المقالة الأصليّة
الكبت حين يهذي: «ميّاس» واضطهاد النساءالثلاثاء ١ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٢
الكبت حين يهذي: «ميّاس» واضطهاد النساءالثلاثاء ١ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٢
خريستو المرّ
أطلّت فرقة ميّاس الراقصة في برنامج تلفزيونيّ وتابعها من يتابع فنّ الرقص عادة ومَن لا يتابعه؛ ولعلّ الإحباط العام الذي تعيشه البلاد دافع قويّ لتلمّس أمرٍ جميلٍ يضيء في العتمة النفسيّة الحالكة. وقد توسّل مصمّمو الرقص في الفرقة الثقافات الشرقيّة في تصاميمهم الجميلة. مَن شاهد العروض، لا بدّ أنّه لاحظ استخدام الفرقة رموز الأساطير الدينيّة (الحيّة مثلاً). الأغلبيّة الساحقة من الناس فرحت بعروضِ هذه الفرقة الجدّية ونجاحها. فما الذي يدفع بأصوات دينيّة مسيحيّة (لم أقرأ لأصوات دينيّة مسلمة وهذا لا يستبعدها) إلى التهجّم على الفرقة من باب عبادة الشيطان؟
تجنح قيادات دينيّة على جميع المستويات إلى فرض رؤيتها الخاصّة لما هو مسموح وممنوع في الفنّ، فترفع شعار المسّ بالمشاعر الدينيّة كلّما تناول عمل فنّي شيئاً من الدين بطريقة لا تعجبهم أو يشعرون بأنّ فيها مسّاً بشعائر أو عقائد؛ والمركز الكاثوليكيّ للإعلام في لبنان له اليد الطولى في طلبات منع الفرق الفنّية التي تجرح الشعور الديني المرهف للأب أبو كسم وصحبه.
لكن التحامل على فرقة ميّاس بلغ مبلغاً كبيراً بتهمة التعامل مع الشيطان، واعتقادي أنّ السبب يكمن في كونهنّ نساءً. عبر العصور، تحاملت الكنيسة على النساء؛ حتّى اليوم، هناك جبل كامل مليء بالأديرة في اليونان ممنوع أن تدخله امرأة، ونجد بين القصص الرهبانيّة التي يتناقلها بعض الرهبان قصّة تصف المرأة بالشيطان (المقصود أنّ وجودها نفسه تجربة للرهبان «المساكين»). لكنّي أفضّل قصّة رهبانيّة أخرى ذات دلالة في موضوعنا: يُحكى أنّه أثناء الصوم جاع راهب في أحد الأديرة، فدخل المطبخ سرّاً ومعه بيضة، وبات يضعها فوق الشمعة الموجودة في المطبخ لطهيها (لا تسألوني كيف)، وعندما فاجأه رئيس الدير في المطبخ ندم، وقال له بسرعة «الشيطان جرّبني»، فإذا بالشيطان يظهر ويقول لرئيس الدير «لا تصدّقه، أنا كنت أتعلّم منه».
هناك خوف قديم لدى الرجال من النساء يشير إليه التحليل النفسيّ، شيء من الرهبة والحسد كامن في نفس الرجل من هذا الكائن القادر على أن يلد إنساناً جديداً في العالم. يُضاف إليه أمر أهمّ، هو خوف الرجل الذي لم يعرف كيف يتصرّف مع طاقته الجنسيّة فكبتها (وشتّان بين الكبت والضبط) وتعامل معها كطاقة هوجاء مخيفة فحاول التهرّب منها بطردها من مجال الوعي ووضعها في زاوية مظلمة من النفس. فإذا بالطاقة الجنسيّة مستبعدة ومنفصلة عن مجمل الشخصيّة، فتبقى طاقة هوجاء عوض أن تتهذّب بالحنان وبالعلاقة الإنسانيّة مع آخر مُعتَرَف بكيانه المتمايز والحرّ. وإذا بالجنس المكبوت يطفو إلى الوعي، ويقفز إلى سطح النفس بوضعه الفجّ، كلّما كان الرجل أمام إنسان آخر (امرأة في حديثنا) يثير فيه الرغبة فيراه مجرّد جسد، وجسدٍ مغوٍ بالضرورة إذ إنّ الرغبة الجنسيّة تتصاعد من الأعماق المكبوتة بحالتها الفجّة، العشوائيّة، الاستهلاكيّة. عندها، تجتاح ذاك الإنسان مشاعر الاضطراب والخوف، وتتحوّل إلى غضب ورغبة بتبرير الذات والعقلنة، فيُسقِط على الآخر نوازعه الخفيّة، ويتصوّره ويصوّره على أنّه هو الذي يتقصّد الإثارة والإغراء، وأنّه شيطان يحاول أن يوقعه هو «البريء» بالخطيئة، بل وينسب إلى موضوع شهوته اقتداراً مرعباً ويعتبرها أصل الشرور (تذكّروا قصّة آدم وحوّاء مثلاً). وكلّما زادت حدّة الرغبة زادت حدّة ردود الفعل، وكلّما تهرّب الإنسان من مشاعره بإسقاطها على الآخر زادت حدّة التهجّم على ذاك الآخر.
