الإيمان السحريّ: مشروع الموت المتمثّل بالهجوم على العقل
مجلّة تيلوس العدد 2 تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٠
خريستو المرّ
عندما ظهرت مؤشّرات على تأثير فيروس كورونا على الاجتماع الكنسيّ للصلاة، وبخاصّة إقامة سرّ الشكر، الفريد لكونه يُتَوَّج بتناول جسد المسيح ودمه ويجعل من الجماعة كنيسة، كانت الكنائس أمام معضلتين تزيدان من خطر نقل الوباء: معضلة التواجد في مكان واحد، وفي بعض الحالات معضلة المناولة من ملعقة واحد.
اندرجت ردود الفعل الأكثر وضوحًا في أحد خطّين: الدعوة إلى التزام إرشادات الصحّة العامّة بشكل صارم، بما ينسجم مع هدف المحافظة على الحياة وحمايتها وتأقلم الكنيسة مع هذا الوضع عبر إجراء تغييرات في طريقة الصلاة وطريقة المناولة لتجنّب العدوى، حتّى ولو وصل الأمر إلى حدّ تعليق الصلوات الجماعيّة، ومنها سرّ الشكر. في المقابل، ظهرت أصوات عالية لكهنة وأساقفة تهاجم هذا الفريق، وتشكّك بإيمان الداعين إلى وضع حدّ للتجمّع للصلاة وتغيير طرق المناولة، وتدّعي أنّه من وجهة نظر لاهوتيّة لا يمكن للمناولة أن تنقل أيّ مرض، لأنّها جسد المسيح القائم من بين الأموات ودمه، وهي تشفي أمراض النفس والجسد (كما تقول جملة في الصلوات الطقسيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة مثلاً).
يحمل هذا الموقف الأخير مشكلتين: الأولى صحّة الموقف اللاهوتيّ الكامن في فكرة المناولة التي تشفي الجسد، والثانية حقّ الكنيسة بأن تحكم في أمر علميّ انطلاقًا من موقف لاهوتيّ.
من جهة الموقف اللاهوتيّ، يهدف سرّ الشكر – من منظور أرثوذكسيّ وكاثوليكي على الأقلّ – إلى اتّحاد المؤمنات والمؤمنين بالمسيح ليشكّلوا جسده السرّيّ، فيصيروا كنيسة. وليس الهدف منه أن يشفي الناس من الأمراض. هناك صلاة لشفاء المرضى في التقليد الكنسيّ الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ تتمثّل بسرّ مسحة الزيت. ومسحة الزيت لشفاء المرضى تقليد ضارب في القدم نجد أساسه في الإنجيل (يعقوب 5/14). إلّا أنَّ نتيجة هذه الصلاة ليست أوتوماتيكيّة. لا تدّعي أيّة كنيسة – ولا يمكنها عمليًّا أن تدّعي – أنّ مسح المريض بالزيت المقدّس يشفي أوتوماتيكيًّا. والكتاب المقدّس يحمل أخبار بولس الذي تكلّم عن «شوكة في الجسد» ومرضى آخرين؛ فلو كانت مسحة الزيت المقدّس تشفي أوتوماتيكيًّا، لشفتهم. فضلًا عن ذلك، فإنّ الموقف المتشدّد الذي أخذه كهنة وأساقفة يستحقّ التساؤل والتفنيد والانتقاد الجادّ؛ فممّا لا شكّ فيه أنّ من دعوا الناس إلى المخاطرة بحياتهم من أجل المناولة لا يعتقدون جدّيًّا بأنّ المناولة تشفي أوتوماتيكيًّا، وإلاّ لما ذهبوا إلى طبيب، ولا اتّبعوا نظامًا غذائيًّا له علاقة بوضع صحّيّ ولا تناولوا أدويةً لأمراض مختلفة (الضغط، القلب، السكّريّ...).
