خريستو المرّ
أنا عندي حنين ما بعرف لمينأحيا، أذهب إلى دراستي، إلى عملي. ألعب. أقرأ. أكتب. أُصادق. أُحِبّ. أُحَبّ. أناضل. أواجه. أنكسر. أنتصر. أحيا في الجماعة موصولاً، وأحيا مفرداً. وأحبّهم كلّهم، وكلّ شيء. وأبني قليلاً قليلاً ملامح الأفضل في لحم الأيّام. ولا أعرف لمَ، لا يكفيني هذا كلّه. لا أعرف أيّ مدى يتراأى لي ويختفي بعد فرح كلّ جماع، ولا أيّة خيبة تعبر قلبي بعد كلّ لقاء وكلّ فعل خلق أقوم به وبعد كلّ انتصار. ولا أعرف أيّ وجع أشعر به وأنا أواري أحبتي الثرى. هناك حنين فيّ لا أعرف لمن، يأخذني في كلّ ما أختبره لا أعرف إلى أين.
ليليّي بيخطفني من بين السهرانينوالمشكلة أنّه حنين متواصل. أسمع خريره كساقية دائمة الجريان في غابة وجهي. حنينٌ ضوءُه يشعّ خلف كلّ حزن فيّ، والأنكى أنّه يشعّ خلف كلّ فرح. حنينٌ يخطفني من الوجوه، بالرغم من أنّه يرميني أمامها لأتعاطى معها المحبّة، يخطفني إلى... لا أعرف إلى أين، ولا أعرف إلى مَن. ومشدوهاً، ألمح خلف تلك الوجوه الحنينَ نفسه، فيصير لقائي بها وكأنّه لقاء الحنين بالحنين، الحنين الذي فيّ بالحنين الذي فيها. وإذا بنا نحيا اللقاء ونحيا الحنين في آن واحد. ها نحن نسهر معاً، في حفلة، أو في عشاء، أو حول كأسَي نبيذ، أو في سهرانيّة، ويبقى الحنين ذاته خاطفَني من بين الساهرين، كلّ ليلة.
بيصير يمشّيني لَبْعيد يودّينيأمشي وراء الحنين، ألحق به، أتابعه في الساحات، في مكان عملي، في بيتي، أرصده في أوجاع الفرحين، وفي أفراح الموجوعين. ألحق به، فإذا بي أراه يأخذني، ليس إلى مكان آخر، بل إلى مكان أبعد، أبعد من الذي أراه، أبعد من السطح، أبعد من القشرة، أبعد من حتّى الخبرة. ما هذا البعيد الذي يشدّني؟ وأيّة نجمة قطبيّة مغروسة تحت جلدي؟ وإلى أيّ قطب تدلّ؟ ماذا أعمل بهذا الحزن المضيء الرابض خلف كلّ شيء؟ يؤلمني الحنين بحلاوته، ويحرّكني ألمي كي ألاقي هذا الذي يحقّق حنيني، ولهذا أفعل ما أفعل، ولهذا أحبّ مَن أحبّ، ولهذا أناضل مع من أناضل؛ ويبقى الحنين غير مُحَقَّق، يبقى أبعد، يبقى خلف، يبقى خارجاً مع أنّه داخل، ويبقى داخلاً مع أنّه خارج.
تا أعرف لمين و ما بعرف لمينولا أعرف لمن هو هذا الحنين. آه لو أعرف، لذهب عنّي هذا الحزن، هذا الحزن المضيء خلف جلد الوجود.
عَدَّيْت الأسامي و مْحِيْت الأسامي ونامي يا عينيّي إذا رَحْ فيكي تناميفي اللَّيالي، على فِراش حنيني، أطلبُ مَنْ يحنّ إليه كلّي، أطلُبُهُ فلا أجِدُه. أقومُ إلى نهار العمل وإلى نهار اللعب واللقاء والسفر. يشتدّ فيّ الحنين ولا أجده. أطوفُ في المدينةِ، وفي القرى النائية، وأسافر الجهات الأربع، ولا أسمع له صوتا في الأسواقِ ولا في السَّاحاتِ. أطلُبُ مَنْ يُجنّ قلبـي بالحنين إليه، أطلبُهُ بشدّة، فلا أجِدُهُ. عجيب. لقد حقّقت أشياء لم أحلم أنّني سأحقّقها حتّى في عمق أعماق صحوة أحلام طفولتي، وسافرت بين مدن وبين كلمات لم أتخيّل أنّني أحملها، سافرت علّني أجد آثار ذاك الذي أسمع وقع خطواته فيّ حنيناً ولا أجده. من هو ذاك "الأغلى من أيّامي"، ذاك " الأحلى من أحلامي"، مع أنّه لايترك فيّ سوى الحنين.؟
أو يكون أحد أصدقائي، أو تكون حبيبتي، أو يكون أحد المظلومين الذين ساعدتهم، أو أحد هؤلاء الذين تركتهم خائبين يوماً من قلّة حبّي؟ "عدّيت الأسامي ومحيت الأسامي"، لكن لا، ليس صاحب الحنين واحداً من كلّ هؤلاء، فهؤلاء جميعاً يحملون الحنين نفسه مثلي، يشاركوني القلق نفسه، هم مثلي قلقون من نداء ذاك الحنين.
