الدين والسياسة (٢ / ٢):
أيّة مبادئ للحكم؟ الإيمان اللفظيّ والإيمان الفعليّ
الأربعاء ١١ تمّوز/يوليو ٢٠١٩
كلّ إنسان يحمل إيماناً ما، ويطبع إيمانه تصرّفاته وأفكاره، كما تطبع تصرّفاته وأفكاره إيمانه. بالطبع، طريقة حياة الإنسان، أي أفعاله ونوعيّة علاقاته بالآخرين، وليس الطقوس المشتركة التي يمارسها مع الجماعة، هي ما يعبّر في العمق عن إيمان ذاك الإنسان. العيش المزدوج: الإيمان اللفظيّ والإيمان الفعليّ.
بالتأكيد، المرتجى هو أن تنسجم طريقة حياة الإنسان مع إيمانه ودينه، بحيث تأتي طريقة الحياة معبّرة عن الإيمان (علاقة الإنسان بالإله وبالناس) ومجذِّرة له، وفي الوقت عينه منسجمة مع الدين (الطقوس والعقائد). المرتجى هو أن يلهم إيمانُ الإنسان طريقةَ حياته، فيكون يحيا إيماناً فعليّاً.
المأساة الإنسانيّة هي أنّنا قادرون على العيش المزدوج: نعلن لفظيّاً انتماءنا لدين وإيماننا، بينما طريقة حياتنا تعبّر عن إيمان فعليّ غير ذاك اللفظيّ. هكذا، يمكن أن يعلن الإنسان انتماءه إلى الدين البوذيّ أو اليهوديّ أو المسيحيّ أو الإسلاميّ ولكن يبقى إيمانه لفظيّاً، إذ يمكنه أن يكون مؤمناً فعليّاً بالمال والسلطة، فيمارس طريقة حياة يستغلّ فيها عمّاله أو أفراد عائلته مستخدماً إيّاهم (بل ومستخدماً ذاته نفسها) كوسائل لجني المال أو السلطة. يعبّر القرآن أيّما تعبير عن هذا الواقع بـ«قالت الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم» (الحجرات ١٤).
وكما أنّ هناك إيماناً لفظيّاً وإيماناً فعليّاً، فكذلك هناك إلحاد لفظيّ وإلحاد فعليّ. الملحد اللفظيّ هو الذي فكريّاً لم يجد الله، ولكن الملحد الفعليّ هو من يعيش طريقة حياة معاكسة لطريقة الحياة التي يفترضها الإيمان في الأديان جميعاً: العدل والمساواة و«استباق الخيرات»، فإذا به يظلم ويستغلّ ويقمع ويعذّب ويُفَقِّر الناس.
طريقة الحياة هي الفصل
الإلحاد اللفظيّ (الفكريّ) هو أمر شخصيّ، إلّا عند الذين يريدون أن ينصّبوا أنفسهم ديكتاتوريّين على الضمائر ويريدون أن يتّبع الناس ديناً ما قسراً؛ أمّا الإلحاد الفعليّ فشأن المجتمع ككلّ لأنّه يعيث خراباً في حياة البشر. فما يهمّنا كبشر بالدرجة الأولى هو طريقة حياة الإنسان في المجتمع: هل هو يستغلّ ويدمّر وينهب ويثير البغضاء ويدعو إلى الكراهية والقتل، أم يسعى للعدالة والمساواة ومشاركة الخيرات؟ إن كانت طريقة حياة الإنسان هي استغلال ونهب وإثارة للبغضاء ودعوة للكراهية وعنصريّة، فيجب مواجهة طريقة الحياة هذه ليس بالفكر وحسب وإنّما أيضاً بالقوانين والضغط والعمل السياسيَّين.