هذه الأواليّات التي شرحها لنا علم التحليل النفسيّ لا تزال قائمة، وهي في السابق دفعت كنيسة يقودها رجال إلى التحامل على النساء وارتكاب الفظائع بحقهنّ، أثناء الحملة على مَن تخيّلتهم أنّهم «سحَرة». إنّ الذين نكّلت بهم الكنيسة بشكل وحشيّ بيد رهبان ساديّين كانوا خاصّة من النساء، إذ كانت الكنيسة تنكّل وتقتل خمسين امرأة، مقابل كلّ رجل واحد. وقد كان التنكيل وحشيّاً وبالغ القسوة، إذ كان حكم الإعدام يتمّ خنقاً أو حرقاً. وقد تعرّض الألوف من الأبرياء للإبادة الكنسيّة المنظّمة، وكان التنظيم رسميّاً إذ وضع راهبان، بطلب من البابا، عام 1486، دليلاً كنسيّاً يبيّن وسائل الكشف عن «السحَرة» المزعومين، وكيفيّة إجراءات المحاكمة وماهيّة الأحكام الضروريّة. هكذا قتلت الكنيسة ما يقدَّر بـ 40 ألفاً إلى 60 ألف امرأة بتهمة التعامل مع الشيطان.
إنّ التهجّم على فرقة ميّاس هي الظاهرة نفسها تعود في حقبة ليس باستطاعة رجال دينٍ رعاعٍ مكبوتين من حرق النساء، وإلّا لرأت نساء فرقة ميّاس المصير نفسه الذي لاقته أخواتهنّ في الجنس اللواتي أحرقهنّ رجال مكبوتون يسقطون حدّة رغباتهم الذاتيّة على نساء لا حول لهنّ ولا قوّة. الحمد لله الذين منحنا العقل لنتقصّى به أسباب الظواهر، وأمدّنا كبشر بما هو ممكن من الحكمة لنستطيع التمييز في أيّامنا بين اللبوس الدينيّ والإيمان الأصيل، بين الكبت حين يهذي والعلم حين يفحص، بين استخدام الدين للتسلّط وبين استخدامه لخدمة الإنسان.
من ناحيتنا، نتمسّك بحرّية الإنسان التي شاء الله - بحسب المسيحيّة - أن يخلقها ويحترم حتّى رفضها له. إنّ فرقة ميّاس بقدرات الراقصات والمصمّمين، حملت إلينا جمالات في لوحات ساحرة مستوحاة من آلاف السنين من الرهبة والتلمّس لسرّ الخلق والحياة، وأفرحت معظمنا بذلك.
أطلّت فرقة ميّاس الراقصة في برنامج تلفزيونيّ وتابعها من يتابع فنّ الرقص عادة ومَن لا يتابعه؛ ولعلّ الإحباط العام الذي تعيشه البلاد دافع قويّ لتلمّس أمرٍ جميلٍ يضيء في العتمة النفسيّة الحالكة. وقد توسّل مصمّمو الرقص في الفرقة الثقافات الشرقيّة في تصاميمهم الجميلة. مَن شاهد العروض، لا بدّ أنّه لاحظ استخدام الفرقة رموز الأساطير الدينيّة (الحيّة مثلاً). الأغلبيّة الساحقة من الناس فرحت بعروضِ هذه الفرقة الجدّية ونجاحها. فما الذي يدفع بأصوات دينيّة مسيحيّة (لم أقرأ لأصوات دينيّة مسلمة وهذا لا يستبعدها) إلى التهجّم على الفرقة من باب عبادة الشيطان؟
تجنح قيادات دينيّة على جميع المستويات إلى فرض رؤيتها الخاصّة لما هو مسموح وممنوع في الفنّ، فترفع شعار المسّ بالمشاعر الدينيّة كلّما تناول عمل فنّي شيئاً من الدين بطريقة لا تعجبهم أو يشعرون بأنّ فيها مسّاً بشعائر أو عقائد؛ والمركز الكاثوليكيّ للإعلام في لبنان له اليد الطولى في طلبات منع الفرق الفنّية التي تجرح الشعور الديني المرهف للأب أبو كسم وصحبه.
لكن التحامل على فرقة ميّاس بلغ مبلغاً كبيراً بتهمة التعامل مع الشيطان، واعتقادي أنّ السبب يكمن في كونهنّ نساءً. عبر العصور، تحاملت الكنيسة على النساء؛ حتّى اليوم، هناك جبل كامل مليء بالأديرة في اليونان ممنوع أن تدخله امرأة، ونجد بين القصص الرهبانيّة التي يتناقلها بعض الرهبان قصّة تصف المرأة بالشيطان (المقصود أنّ وجودها نفسه تجربة للرهبان «المساكين»). لكنّي أفضّل قصّة رهبانيّة أخرى ذات دلالة في موضوعنا: يُحكى أنّه أثناء الصوم جاع راهب في أحد الأديرة، فدخل المطبخ سرّاً ومعه بيضة، وبات يضعها فوق الشمعة الموجودة في المطبخ لطهيها (لا تسألوني كيف)، وعندما فاجأه رئيس الدير في المطبخ ندم، وقال له بسرعة «الشيطان جرّبني»، فإذا بالشيطان يظهر ويقول لرئيس الدير «لا تصدّقه، أنا كنت أتعلّم منه».