عجيب قطبُ الحنين هذا. وكأنّي أعرفه وألاقيه طوال الوقت، ومع ذلك أحنّ إليه طوال الوقت. ألاقيه فيّ، وألاقيه في وجوه مَن حولي، ومَن أنا حولهم، ومع ذلك لا أجده. "نامي يا عينيّي إذا رح فيكي تنامي". كيف أنام، وقد صرت شريداً خلف هذا الحنين؟ كيف أنام وقد صرتُ شريداً في كلّ ما أفعل؟
و بعدو هالحنين من خلف الحنين، بالدمع يغرقني، وبأسامي المنسيّينمن هو قطب ذاك الحنين الذي ينادي فيّ؟ من هو قطب هذا الحنين الذي يقف حنيناً وراء كلّ حنين فيّ إلى كلّ شيء، وإلى كلّ شخص؟ من هو ذاك الذي يقف حنيناً وراء كلّ حنيني إلى كل الخليقة، ووراء كلّ خلق أمارسه ويمارسه غيري؟ مذهل أنّ هذا الحنين ما يزال واقفاً منتظراً خلف كلّ حنين؛ "بعدو هالحنين من خلف الحنين". ولكن ماذا ينتظر؟
تمزّقني التساؤلات. نعم، يؤلمني ذاك الحنين، فليست كلّ أيامي معه جميلة وتستدعي فيّ التأمّل، لا، إنّها تستدعي فيّ الدمع أيضاً، فكلّ حنين مبللّ بالدمع، لأنّه لا تحقيق، لا وصول، ما أن نقول حنين حتّى نعرف أنّ الوصول لم يحصل. لهذا يبقى هذا الحنين "بالدمع يغرقني" عندما أيأس من بحثي، ويُغرقني "بأسامي المنسيّين" من أحبابي عندما أجول بينها محاولاً مطابقتها بمصدر الحنين، بقطبه.
تا أعرف لمين، و ما بعرف لمينالحقيقة أنّ الحنين لا يُغرقني، وإنّما أنا أغرق بالدمع وأغرق في الأسماء، "تا أعرف لمين، و ما بعرف لمين" هو هذا الحنين... وحين أعود من غرقي، عندما أعود من قلقي، من انكبابي على شعوري، على جوعي إلى استهلاك الحنين، إلى الوصول، إلى الالتهام، إلى استنفاذ رغبتي، وإطفاء اشتهائي لذلك القطب الذي يجذب ذاك الحنين الذي وراء كلّ حنين فيّ؛ عندما أعود من إلحاح تحقيق رغبتي بالقبض على الواقف خلف الحنين، عندما أعود من دمع عدم تحقيق الرغبة بالالتهام، بالإمساك، بالأخذ، بالاستهلاك، باستيعاب سرّ ذاك الحنين نهائيّاً. عندها، أراكَ، أنتَ، أنتَ الذي نسيتك، في بحثي. أنت الذي أحببتك، ثمّ تركتك واقفاً منتظراً في الداخل ولكن في الخارج، منتظراً في الخارج ولكن في الداخل. أنت الذي أحببتك، ومن خوفي تركتك. أنت. أنت. أنت المخيف لي لأنّك برهان عدم كمالي بنفسي، وبرهان عدم كفاية هذا العالم أن يشبعني، برهان جوعي الدائم إلى... إليك. نعم، الآن أفهم. لقد خفتُ أن أخطو إليك، كما نخاف كلّنا في مراهقتنا من الخطو نحو حبيبة، نخاف ليس لأنّنا فقط لا نعرف الحبيبة، ولكن في العمق لأنّ هذه الحاجة إلى حبيبة برهان أنّنا لا نكتفي بذواتنا، نخشى الحبيبة ونخشاك، حبيبي. فالحبّ برهان الإنسان أنّه ليس إله بذاته، الحبّ جرح نرجسيّتي وشفاؤها، شفاؤها من آخرِ وهمٍ قابعٍ وراء كلّ وهم آخر، أنّني إله بذاتي، أنّني لا أحتاج للآخر كي أحيا، أنّي لا أحتاج إليك كي أكون. أنتَ كنتَ طوال الوقت قطب الحنين الواقف خلف كلّ حنين فيّ.
