأكيد وجودك، وتدفعني إلى توجيه قلبي إلى المعنى في قلب طقوس الحبّ، وإلى تجديد فرحِ الحضورِ بشوقِ الغياب. تختفي أحياناً لأنّك تريد أن أصل إلى تلك القفزة النهائيّة التي يعيشها كلّ حبيب مع حبيب: أنا لا أمتلك أيّ يقين نهائيّ معك سوى إيماني بحبّ عينيك لي ولو غابت عن عينيّ، وبحبّ عينيّ لك ولو غابتا عن عينيك.
يا ريت بيتك كان منو بعيد / والباب تحت البيت مش حديد / بلحظة بلاقيك / وبطلع تا حاكيك / حبيبي / تا اقدر نام
كنت لا أتمالك نفسي من التردّد أحيانا، كنت أفكّر أنْ "يا ريت بيتك كان منو بعيد"، ليتك كنت حاضرا هنا بلا حواجز الغياب، بلا أبواب الصمت الحديديّ الذي يفصل بيننا، ليت "الباب تحت البيت مش حديد"ـ لكنّي لمست آثار رغباتي الدفينة بأن أمتلكك، لتكون تحت إمرتي، فأحفّ مصباحَ رغباتي لتحضر كجُنيّ متى أردتُ أن تحضرَ، متى أرادت إرادتي المتعفّرة بالوهم أن تكونَ أنت تحت إمرتها، خاتماً باصبعها، تنفّذ رغباتها بالسهولة وبالامتلاك، بالقبض عليك لكي أنوّم رغباتي باسم الحبّ، بحيث أنّي "بلحظة بلاقيك، وبطلع تا حاكيك، حبيبي، تا اقدر نام". لكن بعدما لمست آثار رغباتي الدفينة بأن أمتلكك انتبهت بأنّ كلامي معك عندها لن يكون سوى عبارة عن رغبة بالتقوقع على ذاتي، عبارة عن طلبِ النوم، طلبِ مخدّرٍ لقلقي من مغامرة الحياة، عبارة عن طلب اليقين الكامل، واليقين الكامل هو انعكاس لرغبتي الدفينة أن يكون كلّ شيء فيّ أنا، أن يكون فيّ كلّ زمان وكلّ مكان، أي أن أكون إلها بذاتي، فينطوي فيّ كلّ شيء... أه كم أنت إله حلو، جميل، لم تنطوي على ذاتك أنت الحبّ الكامل، بل خرجت من ذاتك بالخلق، ومددت ذاتك إلى العالم بالتجسّد، ووقفت –أنت مالئ القلوب- على باب القلب تقرع. أه، كم أنت بعيد عن تشويهات تصوّراتنا للألوهة. كم أنت مختلف عن أوهامنا، كم أنت حقيقيّ.
اليوم إلهي، أمدّ إليك راحتي، روحي، وأقول لك، في قلب غيابك الكامل، في قلب غياب إحساسي الكامل عن حقيقة وجودك وحضورك الكامل، إنّي أومن بأنّك هنا، بأنّ الباب ليس بحديد، بأنّ الباب قلبي، بأنّ الباب عيناي إن شفّتا واحتضنتا الكلّ. أعرف الآن بأنّ الخطّ يلاقيك كلّما رأيت وجهي كإنسان، كلّما غُصْتُ في بحيرة عيني حبيبتي، وفي وديان وجوه أصدقائي، وفي سفري الذي لا ينتهي خلف الأسئلة التي لا تنتهي والأجوبة التي تفتح أبواب الأسئلة. وأنّي بتّ لا أخشى القلق، لا أخشى لأنّ الأجوبة والأسئلة أراها رسائل حبّ تركتها لي على طريق حياتي كي تقول لي "حبيبي أنا هنا، قربك، في قلب سؤالك قبل أن أكون في قلب الجواب. حبيبي أنا لم أتركك لحظة، ولكن لا أودّ أن أقتحم حياتك كلّ لحظة كديكتاتور لا يؤمن بحبّك له، ولا بإخلاصك له. حبيبي أنا أيضا أومن، أومن بك، «عندي ثقة فيك» قلتُ لك يوماً".
اليوم، يا ربّ، أسمعُك في صمتك، وفي أغاني خفرك واحترامك اللذَيْن كنتُ أدعوهما غياباً. اليوم أتكلّم معك إن سمعتُ ردَّك أم لم أسمعه. اليوم أسهر معك كلاماً وصمتاً وأغانٍ، ويكفيني. فأنا تركتُ رغبتي بأن أتحكّم بكلّ شيء، وحافظتُ على ثقةٍ واحدةٍ: أنّك تحبّني مهما حدث لي، وأنّك معي على كلّ الصلبان المرفوع أنا عليها، لتمدّني بقوّة قيامتك. وإن أنا بكيتُ أعلم أنّي أذوق طعم ملح دموعك مع ملح دموعي، وإن أنا فرحتُ حرّك أحشائي فرحك. اليوم يا ربّ، سأسهر على دوام حبّي لك بأن أحبّ حبيبتي أعمق وأصدقائي أنقى، وبأن أسهر على بقاء شيءٍ من الجنون في كلّ ما أفعل. وصرتُ أعرف أنّ دقّات قلبي هتافٌ منك إليّ، منه يتعالى حبّك غناءً وأجنحة.
خريستو المرّ