أمّا بالنسبة إلى حقّ الكنيسة بأن تحكم في أمر علميّ انطلاقًا من موقف لاهوتيّ، فلقد رأينا من جديد بعض رجال الدين المسيحيّين في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا يقعون في فخّ حسم موضوع علميّ انطلاقًا من اعتقاد إيمانيّ. وسمعنا بعضهم يردّد، مثلاً، الموقف الذي يرى أنّ المناولة لربّما لا تشفي أوتوماتيكيًّا، ولكنّها حتمًا لا تنقل الأمراض لأنّها جسد المسيح ودمه بالفعل وليست مجرّد تمثيل مسرحيّ لأحداثٍ تاريخيّة. لكنّ هذا الموقف هو تجاوز لميدان الإيمان. فالسؤال عمّا إذا كانت المناولة تنقل أو لا تنقل الجراثيم هو سؤال علميّ وليس سؤالاً إيمانيًّا. وبالتالي، فالعلوم الطبّيّة والبيولوجيّة وحدها هي التي يمكنها أن تجيب عنه بأدواتها هي. وكما أنّ لا كلمة للعلوم المذكورة تقولها حول ما إذا كان الخبز والخمر هما حقيقةً جسد المسيح ودمه أم لا، لأنّ سؤالاً كهذا يدخل ضمن نطاق الإيمان وليس ميدان تلك العلوم، كذلك فإنّه ليس للمؤمنات والمؤمنين والرهبان والراهبات واللاهوتيّين والكهنة والمطارنة والبطاركة والباباوات والقسس والرعاة كلمة يقولونها في موضوع نقل العدوى بواسطة المناولة. ما عليهم إلاّ القبول بحُكم العلوم المختصّة في هذا الميدان، والذي هو ميدانها وحدها.
يبدو أنّ آثار لغطٍ قديمٍ في العلاقة بين العلوم والإيمان ما تزال متوارثةً رغم تقدّم الفكر البشريّ، علمًا بأنَّ هذا اللغط يبدو غائبًا عن فكر الكنيسة الأولى. فالقدّيس لوقا كان طبيبًا، ولا نجد أثرًا لصراع بين كونه طبيبًا وبين الإيمان بيسوع المسيح وممارسة سرّ الشكر ومسحة الزيت. إنّ جذور هذا اللغط تضرب في مكان آخر. فمنذ القدم كانت مهمّة ساحر القبيلة أن يكون جسرًا بين حاجات الناس وبين الألوهة، فيسعى بممارسته لطقوس محدّدة من استدراج الألوهة كي تحقّق إرادة الناس ورغباتهم. ما الخلط المذكور إلّا تعبير عن وضعيّة بشر قاصرين عن فهم الواقع وعن السعي إلى تغييره، بشر لم يكن لديهم سوى السحر طريقة للسيطرة على اعتباط الطبيعة وسدّ حاجات الناس. وإن كانت هذه الرؤية مبرّرةً لأناس يحيون في فجر البشريّة، فهي لم تعد مبرّرةً ولا تُحتمل في أيّامنا هذه، لأنّها تضرب عرض الحائط كلّ مكتسبات الفكر التي وصلت إليها البشريّة عبر الجهد والدموع. بالإضافة إلى ذلك، وعلى المستوى الروحيّ، فإنّ هذا الخلط يجعل من الألوهة لا شخصيّة، ووسيلةً لتحقيق الرغبات الإنسانيّة، أي إنّها تنفي عن الحياة الإيمانيّة العلاقة الشخصيّة بالله، وبذلك تحمل في طيّاتها خطورة ترك الألوهة والاستغناء عنها إن تمكّن البشر من الوصول إلى سدّ الحاجات تلك بواسطة وسائط أخرى، كالعلوم أو الفنون. فما الحاجة إلى ألوهة تشفي إن كان العلم يشفي؟ وأيُ إلهٍ هذا الذي لا يحيا إلّا من عجز الإنسان عن الفهم والفِعل؟
أمّا من ناحية وجوديّة، فإنّ استخدام الطقوس وسيلةً لاستدراج الألوهة بغية تنفيذ جدول أعمال ما هو محاولة سحريّة للاستيلاء على الألوهة. هو محاولة قلب لمسار العلاقة البشريّة بالله، بحيث تنصاع الألوهة لمشيئة الإنسان عوضًا من أن يستشفّ الإنسان ما يقوله الله له في عصره وحياته ليسير في هدى الروح الإلهيّ. الذهن السحريّ، من هذا المنظور، هو محاولة إنسانيّة للاستيلاء على الألوهة وتلبُّسها من دون الله. ومن هنا، فإنّ التشديد على ضرورة المناولة رغم فيروس كورونا، واعتبار ذلك دليلاً على «قوّة الإيمان»، يحمل في باطنه فخّ خطيئةٍ مبينة – عدا الخطأ اللاهوتيّ الذي بيّناه في ما سبق – تشوّه علاقة الإنسان بالله وتتدهور بها إلى مستوى علاقة لا شخصيّة يسدّ بها الإنسان عجزه المعرفيّ.