أنا خوفي يا حبي لَتْكون بَعْدَك حُبّي، و متهيألي نسيتك و إنتَ مخبّا بقلبيوأنا، أنا الآن، يا حبّي، أخشى من جديد انشدادي إليك، أخشى خوفي من أن تكون ما زلتَ حبّي، ومن أنّني أتوق إلى أن أحبّك من جديد، وأكتشفك من جديد. أقول «من جديد»، وكأنّني نسيتك حقّاً يا حبّي الآن، يا حبّي الدائم رغم خطاياي، يا حبّي الذي عانيته حتّى ولدني، يا أنت، يا أنت "المشتهى بالحقيقة"، يا أنت حنيني وحقيقتي، يا أنتَ شهوتي خلف كلّ شهوة. نعم، أخاف "لَتْكون بعدك حبّي"، ما أزال أختبر نفس الخوف، خوف الخروج من نفسي لأقبل أنّني لستُ مكتفياً بنفسي، أنّني في النهاية لست إله.
"ومتهيألي نسيتك و إنتَ مخبّا بقلبي"، كنت أظنني نسيتك فإذا بك مختبئ في قلبي، كنتَ طوال الوقت في قلبي، واقفاً خلف الحنين. وكيف لا تكون في قلبي وأنا كلّي مجبول بك، وأنا منسوج من هذا العالم ومنك، وأنا أحمل رغم آثار الزلاّت صورة مجدك، صورة وجهك. أنت خبيء قلبي، وتبقى خبيئاً لأنّك تنادي ولا تكسر، لا تريد كسر حرّيتي بأن أجيب على حبّك ونداءك الدائم كما أنا أشاء؛ وأعمق من هذا أنت خبيء حتّى أعبُرُ، عِبر الدموع، وغرق الدموع، عِبر مآسي نرجسيّتي، إلى نضجي، إلى قيامتي كإنسان خارج من قبر نرجسيّته، كإنسان خارجٍ من قبر وهم رغبته بالالتهام وبالامساك وبالاستهلاك وبالإحاطة وبالاستيعاب، خارجٍ إلى شمس حقيقة وجهك كآخر، كآخر مُطلَق، أنت خبيء حتّى تصير مشيئتي مشيئتك بحرّيتي. أنت خبيء كي أقوم معك، إن أنا أردتُ يا أقرب إليّ من تنفّسي، فيتجلّى هوسي بالتألّه بذاتي عندما أتحوّل إلى حبّ حرّ معك، إلى إنسان حقيقيّ، متألّه معك خارج الأوهام.
و بتودّي الحنين ليليّي الحنين، يِشْلَحني بالمنفى، بعيونك الحلوينولهذا الآن أفهم، لماذا ترسل حنينك، روحك القدس، إلى قلبي كلّ ثانية، لماذا "بتودّي الحنين ليليّي الحنين". أفهم لماذا زرعتَ الحنين فيّ بحيث أنّ كلّ تحقيق لكلّ حنين يشلحني من جديد في الحنين خلف كلّ حنين، يشلحني في سرّك يا قطب الحنين. أفهم لماذا أُعاني الخيبة خلف النجاح والخلق والفرح، لماذا فرحي نفسه يحمل آثار عدم الوصول. لماذا كلّ إقامة عندي، في أرض وفي وجوه تحمل طعم النفي. لأنّني اكتشفت من خلال رفقتي لك، بأنّك ملء قامتي، وهواء وجودي، وحرّيتي، ففهمتُ أنّك تركتَ الحنين إليك إشارة إلى حضورك، تركته فراغَ ختم وجهك فيّ، تركته صورتك؛ علّني أفهمُ بأنّ كلّ عطاياك (ومنه حبّي) مع كلّ حقيقتها، ورغم أنّها تحمل نورك البهيّ الذي يقدّسني، هي أصنام لا تُحيي إنّ أنا توقّفت عندها وألّهتها. نعم، لهذا زرعت الحنين فيّ رسالة دائمة، فالحنين نجمتي القطبيّة إليك، يا قطب حياتي.