المشكلة بالنسبة إلى المجتمع ليست في إيمان أو إلحاد الشخص لفظيّاً/فكريّاً وإنّما في إلحاده الفعليّ، أي في طريقة تصرّفاته. فالملحد فكريّاً الذي يعمل من أجل المساواة بين البشر وتحقيق العدل لا يضرّ المجتمع وإنّما ينفعه بل لربّما هو أقرب إلى الله من إنسان آخر مؤمن لفظيّاً بالله ولكنّه ملحد عمليّاً به لأنّه في عمله يستغلّ عمّاله وموظّفيه لمراكمة أرباحه، أو ينهب بلاده فيدمّر مستقبل ملايين من البشر، أو حتّى يعنّف ويدمّر حياة إنسان واحد عامل لديه، زوجته، حبيبته، ابنته، ابنه، أخوه، أخته إلخ. الكلمة الفصل في الحياة العامّة ليست لخيارات الشخص اللفظيّة/الفكريّة وإنّما لطريقة حياته الفعليّة.
طريقة الحياة تؤثّر بالإيمان
لكن كما يؤثّر إيمان الإنسان الحقّ (بالله أو بفلسفة) بأفعاله، فكذلك أفعاله تؤثّر في إيمانه، تقدّماً أو تراجعاً. فإن كان الإنسان يمارس الاستغلال كرأسماليّ فهو على صعيد الخبرة المُعاشة، أي على صعيد الحياة الملموسة والأفعال سينحو للانفصال عن الآخر الإنسان وعن نفسه ذاتها، فيغدو يستعمل نفسه والآخرين أدوات جني أرباح وسلطة. عندها بالطبع، لا يهمّ إن بقي فكريّاً مؤمناً، وبقي متّبعاً في دينٍ ما، فهو يصبح عمليّاً مُلحداً لا يقرّ بالله مصدرَ حياة ووجودٍ يدفعه للمشاركة عوض الاستئثار. طريقة حياة هذا الإنسان ستجعل إيمانه بالله يضمحلّ ليحلّ مكانه إيمان فعليٌّ بصنم المال والسلطة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان المؤمن فكريّاً بفلسفة أو مبدأ كالمساواة والذي يعيش على صعيد الفعل في ممارسة قبليّة عصبيّة أو طائفيّة تنفي بالضرورة المساواة بين الداخل والخارج، أو هو يمارس قمعاً وعنفاً ضدّ النساء في عائلته، هكذا إنسان هو بالفعل كافرٌ بمبادئه وفلسفته وإن بقي يشيد بها في كلاميّاته اليوميّة. طريقة حياة هذا الإنسان ستجعل إيمانه بالمبادئ يضمحلّ ليحلّ مكانه فعليّاً إيمانٌ بصنم الجماعة وصنم الذات.
عندما ينفصل الفعل عن الإيمان، يتقلّص الإيمان ولا يبقى في حياة الشخص سوى دين لفظيّ وإيمان لفظيّ بالله أو بالمبادئ، وإيمان فعليّ بصنمٍ. وإن بقي الدين اللفظيّ دون إيمان فعليّ فسد كلّ شيء، لأنّ الممارسة الدينيّة تبقى سطحيّة، فيكتفي الإنسان بالشكل دون المضمون، وتبقى طريقة حياته الفعليّة منسجمة مع إيمانه الفعليّ (استغلال ونهب مثلاً) ومتعارضة مع إيمانه اللفظيّ (الله محبّة، الخلق كلّهم عيال الله، مثلاً).
المشكلة ليست مشكلة إيمان وإنّما مشكلة فصام بين إيمان لفظيّ وإيمان فعليّ وما يتبعها بالضرورة في الحياة الدينيّة والاجتماعيّة من سيادةٍ للدين – أي الشكل والإطار – على المضمون؛ إنّها مسألة امّحاء العلاقة الشخصيّة الذاتيّة مع الله/المبادئ ومع الإنسان، تلك العلاقة المتجسّدة في طريقة حياة منسجمة معها، امّحاؤها لصالح علاقة شكليّة: أفكار محفوظة وطقوس شكليّة. عندها يغدو الدين كإطارٍ دون الإيمان كمضمونٍ ميت وفارغ، تماماً كما الزواج دون حبّ.