هذا الذهن السحريّ في التعامل مع الله والأسرار الكنسيّة هو الوباء الذي بدا لنا مترافقًا مع أزمة وباء كورونا. إنّ الرغبة القديمة في التواصل مع سلطة إلهيّة مطلقة وتجييرها لمصلحة رغبات الإنسان وهواجسه ما تزال معشّشةً داخل الكنيسة. وقد وقع الموقف الإيمانيّ لدى كُثُر من المسؤولين في فخّ الذهن السحريّ المذكور. في مواجهة هذا الذهن السحريّ، جاءت من العالم الغربيّ مقاربات عقلانيّة منيرة ملتزمة بفحوى التقليد. ففي بريطانيا وفنلندا نجد مَثَلين لتلك المقاربات الحيّة. ففي لندن، حيث تقيم رعيّة من المعمّرين، سمحت الكنيسة الأرثوذكسيّة لكاهن الرعيّة، المعمّر هو الآخر، بأن يوزّع الخبز والخمر المقدّسين على أعضاء الرعية الذين يقومون بتغميس الخبز بالخمر ليتناولوا إفراديًّا ساعة المناولة، معتمدين في مقاربتهم على مقاربات مماثلة في التاريخ الكنسيّ. أمّا في فنلندا، ففي بداية أزمة وباء كورونا قرّرت الكنيسة الأرثوذكسيّة استخدام ملعقة خشبيّة في المناولة، بحيث يتناول كلّ فرد من ملعقة واحدة تُتلَف لاحقًا بالنار. وبالطبع التزمت الكنائس بعدها بتوجّهات الإدارة الصحّيّة العامّة في البلاد.
لكن يبدو لنا أنّ القضيّة الأساسيّة خلف كلّ هذا اللغط هي في موقع العقل في التربية الكنسيّة (إن كان هناك شيء اسمه تربية كنسيّة في بعض الأمكنة). هناك خطاب متصاعد ضدّ العقل نلاحظه في الكنائس الأرثوذكسيّة في منطقتنا وفي شرق أوروبا؛ موقف يتمثّل بالهجوم على العقل والتشكيك فيه بشكل دوريّ ووصفه بأنّه يحمل الإنسان على الكبرياء، ثمّ يؤكّد بأنّ الشفاء من كبرياء العقل يكمن في التواضع، ثمّ يقرّر بأنّ الطاعة هي الحلّ لمشكلة كبرياء العقل لأنّها مفتاح التواضع. وحين يتساءل المرء: الطاعة لمن؟ يأتيه الجواب: الطاعة للأب الروحيّ (أو للرئاسات الكنسيّة كالكاهن والأسقف والبطريرك). إنّ هذا الخطاب يفسّر الطاعة على أنّها خضوع مطلق للآباء الروحيّين (أو للرئاسات) الذين يُنصَح كلّ مسيحيّة ومسيحيّ باتّخاذ أحدهم مرشدًا شخصيًّا في الحياة الكنسيّة.
ينسى المؤيّدون لهذا الموقف في خطابهم «البطريركيّ» الجامد هذا أنّ الإنسان كلّ واحدً، وأنّ يسوع افتدى الإنسان كلّه، أي إنّه افتدى العقل أيضًا. إنّ إدانة أبوليناريوس (القرن الميلاديّ الرابع)، الذي قال بأنّ الكلمة الإله حلّ في جسدٍ أرضيّ لا يمتلك عقلاً، تعني أنّ الكنيسة حسمت أمرها بأنّ العقل أيضًا قد افتداه يسوع. ليس هناك شيء في بنية الإنسان يستثنيه الخلاص. فكما أنّ الكبرياء يمكن أن يُضِلّ التفكير، كذلك يمكن للتواضع أن يضلّ إذا بقي شكليًّا ولم يبلغ القلب، فيصبح ادّعاء التواضع وسيلةً لتأكيد فوقيّ للذات، وسيلة كبرياء. والكبرياء يمكنه أن يضلّ كلّ خبرة إنسانيّة.