وهذ الحنين يشلحني في المنفى، في عينيك الحلوتين. نعم حبيبي، إنّ "عيونك الحلوين" هي منفاي؛ إنّها منفاي عن السطح، عن قشرة الوجود، عن كلّ وهم أخلقه في هذا العالم وأنا في قلب هذا العالم مناضلاً ومحبّاً وخالقاً ومصادقاً وفرحاً وحزيناً ويائساً ومليئاً بالأمل. عيناك منفاي عن الإقامة الدائمة، منفاي عن سطح الموجود، منفاي عن الإقامة الدائمة في أرض أيّ حنين. عيناك منفاي لأنّ عينيك تأخذاني إلى وجودي الكامل، معك، تأخذاني من وهم اكتفائي بنفسي، ومن وهم اكتفائي بحقيقة حبيبتي، ومن وهم اكتفائي بحقيقة أصدقائي وحقيقة كلّ لذّة زرعتها فيّ، ومن وهم اكتفائي بحقيقة هذا العالم الجميل المُهدى منك، لكي أصل إلى الحقيقة الكاملة نبع كلّ حقيقة أخرى، لكي أصل إلى حقيقة الإقامة في سرّ وجهك، في حبّك، في علاقة معك تصيّرني إلهاً. أخيراً أنا أصير إلهاً، إذا ما لامست قرارة نورك غير المخلوق، الذي لا قرار له. إذا ما صعدت وديانك، وهبطتُ إلى قممك، واكتشفت تضاريس وجهك خلف وجه حبيبتي ووجه أصدقائي ووجوه الموجوعين ووجه هذا الكون، واكتشفتُ يديك خلف كلّ فعلٍ خلاّق، وخطوتُ إلى وجهك الكامن خلف كلّ لذّة، هدّية منك، تتوق إليها رغباتي وأعيشها. أنت ترسل هذا الحنين وتشلحني في الإقامة وفي المنفى، تشلحني في اللاستيعاب، حتّى أتوب وأقبَل أن أشاركك نفسي، فأساهم فيك، وأمرّ من تحقيق كلّ حنين إلى الحنين إليك، ومن تحقيق هذا الحنين إليك، إلى الحنين إليك من جديد، في سلسلة بدايات حنين لا تنتهي. فإذا بي شبِعٌ في الجوع، وجائع في الشبع؛ إذا بي، أخيراً، خارج الشبع والجوع، إذا بي في السرّ، سرّ الحبّ.
تا أعرف لمين و ما بعرف لمينلا لن أقول الآن، ولا عندها، أنّني أعرفك، وأنّني أخيراً استهلكتُ سرّك، وأنّني أعرفك أنت يا قطب الحنين خلف كلّ حنين؛ لا، فرغم كلّ حبّي وحبّك، ستبقى هوّة طبيعتينا قائمة بيني وبينك، فأنا لن أعرف من سرّك سوى نور حبّك غير المخلوق، أمّا أنت فستبقى السرّ الذي لا عمق له، لأنّك شخص ولأنّك فوق كلّ إدراك لنا. ولهذا سأظلّ أردّد لك بعد رحيلي "تا أعرف لمين، ما بعرف لمين"، ذاك أنّي مع أنّني أعرف، فأنا لا أعرف؛ لأنّك كحبيبتي أعرفها ولا أعرفها، الآن وإلى الأبد.
نعم حبيبي، نعم، سأغنّي لك، حتّى عندما تشرق شمس ذلك النهار، وترسل روحك فيتجلّى الكون وتتجدّد الأرض، ويتلألأ كلّ حبّ وكلّ صداقة وكلّ قلب واسع، وكلّ فنّ، وكلّ التفاتة عين، عندما تُبدي لنا ما استطعنا أن نختبر من وجهك، عندما أنتَ تُعرّفنا بك "وجهاً لوجه"، فنسهر معاً لنشرب الخمرة الجديدة المعصورة من كرم حبّك، عندها سأغنّي لك، سأغنّي في جوقة المحبّين لك، الواقفين فرحين أمام جمال وجهك الحاضر أبداً والبعيد أبداً:
أنا عندي حنين صرت بعرف لمين
ليليّي بْعيشو مع السهرانين
بيصير يمشّيني وفيك يودّيني
صرت بعرف لمين و ما بعرف لمين
ولكن، حبيبي، لا تهمّني، لا الآن ولا عندها، أيّة معرفة معزولة؛ وإنّما يهمّني أن أربط كلّ معرفة بالمعرفة المحوريّة التي تتجلّى بها كلّ معرفة: معرفة العلاقة، معرفة الحبّ. فأنا تعلّمتُ من حبّك وحبّها وحبّهم وحبّي ألاّ يهمّني إلاّ أن نتوحّد كلّنا معاً في الحبّ، معيّدين في ضياء وجهك.
حبيبي؛ إنّي أحبّ، فأعن قلّة حبّي.