حياة تدمّر ذاتها وغيرها
المشكلة أنّ انفصال الإطار (الدين) عن المضمون (الإيمان) يولّد تنافراً/تعارضاً بين الأفكار التي يحملها الإنسان عن نفسه من جهة وبين طريقة حياته من جهة أخرى. ومن المعروف في علم النفس أنّ هكذا تنافر بين الممارسة والأفكار (cognitive dissonance) يولّد قلقاً، والقلق يدفع الإنسان إلى تزوير واقعه عن طريق تغيير أفكاره، تغير مقتضيات إيمانه، لتصبح أكثر مواءمة لتصرّفاته، فيخفت التنافر المعرفيّ. ويسعى كذلك إلى إخفاء هذا التنافر بشتّى ضروب الاحتيال على الذات والآخرين وذلك من خلال التركيز على التديّن الشكليّ الذي لا يتطلّب تغييراً في طريقة الحياة: تطرّف في ممارسة الطقوس، تشبّث أعمى بالتقاليد، رفض للآخر... وذلك للتأكيد - للذات قبل الآخرين - أنّه لم يفقد إيمانه. يبالغ الإنسان بالتمسّك بالشكل في محاولة للتعويض عن نقص في المضمون: الإيمان المنسجم مع الدين. وكلّما زاد التنافر كلّما زاد القلق، وكلّما زاد التزوير، وأصبح تأكيد الشكل (الدين)، وتأكيد الاختلاف عن دين الآخرين، ضروريّين، مع ما يتبع ذلك من تطرّف وانكماش، وكراهية.
هكذا، يستعيض الإنسان بمزيد من الدين ليخدّر ألمه من خيانته العمليّة لإيمانه، ويغدو التديّن الشكليّ هدفاً بحد ذاته ويضيع الهدف الحقيقي الأساس الإيمان وخدمة حياة الإنسان وكرامته. ومن نافل القول إنّ الدمار الشخصيّ والاجتماعيّ والسياسيّ الذي ينتج عن واقع الحال هذا كبير جدّاً، خاصّة عند ضعف الدولة.
خلاصة
بالطبع الإنسان الذي يؤمن بشيء ويمارسه لا مشكلة لديه. فمثلاً من يؤمن بالمشاركة ويمارسها لن يشعر بمشكلة ولا مشكلة لنا معه؛ ومن يؤمن بالرأسماليّة وباستغلال الآخرين وقمعهم وبأيّة وسيلة أخرى من أجل تحقيق أرباح أعلى فأعلى لذاته، وهو يقرّ بهذا الإيمان، ولا يخدع نفسه بأنّه مؤمن بالله أو بالمساواة والمشاركة والحرّية، هذا الإنسان لا يشعر بتنافر بين تصرّفاته وأفكاره. هكذا إنسان هو حرّ في إيمانه، مشكلتنا معه أنّه يدمّر هذا العالم بالذات، ويولّد فيه الأحقاد والحروب والفقر والعنف والكآبة من أجل تحقيق أرباحه، ولهذا تجب مواجهته. ليست كلّ أنواع الإيمان مناسبة لحياة الناس.
المشكلة ليست في أن يكون الإنسان مؤمناً - الحقيقة لا يوجد إنسان لا يؤمن بشيء - وإنّما في نوع طريقة الحياة الناتجة عن إيمانه. إن كانت طريقة الحياة الناتجة عن إيمان ما مدمّرة، فيمكن مواجهة هكذا إيمان بالفكر وبالقانون إن اقتضى الأمر، أمّا طريقة الحياة التي تترجم الإيمان فيجب أن تواجه بأفعال، مهما كان الإيمان اللفظيّ (بوذي يهودي مسيحي إسلامي إلخ.) الذي تدين به.
الإيمان الفعليّ هو المهم لأنّه ككلّ إيمان يترجم نفسه بأفعال والأفعال تؤثّر في جميع الناس. الإيمان الفعليّ أي مجموعة المبادئ الفعليّة التي يدين بها الإنسان والتي تتجسّد في تصرّفاته لا في أقواله، هو المركز الذي يمكن أن تُبنى حوله العلاقات البشريّة في المجتمع، والتعاون السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ بين الناس، ومبادئ الحكم في الدول. بالطبع بعض الإيمان الفعليّ يدمّر وبعضها ينمّي الإنسان والحياة، ولنا الحقّ بأن نحكم على تلك المبادئ التي يتضمّنها الإيمان الفعليّ، لأنّ هذه لها أثر علينا كبشر، ونترك ذلك لمقالة تالية.