يضاف إلى ذلك أنّ كلّ تهجّم على العقل والتفكير يبقينا في إطار اجتهادات العقل في ذاته ولا يحرّرنا منها. ففعل التهجّم نفسه يلجأ إلى حجج هي بطبيعتها وليدة المنطق، أي إنّها وليدة العقل. إنّ كلّ كلمة نقولها وكلّ تواصل نقوم به يتوسّل العقل. شئنا أم أبينا، نحن مخلوقات عاقلة. هذا معطى بديهيّ يتناساه المتهجّمون على العقل. ينسى مهاجمو العقل أنّ الإنسان على «صورة الله»، وصورة الله هذه فسّرها بعض آباء الكنيسة (وهم من مفكّري عصورهم) على أنّها تتضمّن العقل، أي القدرة على التفكّر والتمييز. كما إنّهم ينسون أنّ دستور الإيمان، الذي يتلونه في كلّ قدّاس، هو نتاج عمل فكريّ لاهوتيّ كبير عبّ من الفلسفة ومن الإيمان، ولم يكن لمن أنتجه أن يفعل ذلك من دون العقل. لم يرفض آباء الكنيسة الأولى العقل ولم ينبذوا التفكير، بل تعلّموا على الفلسفة اليونانيّة وغرفوا منها، واستخدموا عباراتها بعد أن عمّدوها وأعطوها معاني متوافقةً مع الإيمان، من دون أن يخافوا من استعمال تعابير لا نعثر عليها في الانجيل. إنّ عبارة «المساوي للآب في الجوهر»، مثلاً، غير موجودة في الإنجيل، بل في الفلسفة اليونانيّة، ولم تتوانَ المجامع المسكونيّة عن استخدامها كأوّل مدماك في دستور الإيمان، لأنّها وجدت بالعقل المؤمن أنّها أفضل ما يمكنه أن ينقل المعنى الإيمانيّ للكنيسة. ينسى مهاجمو العقل والمشكّكون فيه أنّه ما من معهد لاهوت في العالم ممكنٌ له الوجود والاستمرار اليوم من دون اللجوء إلى العقل وتوسّله.
لا ريب أنّ الذين يحاولون التشكيك في العقل يختبرون يوميًّا أنّه ما من حياة بشريّة ممكنة من دون العقل، ويتّضح لنا عندها مقصد مشروعهم، غير الواعي على الأرجح. فبتشكيك الناس بعقولهم وأفكارهم يفخّخ أصحاب هذا الخطّ قدرة الناس على الاستقلال والثقة بالذات. ومن ثمّ، يرسمون للآخرين طريقًا واحدًا للخلاص هو سبيل «الطاعة العمياء والكلّيّة»، وذلك بعد أن تُصوَّر الأخيرة على أنّها تعني الخضوع المطلق لإرادة إنسان آخر (يكون في العادة راهبًا أو مطرانًا أو بطريركًا). هذا هو المشروع البديل عن المشروع الكنسيّ المتوازن القائل بأنّ فداء يسوع يشمل العقل، وأنّ العقل ذاته معمّد بالروح القدس، وأنّ كلّ إنسان هو إنسان حرّ مسؤول عن حرّيّته في الجماعة البشريّة والكنسيّة. المشروع البديل المضمر في الهجوم على العقل هو مشروع تحويل الناس إلى أتباع صُمّ العقل وبُكمِهِ، يتّبعون أوامرَ ونواهي إنسان آخر يصوّر لهم (بالممارسة وليس بالقول) أنّه هو، وليس يسوع المسيح، طريقُ الخلاص.
خطر الفكر الذي وصفناه في هذه المقالة هو أنّه، في نهاية المطاف، يهدّد حياة الإنسان على صعيدين: أوّلًا حياة الإنسان الجسديّة كما في حالة فيروس كورونا، وثانيًا حياة الإنسان الروحيّة، وذلك بسبب ارتباط التشكيك في العقل بالتبعيّة لإنسان آخر، وتغريب المرء عن نفسه وتحويله إلى أداة، في حلقة جحيميّة مغلقة من التسلّط والخضوع.
الهجوم على العقل مشروع موت، يقابله مشروع حياة متمثّلٍ بالتوازن الإيمانيّ الذي يرى الإنسان كلًّا واحدًا فداه يسوع، ويراه شخصًا يسعى إلى أن يكون نفسه المتأصّلة في علاقات المحبّة مع الآخرين ومع الله، الآخر المطلق.