29 نيسان 2010
خريستو المرّ
أنا عندي حنين ما بعرف لمينأحيا، أذهب إلى دراستي، إلى عملي. ألعب. أقرأ. أكتب. أُصادق. أُحِبّ. أُحَبّ. أناضل. أواجه. أنكسر. أنتصر. أحيا في الجماعة موصولاً، وأحيا مفرداً. وأحبّهم كلّهم، وكلّ شيء. وأبني قليلاً قليلاً ملامح الأفضل في لحم الأيّام. ولا أعرف لمَ، لا يكفيني هذا كلّه. لا أعرف أيّ مدى يتراأى لي ويختفي بعد فرح كلّ جماع، ولا أيّة خيبة تعبر قلبي بعد كلّ لقاء وكلّ فعل خلق أقوم به وبعد كلّ انتصار. ولا أعرف أيّ وجع أشعر به وأنا أواري أحبتي الثرى. هناك حنين فيّ لا أعرف لمن، يأخذني في كلّ ما أختبره لا أعرف إلى أين.
ليليّي بيخطفني من بين السهرانينوالمشكلة أنّه حنين متواصل. أسمع خريره كساقية دائمة الجريان في غابة وجهي. حنينٌ ضوءُه يشعّ خلف كلّ حزن فيّ، والأنكى أنّه يشعّ خلف كلّ فرح. حنينٌ يخطفني من الوجوه، بالرغم من أنّه يرميني أمامها لأتعاطى معها المحبّة، يخطفني إلى... لا أعرف إلى أين، ولا أعرف إلى مَن. ومشدوهاً، ألمح خلف تلك الوجوه الحنينَ نفسه، فيصير لقائي بها وكأنّه لقاء الحنين بالحنين، الحنين الذي فيّ بالحنين الذي فيها. وإذا بنا نحيا اللقاء ونحيا الحنين في آن واحد. ها نحن نسهر معاً، في حفلة، أو في عشاء، أو حول كأسَي نبيذ، أو في سهرانيّة، ويبقى الحنين ذاته خاطفَني من بين الساهرين، كلّ ليلة.
بيصير يمشّيني لَبْعيد يودّينيأمشي وراء الحنين، ألحق به، أتابعه في الساحات، في مكان عملي، في بيتي، أرصده في أوجاع الفرحين، وفي أفراح الموجوعين. ألحق به، فإذا بي أراه يأخذني، ليس إلى مكان آخر، بل إلى مكان أبعد، أبعد من الذي أراه، أبعد من السطح، أبعد من القشرة، أبعد من حتّى الخبرة. ما هذا البعيد الذي يشدّني؟ وأيّة نجمة قطبيّة مغروسة تحت جلدي؟ وإلى أيّ قطب تدلّ؟ ماذا أعمل بهذا الحزن المضيء الرابض خلف كلّ شيء؟ يؤلمني الحنين بحلاوته، ويحرّكني ألمي كي ألاقي هذا الذي يحقّق حنيني، ولهذا أفعل ما أفعل، ولهذا أحبّ مَن أحبّ، ولهذا أناضل مع من أناضل؛ ويبقى الحنين غير مُحَقَّق، يبقى أبعد، يبقى خلف، يبقى خارجاً مع أنّه داخل، ويبقى داخلاً مع أنّه خارج.
تا أعرف لمين و ما بعرف لمينولا أعرف لمن هو هذا الحنين. آه لو أعرف، لذهب عنّي هذا الحزن، هذا الحزن المضيء خلف جلد الوجود.
عَدَّيْت الأسامي و مْحِيْت الأسامي ونامي يا عينيّي إذا رَحْ فيكي تناميفي اللَّيالي، على فِراش حنيني، أطلبُ مَنْ يحنّ إليه كلّي، أطلُبُهُ فلا أجِدُه. أقومُ إلى نهار العمل وإلى نهار اللعب واللقاء والسفر. يشتدّ فيّ الحنين ولا أجده. أطوفُ في المدينةِ، وفي القرى النائية، وأسافر الجهات الأربع، ولا أسمع له صوتا في الأسواقِ ولا في السَّاحاتِ. أطلُبُ مَنْ يُجنّ قلبـي بالحنين إليه، أطلبُهُ بشدّة، فلا أجِدُهُ. عجيب. لقد حقّقت أشياء لم أحلم أنّني سأحقّقها حتّى في عمق أعماق صحوة أحلام طفولتي، وسافرت بين مدن وبين كلمات لم أتخيّل أنّني أحملها، سافرت علّني أجد آثار ذاك الذي أسمع وقع خطواته فيّ حنيناً ولا أجده. من هو ذاك "الأغلى من أيّامي"، ذاك " الأحلى من أحلامي"، مع أنّه لايترك فيّ سوى الحنين.؟
أو يكون أحد أصدقائي، أو تكون حبيبتي، أو يكون أحد المظلومين الذين ساعدتهم، أو أحد هؤلاء الذين تركتهم خائبين يوماً من قلّة حبّي؟ "عدّيت الأسامي ومحيت الأسامي"، لكن لا، ليس صاحب الحنين واحداً من كلّ هؤلاء، فهؤلاء جميعاً يحملون الحنين نفسه مثلي، يشاركوني القلق نفسه، هم مثلي قلقون من نداء ذاك الحنين.