خريستو المرّ
بالتأكيد، المرتجى هو أن تنسجم طريقة حياة الإنسان مع إيمانه ودينه، بحيث تأتي طريقة الحياة معبّرة عن الإيمان (علاقة الإنسان بالإله وبالناس) ومجذِّرة له، وفي الوقت عينه منسجمة مع الدين (الطقوس والعقائد). المرتجى هو أن يلهم إيمانُ الإنسان طريقةَ حياته، فيكون يحيا إيماناً فعليّاً.
المأساة الإنسانيّة هي أنّنا قادرون على العيش المزدوج: نعلن لفظيّاً انتماءنا لدين وإيماننا، بينما طريقة حياتنا تعبّر عن إيمان فعليّ غير ذاك اللفظيّ. هكذا، يمكن أن يعلن الإنسان انتماءه إلى الدين البوذيّ أو اليهوديّ أو المسيحيّ أو الإسلاميّ ولكن يبقى إيمانه لفظيّاً، إذ يمكنه أن يكون مؤمناً فعليّاً بالمال والسلطة، فيمارس طريقة حياة يستغلّ فيها عمّاله أو أفراد عائلته مستخدماً إيّاهم (بل ومستخدماً ذاته نفسها) كوسائل لجني المال أو السلطة. يعبّر القرآن أيّما تعبير عن هذا الواقع بـ«قالت الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم» (الحجرات ١٤).
وكما أنّ هناك إيماناً لفظيّاً وإيماناً فعليّاً، فكذلك هناك إلحاد لفظيّ وإلحاد فعليّ. الملحد اللفظيّ هو الذي فكريّاً لم يجد الله، ولكن الملحد الفعليّ هو من يعيش طريقة حياة معاكسة لطريقة الحياة التي يفترضها الإيمان في الأديان جميعاً: العدل والمساواة و«استباق الخيرات»، فإذا به يظلم ويستغلّ ويقمع ويعذّب ويُفَقِّر الناس.
طريقة الحياة هي الفصل
الإلحاد اللفظيّ (الفكريّ) هو أمر شخصيّ، إلّا عند الذين يريدون أن ينصّبوا أنفسهم ديكتاتوريّين على الضمائر ويريدون أن يتّبع الناس ديناً ما قسراً؛ أمّا الإلحاد الفعليّ فشأن المجتمع ككلّ لأنّه يعيث خراباً في حياة البشر. فما يهمّنا كبشر بالدرجة الأولى هو طريقة حياة الإنسان في المجتمع: هل هو يستغلّ ويدمّر وينهب ويثير البغضاء ويدعو إلى الكراهية والقتل، أم يسعى للعدالة والمساواة ومشاركة الخيرات؟ إن كانت طريقة حياة الإنسان هي استغلال ونهب وإثارة للبغضاء ودعوة للكراهية وعنصريّة، فيجب مواجهة طريقة الحياة هذه ليس بالفكر وحسب وإنّما أيضاً بالقوانين والضغط والعمل السياسيَّين.
المشكلة بالنسبة إلى المجتمع ليست في إيمان أو إلحاد الشخص لفظيّاً/فكريّاً وإنّما في إلحاده الفعليّ، أي في طريقة تصرّفاته. فالملحد فكريّاً الذي يعمل من أجل المساواة بين البشر وتحقيق العدل لا يضرّ المجتمع وإنّما ينفعه بل لربّما هو أقرب إلى الله من إنسان آخر مؤمن لفظيّاً بالله ولكنّه ملحد عمليّاً به لأنّه في عمله يستغلّ عمّاله وموظّفيه لمراكمة أرباحه، أو ينهب بلاده فيدمّر مستقبل ملايين من البشر، أو حتّى يعنّف ويدمّر حياة إنسان واحد عامل لديه، زوجته، حبيبته، ابنته، ابنه، أخوه، أخته إلخ. الكلمة الفصل في الحياة العامّة ليست لخيارات الشخص اللفظيّة/الفكريّة وإنّما لطريقة حياته الفعليّة.