عندما ظهرت مؤشّرات على تأثير فيروس كورونا على الاجتماع الكنسيّ للصلاة، وبخاصّة إقامة سرّ الشكر، الفريد لكونه يُتَوَّج بتناول جسد المسيح ودمه ويجعل من الجماعة كنيسة، كانت الكنائس أمام معضلتين تزيدان من خطر نقل الوباء: معضلة التواجد في مكان واحد، وفي بعض الحالات معضلة المناولة من ملعقة واحد.
اندرجت ردود الفعل الأكثر وضوحًا في أحد خطّين: الدعوة إلى التزام إرشادات الصحّة العامّة بشكل صارم، بما ينسجم مع هدف المحافظة على الحياة وحمايتها وتأقلم الكنيسة مع هذا الوضع عبر إجراء تغييرات في طريقة الصلاة وطريقة المناولة لتجنّب العدوى، حتّى ولو وصل الأمر إلى حدّ تعليق الصلوات الجماعيّة، ومنها سرّ الشكر. في المقابل، ظهرت أصوات عالية لكهنة وأساقفة تهاجم هذا الفريق، وتشكّك بإيمان الداعين إلى وضع حدّ للتجمّع للصلاة وتغيير طرق المناولة، وتدّعي أنّه من وجهة نظر لاهوتيّة لا يمكن للمناولة أن تنقل أيّ مرض، لأنّها جسد المسيح القائم من بين الأموات ودمه، وهي تشفي أمراض النفس والجسد (كما تقول جملة في الصلوات الطقسيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة مثلاً).
يحمل هذا الموقف الأخير مشكلتين: الأولى صحّة الموقف اللاهوتيّ الكامن في فكرة المناولة التي تشفي الجسد، والثانية حقّ الكنيسة بأن تحكم في أمر علميّ انطلاقًا من موقف لاهوتيّ.
من جهة الموقف اللاهوتيّ، يهدف سرّ الشكر – من منظور أرثوذكسيّ وكاثوليكي على الأقلّ – إلى اتّحاد المؤمنات والمؤمنين بالمسيح ليشكّلوا جسده السرّيّ، فيصيروا كنيسة. وليس الهدف منه أن يشفي الناس من الأمراض. هناك صلاة لشفاء المرضى في التقليد الكنسيّ الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ تتمثّل بسرّ مسحة الزيت. ومسحة الزيت لشفاء المرضى تقليد ضارب في القدم نجد أساسه في الإنجيل (يعقوب 5/14). إلّا أنَّ نتيجة هذه الصلاة ليست أوتوماتيكيّة. لا تدّعي أيّة كنيسة – ولا يمكنها عمليًّا أن تدّعي – أنّ مسح المريض بالزيت المقدّس يشفي أوتوماتيكيًّا. والكتاب المقدّس يحمل أخبار بولس الذي تكلّم عن «شوكة في الجسد» ومرضى آخرين؛ فلو كانت مسحة الزيت المقدّس تشفي أوتوماتيكيًّا، لشفتهم. فضلًا عن ذلك، فإنّ الموقف المتشدّد الذي أخذه كهنة وأساقفة يستحقّ التساؤل والتفنيد والانتقاد الجادّ؛ فممّا لا شكّ فيه أنّ من دعوا الناس إلى المخاطرة بحياتهم من أجل المناولة لا يعتقدون جدّيًّا بأنّ المناولة تشفي أوتوماتيكيًّا، وإلاّ لما ذهبوا إلى طبيب، ولا اتّبعوا نظامًا غذائيًّا له علاقة بوضع صحّيّ ولا تناولوا أدويةً لأمراض مختلفة (الضغط، القلب، السكّريّ...).