عجيب قطبُ الحنين هذا. وكأنّي أعرفه وألاقيه طوال الوقت، ومع ذلك أحنّ إليه طوال الوقت. ألاقيه فيّ، وألاقيه في وجوه مَن حولي، ومَن أنا حولهم، ومع ذلك لا أجده. "نامي يا عينيّي إذا رح فيكي تنامي". كيف أنام، وقد صرت شريداً خلف هذا الحنين؟ كيف أنام وقد صرتُ شريداً في كلّ ما أفعل؟
و بعدو هالحنين من خلف الحنين، بالدمع يغرقني، وبأسامي المنسيّينمن هو قطب ذاك الحنين الذي ينادي فيّ؟ من هو قطب هذا الحنين الذي يقف حنيناً وراء كلّ حنين فيّ إلى كلّ شيء، وإلى كلّ شخص؟ من هو ذاك الذي يقف حنيناً وراء كلّ حنيني إلى كل الخليقة، ووراء كلّ خلق أمارسه ويمارسه غيري؟ مذهل أنّ هذا الحنين ما يزال واقفاً منتظراً خلف كلّ حنين؛ "بعدو هالحنين من خلف الحنين". ولكن ماذا ينتظر؟
تمزّقني التساؤلات. نعم، يؤلمني ذاك الحنين، فليست كلّ أيامي معه جميلة وتستدعي فيّ التأمّل، لا، إنّها تستدعي فيّ الدمع أيضاً، فكلّ حنين مبللّ بالدمع، لأنّه لا تحقيق، لا وصول، ما أن نقول حنين حتّى نعرف أنّ الوصول لم يحصل. لهذا يبقى هذا الحنين "بالدمع يغرقني" عندما أيأس من بحثي، ويُغرقني "بأسامي المنسيّين" من أحبابي عندما أجول بينها محاولاً مطابقتها بمصدر الحنين، بقطبه.
تا أعرف لمين، و ما بعرف لمينالحقيقة أنّ الحنين لا يُغرقني، وإنّما أنا أغرق بالدمع وأغرق في الأسماء، "تا أعرف لمين، و ما بعرف لمين" هو هذا الحنين... وحين أعود من غرقي، عندما أعود من قلقي، من انكبابي على شعوري، على جوعي إلى استهلاك الحنين، إلى الوصول، إلى الالتهام، إلى استنفاذ رغبتي، وإطفاء اشتهائي لذلك القطب الذي يجذب ذاك الحنين الذي وراء كلّ حنين فيّ؛ عندما أعود من إلحاح تحقيق رغبتي بالقبض على الواقف خلف الحنين، عندما أعود من دمع عدم تحقيق الرغبة بالالتهام، بالإمساك، بالأخذ، بالاستهلاك، باستيعاب سرّ ذاك الحنين نهائيّاً. عندها، أراكَ، أنتَ، أنتَ الذي نسيتك، في بحثي. أنت الذي أحببتك، ثمّ تركتك واقفاً منتظراً في الداخل ولكن في الخارج، منتظراً في الخارج ولكن في الداخل. أنت الذي أحببتك، ومن خوفي تركتك. أنت. أنت. أنت المخيف لي لأنّك برهان عدم كمالي بنفسي، وبرهان عدم كفاية هذا العالم أن يشبعني، برهان جوعي الدائم إلى... إليك. نعم، الآن أفهم. لقد خفتُ أن أخطو إليك، كما نخاف كلّنا في مراهقتنا من الخطو نحو حبيبة، نخاف ليس لأنّنا فقط لا نعرف الحبيبة، ولكن في العمق لأنّ هذه الحاجة إلى حبيبة برهان أنّنا لا نكتفي بذواتنا، نخشى الحبيبة ونخشاك، حبيبي. فالحبّ برهان الإنسان أنّه ليس إله بذاته، الحبّ جرح نرجسيّتي وشفاؤها، شفاؤها من آخرِ وهمٍ قابعٍ وراء كلّ وهم آخر، أنّني إله بذاتي، أنّني لا أحتاج للآخر كي أحيا، أنّي لا أحتاج إليك كي أكون. أنتَ كنتَ طوال الوقت قطب الحنين الواقف خلف كلّ حنين فيّ.