هناك خوف قديم لدى الرجال من النساء يشير إليه التحليل النفسيّ، شيء من الرهبة والحسد كامن في نفس الرجل من هذا الكائن القادر على أن يلد إنساناً جديداً في العالم. يُضاف إليه أمر أهمّ، هو خوف الرجل الذي لم يعرف كيف يتصرّف مع طاقته الجنسيّة فكبتها (وشتّان بين الكبت والضبط) وتعامل معها كطاقة هوجاء مخيفة فحاول التهرّب منها بطردها من مجال الوعي ووضعها في زاوية مظلمة من النفس. فإذا بالطاقة الجنسيّة مستبعدة ومنفصلة عن مجمل الشخصيّة، فتبقى طاقة هوجاء عوض أن تتهذّب بالحنان وبالعلاقة الإنسانيّة مع آخر مُعتَرَف بكيانه المتمايز والحرّ. وإذا بالجنس المكبوت يطفو إلى الوعي، ويقفز إلى سطح النفس بوضعه الفجّ، كلّما كان الرجل أمام إنسان آخر (امرأة في حديثنا) يثير فيه الرغبة فيراه مجرّد جسد، وجسدٍ مغوٍ بالضرورة إذ إنّ الرغبة الجنسيّة تتصاعد من الأعماق المكبوتة بحالتها الفجّة، العشوائيّة، الاستهلاكيّة. عندها، تجتاح ذاك الإنسان مشاعر الاضطراب والخوف، وتتحوّل إلى غضب ورغبة بتبرير الذات والعقلنة، فيُسقِط على الآخر نوازعه الخفيّة، ويتصوّره ويصوّره على أنّه هو الذي يتقصّد الإثارة والإغراء، وأنّه شيطان يحاول أن يوقعه هو «البريء» بالخطيئة، بل وينسب إلى موضوع شهوته اقتداراً مرعباً ويعتبرها أصل الشرور (تذكّروا قصّة آدم وحوّاء مثلاً). وكلّما زادت حدّة الرغبة زادت حدّة ردود الفعل، وكلّما تهرّب الإنسان من مشاعره بإسقاطها على الآخر زادت حدّة التهجّم على ذاك الآخر.
هذه الأواليّات التي شرحها لنا علم التحليل النفسيّ لا تزال قائمة، وهي في السابق دفعت كنيسة يقودها رجال إلى التحامل على النساء وارتكاب الفظائع بحقهنّ، أثناء الحملة على مَن تخيّلتهم أنّهم «سحَرة». إنّ الذين نكّلت بهم الكنيسة بشكل وحشيّ بيد رهبان ساديّين كانوا خاصّة من النساء، إذ كانت الكنيسة تنكّل وتقتل خمسين امرأة، مقابل كلّ رجل واحد. وقد كان التنكيل وحشيّاً وبالغ القسوة، إذ كان حكم الإعدام يتمّ خنقاً أو حرقاً. وقد تعرّض الألوف من الأبرياء للإبادة الكنسيّة المنظّمة، وكان التنظيم رسميّاً إذ وضع راهبان، بطلب من البابا، عام 1486، دليلاً كنسيّاً يبيّن وسائل الكشف عن «السحَرة» المزعومين، وكيفيّة إجراءات المحاكمة وماهيّة الأحكام الضروريّة. هكذا قتلت الكنيسة ما يقدَّر بـ 40 ألفاً إلى 60 ألف امرأة بتهمة التعامل مع الشيطان.
إنّ التهجّم على فرقة ميّاس هي الظاهرة نفسها تعود في حقبة ليس باستطاعة رجال دينٍ رعاعٍ مكبوتين من حرق النساء، وإلّا لرأت نساء فرقة ميّاس المصير نفسه الذي لاقته أخواتهنّ في الجنس اللواتي أحرقهنّ رجال مكبوتون يسقطون حدّة رغباتهم الذاتيّة على نساء لا حول لهنّ ولا قوّة. الحمد لله الذين منحنا العقل لنتقصّى به أسباب الظواهر، وأمدّنا كبشر بما هو ممكن من الحكمة لنستطيع التمييز في أيّامنا بين اللبوس الدينيّ والإيمان الأصيل، بين الكبت حين يهذي والعلم حين يفحص، بين استخدام الدين للتسلّط وبين استخدامه لخدمة الإنسان.
من ناحيتنا، نتمسّك بحرّية الإنسان التي شاء الله - بحسب المسيحيّة - أن يخلقها ويحترم حتّى رفضها له. إنّ فرقة ميّاس بقدرات الراقصات والمصمّمين، حملت إلينا جمالات في لوحات ساحرة مستوحاة من آلاف السنين من الرهبة والتلمّس لسرّ الخلق والحياة، وأفرحت معظمنا بذلك.