أمّا بالنسبة إلى حقّ الكنيسة بأن تحكم في أمر علميّ انطلاقًا من موقف لاهوتيّ، فلقد رأينا من جديد بعض رجال الدين المسيحيّين في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا يقعون في فخّ حسم موضوع علميّ انطلاقًا من اعتقاد إيمانيّ. وسمعنا بعضهم يردّد، مثلاً، الموقف الذي يرى أنّ المناولة لربّما لا تشفي أوتوماتيكيًّا، ولكنّها حتمًا لا تنقل الأمراض لأنّها جسد المسيح ودمه بالفعل وليست مجرّد تمثيل مسرحيّ لأحداثٍ تاريخيّة. لكنّ هذا الموقف هو تجاوز لميدان الإيمان. فالسؤال عمّا إذا كانت المناولة تنقل أو لا تنقل الجراثيم هو سؤال علميّ وليس سؤالاً إيمانيًّا. وبالتالي، فالعلوم الطبّيّة والبيولوجيّة وحدها هي التي يمكنها أن تجيب عنه بأدواتها هي. وكما أنّ لا كلمة للعلوم المذكورة تقولها حول ما إذا كان الخبز والخمر هما حقيقةً جسد المسيح ودمه أم لا، لأنّ سؤالاً كهذا يدخل ضمن نطاق الإيمان وليس ميدان تلك العلوم، كذلك فإنّه ليس للمؤمنات والمؤمنين والرهبان والراهبات واللاهوتيّين والكهنة والمطارنة والبطاركة والباباوات والقسس والرعاة كلمة يقولونها في موضوع نقل العدوى بواسطة المناولة. ما عليهم إلاّ القبول بحُكم العلوم المختصّة في هذا الميدان، والذي هو ميدانها وحدها.
يبدو أنّ آثار لغطٍ قديمٍ في العلاقة بين العلوم والإيمان ما تزال متوارثةً رغم تقدّم الفكر البشريّ، علمًا بأنَّ هذا اللغط يبدو غائبًا عن فكر الكنيسة الأولى. فالقدّيس لوقا كان طبيبًا، ولا نجد أثرًا لصراع بين كونه طبيبًا وبين الإيمان بيسوع المسيح وممارسة سرّ الشكر ومسحة الزيت. إنّ جذور هذا اللغط تضرب في مكان آخر. فمنذ القدم كانت مهمّة ساحر القبيلة أن يكون جسرًا بين حاجات الناس وبين الألوهة، فيسعى بممارسته لطقوس محدّدة من استدراج الألوهة كي تحقّق إرادة الناس ورغباتهم. ما الخلط المذكور إلّا تعبير عن وضعيّة بشر قاصرين عن فهم الواقع وعن السعي إلى تغييره، بشر لم يكن لديهم سوى السحر طريقة للسيطرة على اعتباط الطبيعة وسدّ حاجات الناس. وإن كانت هذه الرؤية مبرّرةً لأناس يحيون في فجر البشريّة، فهي لم تعد مبرّرةً ولا تُحتمل في أيّامنا هذه، لأنّها تضرب عرض الحائط كلّ مكتسبات الفكر التي وصلت إليها البشريّة عبر الجهد والدموع. بالإضافة إلى ذلك، وعلى المستوى الروحيّ، فإنّ هذا الخلط يجعل من الألوهة لا شخصيّة، ووسيلةً لتحقيق الرغبات الإنسانيّة، أي إنّها تنفي عن الحياة الإيمانيّة العلاقة الشخصيّة بالله، وبذلك تحمل في طيّاتها خطورة ترك الألوهة والاستغناء عنها إن تمكّن البشر من الوصول إلى سدّ الحاجات تلك بواسطة وسائط أخرى، كالعلوم أو الفنون. فما الحاجة إلى ألوهة تشفي إن كان العلم يشفي؟ وأيُ إلهٍ هذا الذي لا يحيا إلّا من عجز الإنسان عن الفهم والفِعل؟
أمّا من ناحية وجوديّة، فإنّ استخدام الطقوس وسيلةً لاستدراج الألوهة بغية تنفيذ جدول أعمال ما هو محاولة سحريّة للاستيلاء على الألوهة. هو محاولة قلب لمسار العلاقة البشريّة بالله، بحيث تنصاع الألوهة لمشيئة الإنسان عوضًا من أن يستشفّ الإنسان ما يقوله الله له في عصره وحياته ليسير في هدى الروح الإلهيّ. الذهن السحريّ، من هذا المنظور، هو محاولة إنسانيّة للاستيلاء على الألوهة وتلبُّسها من دون الله. ومن هنا، فإنّ التشديد على ضرورة المناولة رغم فيروس كورونا، واعتبار ذلك دليلاً على «قوّة الإيمان»، يحمل في باطنه فخّ خطيئةٍ مبينة – عدا الخطأ اللاهوتيّ الذي بيّناه في ما سبق – تشوّه علاقة الإنسان بالله وتتدهور بها إلى مستوى علاقة لا شخصيّة يسدّ بها الإنسان عجزه المعرفيّ.