أنا خوفي يا حبي لَتْكون بَعْدَك حُبّي، و متهيألي نسيتك و إنتَ مخبّا بقلبيوأنا، أنا الآن، يا حبّي، أخشى من جديد انشدادي إليك، أخشى خوفي من أن تكون ما زلتَ حبّي، ومن أنّني أتوق إلى أن أحبّك من جديد، وأكتشفك من جديد. أقول «من جديد»، وكأنّني نسيتك حقّاً يا حبّي الآن، يا حبّي الدائم رغم خطاياي، يا حبّي الذي عانيته حتّى ولدني، يا أنت، يا أنت "المشتهى بالحقيقة"، يا أنت حنيني وحقيقتي، يا أنتَ شهوتي خلف كلّ شهوة. نعم، أخاف "لَتْكون بعدك حبّي"، ما أزال أختبر نفس الخوف، خوف الخروج من نفسي لأقبل أنّني لستُ مكتفياً بنفسي، أنّني في النهاية لست إله.
"ومتهيألي نسيتك و إنتَ مخبّا بقلبي"، كنت أظنني نسيتك فإذا بك مختبئ في قلبي، كنتَ طوال الوقت في قلبي، واقفاً خلف الحنين. وكيف لا تكون في قلبي وأنا كلّي مجبول بك، وأنا منسوج من هذا العالم ومنك، وأنا أحمل رغم آثار الزلاّت صورة مجدك، صورة وجهك. أنت خبيء قلبي، وتبقى خبيئاً لأنّك تنادي ولا تكسر، لا تريد كسر حرّيتي بأن أجيب على حبّك ونداءك الدائم كما أنا أشاء؛ وأعمق من هذا أنت خبيء حتّى أعبُرُ، عِبر الدموع، وغرق الدموع، عِبر مآسي نرجسيّتي، إلى نضجي، إلى قيامتي كإنسان خارج من قبر نرجسيّته، كإنسان خارجٍ من قبر وهم رغبته بالالتهام وبالامساك وبالاستهلاك وبالإحاطة وبالاستيعاب، خارجٍ إلى شمس حقيقة وجهك كآخر، كآخر مُطلَق، أنت خبيء حتّى تصير مشيئتي مشيئتك بحرّيتي. أنت خبيء كي أقوم معك، إن أنا أردتُ يا أقرب إليّ من تنفّسي، فيتجلّى هوسي بالتألّه بذاتي عندما أتحوّل إلى حبّ حرّ معك، إلى إنسان حقيقيّ، متألّه معك خارج الأوهام.
و بتودّي الحنين ليليّي الحنين، يِشْلَحني بالمنفى، بعيونك الحلوينولهذا الآن أفهم، لماذا ترسل حنينك، روحك القدس، إلى قلبي كلّ ثانية، لماذا "بتودّي الحنين ليليّي الحنين". أفهم لماذا زرعتَ الحنين فيّ بحيث أنّ كلّ تحقيق لكلّ حنين يشلحني من جديد في الحنين خلف كلّ حنين، يشلحني في سرّك يا قطب الحنين. أفهم لماذا أُعاني الخيبة خلف النجاح والخلق والفرح، لماذا فرحي نفسه يحمل آثار عدم الوصول. لماذا كلّ إقامة عندي، في أرض وفي وجوه تحمل طعم النفي. لأنّني اكتشفت من خلال رفقتي لك، بأنّك ملء قامتي، وهواء وجودي، وحرّيتي، ففهمتُ أنّك تركتَ الحنين إليك إشارة إلى حضورك، تركته فراغَ ختم وجهك فيّ، تركته صورتك؛ علّني أفهمُ بأنّ كلّ عطاياك (ومنه حبّي) مع كلّ حقيقتها، ورغم أنّها تحمل نورك البهيّ الذي يقدّسني، هي أصنام لا تُحيي إنّ أنا توقّفت عندها وألّهتها. نعم، لهذا زرعت الحنين فيّ رسالة دائمة، فالحنين نجمتي القطبيّة إليك، يا قطب حياتي.