طريقة الحياة تؤثّر بالإيمان
لكن كما يؤثّر إيمان الإنسان الحقّ (بالله أو بفلسفة) بأفعاله، فكذلك أفعاله تؤثّر في إيمانه، تقدّماً أو تراجعاً. فإن كان الإنسان يمارس الاستغلال كرأسماليّ فهو على صعيد الخبرة المُعاشة، أي على صعيد الحياة الملموسة والأفعال سينحو للانفصال عن الآخر الإنسان وعن نفسه ذاتها، فيغدو يستعمل نفسه والآخرين أدوات جني أرباح وسلطة. عندها بالطبع، لا يهمّ إن بقي فكريّاً مؤمناً، وبقي متّبعاً في دينٍ ما، فهو يصبح عمليّاً مُلحداً لا يقرّ بالله مصدرَ حياة ووجودٍ يدفعه للمشاركة عوض الاستئثار. طريقة حياة هذا الإنسان ستجعل إيمانه بالله يضمحلّ ليحلّ مكانه إيمان فعليٌّ بصنم المال والسلطة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان المؤمن فكريّاً بفلسفة أو مبدأ كالمساواة والذي يعيش على صعيد الفعل في ممارسة قبليّة عصبيّة أو طائفيّة تنفي بالضرورة المساواة بين الداخل والخارج، أو هو يمارس قمعاً وعنفاً ضدّ النساء في عائلته، هكذا إنسان هو بالفعل كافرٌ بمبادئه وفلسفته وإن بقي يشيد بها في كلاميّاته اليوميّة. طريقة حياة هذا الإنسان ستجعل إيمانه بالمبادئ يضمحلّ ليحلّ مكانه فعليّاً إيمانٌ بصنم الجماعة وصنم الذات.
عندما ينفصل الفعل عن الإيمان، يتقلّص الإيمان ولا يبقى في حياة الشخص سوى دين لفظيّ وإيمان لفظيّ بالله أو بالمبادئ، وإيمان فعليّ بصنمٍ. وإن بقي الدين اللفظيّ دون إيمان فعليّ فسد كلّ شيء، لأنّ الممارسة الدينيّة تبقى سطحيّة، فيكتفي الإنسان بالشكل دون المضمون، وتبقى طريقة حياته الفعليّة منسجمة مع إيمانه الفعليّ (استغلال ونهب مثلاً) ومتعارضة مع إيمانه اللفظيّ (الله محبّة، الخلق كلّهم عيال الله، مثلاً).
المشكلة ليست مشكلة إيمان وإنّما مشكلة فصام بين إيمان لفظيّ وإيمان فعليّ وما يتبعها بالضرورة في الحياة الدينيّة والاجتماعيّة من سيادةٍ للدين – أي الشكل والإطار – على المضمون؛ إنّها مسألة امّحاء العلاقة الشخصيّة الذاتيّة مع الله/المبادئ ومع الإنسان، تلك العلاقة المتجسّدة في طريقة حياة منسجمة معها، امّحاؤها لصالح علاقة شكليّة: أفكار محفوظة وطقوس شكليّة. عندها يغدو الدين كإطارٍ دون الإيمان كمضمونٍ ميت وفارغ، تماماً كما الزواج دون حبّ.