هذا الذهن السحريّ في التعامل مع الله والأسرار الكنسيّة هو الوباء الذي بدا لنا مترافقًا مع أزمة وباء كورونا. إنّ الرغبة القديمة في التواصل مع سلطة إلهيّة مطلقة وتجييرها لمصلحة رغبات الإنسان وهواجسه ما تزال معشّشةً داخل الكنيسة. وقد وقع الموقف الإيمانيّ لدى كُثُر من المسؤولين في فخّ الذهن السحريّ المذكور. في مواجهة هذا الذهن السحريّ، جاءت من العالم الغربيّ مقاربات عقلانيّة منيرة ملتزمة بفحوى التقليد. ففي بريطانيا وفنلندا نجد مَثَلين لتلك المقاربات الحيّة. ففي لندن، حيث تقيم رعيّة من المعمّرين، سمحت الكنيسة الأرثوذكسيّة لكاهن الرعيّة، المعمّر هو الآخر، بأن يوزّع الخبز والخمر المقدّسين على أعضاء الرعية الذين يقومون بتغميس الخبز بالخمر ليتناولوا إفراديًّا ساعة المناولة، معتمدين في مقاربتهم على مقاربات مماثلة في التاريخ الكنسيّ. أمّا في فنلندا، ففي بداية أزمة وباء كورونا قرّرت الكنيسة الأرثوذكسيّة استخدام ملعقة خشبيّة في المناولة، بحيث يتناول كلّ فرد من ملعقة واحدة تُتلَف لاحقًا بالنار. وبالطبع التزمت الكنائس بعدها بتوجّهات الإدارة الصحّيّة العامّة في البلاد.
لكن يبدو لنا أنّ القضيّة الأساسيّة خلف كلّ هذا اللغط هي في موقع العقل في التربية الكنسيّة (إن كان هناك شيء اسمه تربية كنسيّة في بعض الأمكنة). هناك خطاب متصاعد ضدّ العقل نلاحظه في الكنائس الأرثوذكسيّة في منطقتنا وفي شرق أوروبا؛ موقف يتمثّل بالهجوم على العقل والتشكيك فيه بشكل دوريّ ووصفه بأنّه يحمل الإنسان على الكبرياء، ثمّ يؤكّد بأنّ الشفاء من كبرياء العقل يكمن في التواضع، ثمّ يقرّر بأنّ الطاعة هي الحلّ لمشكلة كبرياء العقل لأنّها مفتاح التواضع. وحين يتساءل المرء: الطاعة لمن؟ يأتيه الجواب: الطاعة للأب الروحيّ (أو للرئاسات الكنسيّة كالكاهن والأسقف والبطريرك). إنّ هذا الخطاب يفسّر الطاعة على أنّها خضوع مطلق للآباء الروحيّين (أو للرئاسات) الذين يُنصَح كلّ مسيحيّة ومسيحيّ باتّخاذ أحدهم مرشدًا شخصيًّا في الحياة الكنسيّة.
ينسى المؤيّدون لهذا الموقف في خطابهم «البطريركيّ» الجامد هذا أنّ الإنسان كلّ واحدً، وأنّ يسوع افتدى الإنسان كلّه، أي إنّه افتدى العقل أيضًا. إنّ إدانة أبوليناريوس (القرن الميلاديّ الرابع)، الذي قال بأنّ الكلمة الإله حلّ في جسدٍ أرضيّ لا يمتلك عقلاً، تعني أنّ الكنيسة حسمت أمرها بأنّ العقل أيضًا قد افتداه يسوع. ليس هناك شيء في بنية الإنسان يستثنيه الخلاص. فكما أنّ الكبرياء يمكن أن يُضِلّ التفكير، كذلك يمكن للتواضع أن يضلّ إذا بقي شكليًّا ولم يبلغ القلب، فيصبح ادّعاء التواضع وسيلةً لتأكيد فوقيّ للذات، وسيلة كبرياء. والكبرياء يمكنه أن يضلّ كلّ خبرة إنسانيّة.