وهذ الحنين يشلحني في المنفى، في عينيك الحلوتين. نعم حبيبي، إنّ "عيونك الحلوين" هي منفاي؛ إنّها منفاي عن السطح، عن قشرة الوجود، عن كلّ وهم أخلقه في هذا العالم وأنا في قلب هذا العالم مناضلاً ومحبّاً وخالقاً ومصادقاً وفرحاً وحزيناً ويائساً ومليئاً بالأمل. عيناك منفاي عن الإقامة الدائمة، منفاي عن سطح الموجود، منفاي عن الإقامة الدائمة في أرض أيّ حنين. عيناك منفاي لأنّ عينيك تأخذاني إلى وجودي الكامل، معك، تأخذاني من وهم اكتفائي بنفسي، ومن وهم اكتفائي بحقيقة حبيبتي، ومن وهم اكتفائي بحقيقة أصدقائي وحقيقة كلّ لذّة زرعتها فيّ، ومن وهم اكتفائي بحقيقة هذا العالم الجميل المُهدى منك، لكي أصل إلى الحقيقة الكاملة نبع كلّ حقيقة أخرى، لكي أصل إلى حقيقة الإقامة في سرّ وجهك، في حبّك، في علاقة معك تصيّرني إلهاً. أخيراً أنا أصير إلهاً، إذا ما لامست قرارة نورك غير المخلوق، الذي لا قرار له. إذا ما صعدت وديانك، وهبطتُ إلى قممك، واكتشفت تضاريس وجهك خلف وجه حبيبتي ووجه أصدقائي ووجوه الموجوعين ووجه هذا الكون، واكتشفتُ يديك خلف كلّ فعلٍ خلاّق، وخطوتُ إلى وجهك الكامن خلف كلّ لذّة، هدّية منك، تتوق إليها رغباتي وأعيشها. أنت ترسل هذا الحنين وتشلحني في الإقامة وفي المنفى، تشلحني في اللاستيعاب، حتّى أتوب وأقبَل أن أشاركك نفسي، فأساهم فيك، وأمرّ من تحقيق كلّ حنين إلى الحنين إليك، ومن تحقيق هذا الحنين إليك، إلى الحنين إليك من جديد، في سلسلة بدايات حنين لا تنتهي. فإذا بي شبِعٌ في الجوع، وجائع في الشبع؛ إذا بي، أخيراً، خارج الشبع والجوع، إذا بي في السرّ، سرّ الحبّ.
تا أعرف لمين و ما بعرف لمينلا لن أقول الآن، ولا عندها، أنّني أعرفك، وأنّني أخيراً استهلكتُ سرّك، وأنّني أعرفك أنت يا قطب الحنين خلف كلّ حنين؛ لا، فرغم كلّ حبّي وحبّك، ستبقى هوّة طبيعتينا قائمة بيني وبينك، فأنا لن أعرف من سرّك سوى نور حبّك غير المخلوق، أمّا أنت فستبقى السرّ الذي لا عمق له، لأنّك شخص ولأنّك فوق كلّ إدراك لنا. ولهذا سأظلّ أردّد لك بعد رحيلي "تا أعرف لمين، ما بعرف لمين"، ذاك أنّي مع أنّني أعرف، فأنا لا أعرف؛ لأنّك كحبيبتي أعرفها ولا أعرفها، الآن وإلى الأبد.
نعم حبيبي، نعم، سأغنّي لك، حتّى عندما تشرق شمس ذلك النهار، وترسل روحك فيتجلّى الكون وتتجدّد الأرض، ويتلألأ كلّ حبّ وكلّ صداقة وكلّ قلب واسع، وكلّ فنّ، وكلّ التفاتة عين، عندما تُبدي لنا ما استطعنا أن نختبر من وجهك، عندما أنتَ تُعرّفنا بك "وجهاً لوجه"، فنسهر معاً لنشرب الخمرة الجديدة المعصورة من كرم حبّك، عندها سأغنّي لك، سأغنّي في جوقة المحبّين لك، الواقفين فرحين أمام جمال وجهك الحاضر أبداً والبعيد أبداً:
أنا عندي حنين صرت بعرف لمين
ليليّي بْعيشو مع السهرانين
بيصير يمشّيني وفيك يودّيني
صرت بعرف لمين و ما بعرف لمين
ولكن، حبيبي، لا تهمّني، لا الآن ولا عندها، أيّة معرفة معزولة؛ وإنّما يهمّني أن أربط كلّ معرفة بالمعرفة المحوريّة التي تتجلّى بها كلّ معرفة: معرفة العلاقة، معرفة الحبّ. فأنا تعلّمتُ من حبّك وحبّها وحبّهم وحبّي ألاّ يهمّني إلاّ أن نتوحّد كلّنا معاً في الحبّ، معيّدين في ضياء وجهك.
حبيبي؛ إنّي أحبّ، فأعن قلّة حبّي.
29 نيسان 2010
خريستو المرّ