حياة تدمّر ذاتها وغيرها
المشكلة أنّ انفصال الإطار (الدين) عن المضمون (الإيمان) يولّد تنافراً/تعارضاً بين الأفكار التي يحملها الإنسان عن نفسه من جهة وبين طريقة حياته من جهة أخرى. ومن المعروف في علم النفس أنّ هكذا تنافر بين الممارسة والأفكار (cognitive dissonance) يولّد قلقاً، والقلق يدفع الإنسان إلى تزوير واقعه عن طريق تغيير أفكاره، تغير مقتضيات إيمانه، لتصبح أكثر مواءمة لتصرّفاته، فيخفت التنافر المعرفيّ. ويسعى كذلك إلى إخفاء هذا التنافر بشتّى ضروب الاحتيال على الذات والآخرين وذلك من خلال التركيز على التديّن الشكليّ الذي لا يتطلّب تغييراً في طريقة الحياة: تطرّف في ممارسة الطقوس، تشبّث أعمى بالتقاليد، رفض للآخر... وذلك للتأكيد - للذات قبل الآخرين - أنّه لم يفقد إيمانه. يبالغ الإنسان بالتمسّك بالشكل في محاولة للتعويض عن نقص في المضمون: الإيمان المنسجم مع الدين. وكلّما زاد التنافر كلّما زاد القلق، وكلّما زاد التزوير، وأصبح تأكيد الشكل (الدين)، وتأكيد الاختلاف عن دين الآخرين، ضروريّين، مع ما يتبع ذلك من تطرّف وانكماش، وكراهية.
هكذا، يستعيض الإنسان بمزيد من الدين ليخدّر ألمه من خيانته العمليّة لإيمانه، ويغدو التديّن الشكليّ هدفاً بحد ذاته ويضيع الهدف الحقيقي الأساس الإيمان وخدمة حياة الإنسان وكرامته. ومن نافل القول إنّ الدمار الشخصيّ والاجتماعيّ والسياسيّ الذي ينتج عن واقع الحال هذا كبير جدّاً، خاصّة عند ضعف الدولة.
خلاصة
بالطبع الإنسان الذي يؤمن بشيء ويمارسه لا مشكلة لديه. فمثلاً من يؤمن بالمشاركة ويمارسها لن يشعر بمشكلة ولا مشكلة لنا معه؛ ومن يؤمن بالرأسماليّة وباستغلال الآخرين وقمعهم وبأيّة وسيلة أخرى من أجل تحقيق أرباح أعلى فأعلى لذاته، وهو يقرّ بهذا الإيمان، ولا يخدع نفسه بأنّه مؤمن بالله أو بالمساواة والمشاركة والحرّية، هذا الإنسان لا يشعر بتنافر بين تصرّفاته وأفكاره. هكذا إنسان هو حرّ في إيمانه، مشكلتنا معه أنّه يدمّر هذا العالم بالذات، ويولّد فيه الأحقاد والحروب والفقر والعنف والكآبة من أجل تحقيق أرباحه، ولهذا تجب مواجهته. ليست كلّ أنواع الإيمان مناسبة لحياة الناس.
المشكلة ليست في أن يكون الإنسان مؤمناً - الحقيقة لا يوجد إنسان لا يؤمن بشيء - وإنّما في نوع طريقة الحياة الناتجة عن إيمانه. إن كانت طريقة الحياة الناتجة عن إيمان ما مدمّرة، فيمكن مواجهة هكذا إيمان بالفكر وبالقانون إن اقتضى الأمر، أمّا طريقة الحياة التي تترجم الإيمان فيجب أن تواجه بأفعال، مهما كان الإيمان اللفظيّ (بوذي يهودي مسيحي إسلامي إلخ.) الذي تدين به.
الإيمان الفعليّ هو المهم لأنّه ككلّ إيمان يترجم نفسه بأفعال والأفعال تؤثّر في جميع الناس. الإيمان الفعليّ أي مجموعة المبادئ الفعليّة التي يدين بها الإنسان والتي تتجسّد في تصرّفاته لا في أقواله، هو المركز الذي يمكن أن تُبنى حوله العلاقات البشريّة في المجتمع، والتعاون السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ بين الناس، ومبادئ الحكم في الدول. بالطبع بعض الإيمان الفعليّ يدمّر وبعضها ينمّي الإنسان والحياة، ولنا الحقّ بأن نحكم على تلك المبادئ التي يتضمّنها الإيمان الفعليّ، لأنّ هذه لها أثر علينا كبشر، ونترك ذلك لمقالة تالية.
خريستو المرّ