يضاف إلى ذلك أنّ كلّ تهجّم على العقل والتفكير يبقينا في إطار اجتهادات العقل في ذاته ولا يحرّرنا منها. ففعل التهجّم نفسه يلجأ إلى حجج هي بطبيعتها وليدة المنطق، أي إنّها وليدة العقل. إنّ كلّ كلمة نقولها وكلّ تواصل نقوم به يتوسّل العقل. شئنا أم أبينا، نحن مخلوقات عاقلة. هذا معطى بديهيّ يتناساه المتهجّمون على العقل. ينسى مهاجمو العقل أنّ الإنسان على «صورة الله»، وصورة الله هذه فسّرها بعض آباء الكنيسة (وهم من مفكّري عصورهم) على أنّها تتضمّن العقل، أي القدرة على التفكّر والتمييز. كما إنّهم ينسون أنّ دستور الإيمان، الذي يتلونه في كلّ قدّاس، هو نتاج عمل فكريّ لاهوتيّ كبير عبّ من الفلسفة ومن الإيمان، ولم يكن لمن أنتجه أن يفعل ذلك من دون العقل. لم يرفض آباء الكنيسة الأولى العقل ولم ينبذوا التفكير، بل تعلّموا على الفلسفة اليونانيّة وغرفوا منها، واستخدموا عباراتها بعد أن عمّدوها وأعطوها معاني متوافقةً مع الإيمان، من دون أن يخافوا من استعمال تعابير لا نعثر عليها في الانجيل. إنّ عبارة «المساوي للآب في الجوهر»، مثلاً، غير موجودة في الإنجيل، بل في الفلسفة اليونانيّة، ولم تتوانَ المجامع المسكونيّة عن استخدامها كأوّل مدماك في دستور الإيمان، لأنّها وجدت بالعقل المؤمن أنّها أفضل ما يمكنه أن ينقل المعنى الإيمانيّ للكنيسة. ينسى مهاجمو العقل والمشكّكون فيه أنّه ما من معهد لاهوت في العالم ممكنٌ له الوجود والاستمرار اليوم من دون اللجوء إلى العقل وتوسّله.
لا ريب أنّ الذين يحاولون التشكيك في العقل يختبرون يوميًّا أنّه ما من حياة بشريّة ممكنة من دون العقل، ويتّضح لنا عندها مقصد مشروعهم، غير الواعي على الأرجح. فبتشكيك الناس بعقولهم وأفكارهم يفخّخ أصحاب هذا الخطّ قدرة الناس على الاستقلال والثقة بالذات. ومن ثمّ، يرسمون للآخرين طريقًا واحدًا للخلاص هو سبيل «الطاعة العمياء والكلّيّة»، وذلك بعد أن تُصوَّر الأخيرة على أنّها تعني الخضوع المطلق لإرادة إنسان آخر (يكون في العادة راهبًا أو مطرانًا أو بطريركًا). هذا هو المشروع البديل عن المشروع الكنسيّ المتوازن القائل بأنّ فداء يسوع يشمل العقل، وأنّ العقل ذاته معمّد بالروح القدس، وأنّ كلّ إنسان هو إنسان حرّ مسؤول عن حرّيّته في الجماعة البشريّة والكنسيّة. المشروع البديل المضمر في الهجوم على العقل هو مشروع تحويل الناس إلى أتباع صُمّ العقل وبُكمِهِ، يتّبعون أوامرَ ونواهي إنسان آخر يصوّر لهم (بالممارسة وليس بالقول) أنّه هو، وليس يسوع المسيح، طريقُ الخلاص.
خطر الفكر الذي وصفناه في هذه المقالة هو أنّه، في نهاية المطاف، يهدّد حياة الإنسان على صعيدين: أوّلًا حياة الإنسان الجسديّة كما في حالة فيروس كورونا، وثانيًا حياة الإنسان الروحيّة، وذلك بسبب ارتباط التشكيك في العقل بالتبعيّة لإنسان آخر، وتغريب المرء عن نفسه وتحويله إلى أداة، في حلقة جحيميّة مغلقة من التسلّط والخضوع.
الهجوم على العقل مشروع موت، يقابله مشروع حياة متمثّلٍ بالتوازن الإيمانيّ الذي يرى الإنسان كلًّا واحدًا فداه يسوع، ويراه شخصًا يسعى إلى أن يكون نفسه المتأصّلة في علاقات المحبّة مع الآخرين ومع الله، الآخر المطلق.