المقالة الأصليّة
في البدء كانت الحرّية
الثلاثاء ٣٠ تمّوز ٢٠١٩
في البدء كانت الحرّية
الثلاثاء ٣٠ تمّوز ٢٠١٩
أحيانا كثيرة يبدو المسيح غريبا عن كنيسته. مرارا وتكرارا يطلب من يعلنون بفخر أنّهم أتباعه (ومنهم كهنة ومطارنة) أنّهم غاضبون من محتوى ثقافيّ لأنّه يمسّ بـ"مشاعرهم الدينيّة" أو غير "أخلاقيّ" برأيهم، ويتداعون إلى مواجهة الفاعلين ويطلبون "تدخّل الدولة" لمنع حدث ثقافي أو آخر: فيلم "تنّورة ماكسي"، دعاية "الطرقات الزفت"... هذه المرّة بدت عدّة دعوات واضحة إلى ممارسة العنف بحقّ "المذنبين" المفترضين من فرقة موسيقيّة. لا قانون ولا قضاء ضروريّ بالنسبة لهؤلاء، فالموضوع "خطير" وهم يريدون أن يدافعوا عن... الله! وهنا كلّ المفارقة؛ كأنّ الله يلزمه جماعات تعمل بالعنف للدفاع عنه، والمفارقة الكبرى أنّهم يفعلون ذلك باسم يسوع، يسوع الذي "قصبة مرضوضةً لم يكسرـ وفتيلا مدحّنا لم يطفئ"، يسوع الذي رفض أن يدافع بطرس عنه بالسيف: "أردد سيفك إلى غمده" قال له تلك في الليلة على جبل الزيتون، حيث أسلمه يهوذا إلى الكارهين، الغاضبين هم أيضًا لمسّ يسوع بمشاعرهم الدينيّة.
المفارقة الأخرى أنّ الانتماء إلى يسوع بات أكثر فأكثر سطحيّة، أكثر فأكثر طائفيّةً، أكثر فأكثر بُعدا عن الإيمان؛ بات يسوع بالنسبة لهؤلاء صنمًا (طوطمًا) يمثّل القبيلة الدينيّة ونرجسيّة الأنا الجماعيّة، صنمًا ترفعه القبيلة لمواجهة القبائل الأخرى في الحروب على المصالح؛ وبات يسوع للمتنفّذين من سياسيّين ورجال دين وسيلة شدّ عصبيّة القبيلة حولهم، وكلّ متنفّذ يتنكّر بقناع "الحامي" و"الملك" الذي به يُحمى الله، ومن أجله تحيا القبيلة وتتحرّك وتوجد. بالفعل، الطائفيّة تفسد الإيمان، حوّلت يسوع وسيلةَ عبوديّة بينما هو "الطريق والحقّ والحياة" الذي "به نحيا ونحرّك ونوجد" من أجل أنفسنا وبعضنا البعض لا من أجله هو. سطت الطائفيّة على يسوع وحوّلته إلى وسيلةً لتعطيلِ العقلانيّة والانحدارِ إلى الغوغاء، وسيلة لتعطيل صورة الله في الإنسان!
يسوع هو يسوع المصلوب، وليس الصالب. لكنّ هذا بات غائبًا عند تلك الجماعات. الحماس دون عقل ليس فضيلة إنّه كارثة كبرى، رذيلة تولّد الرذائل. يسوع المسيح مدّ يديه على الصليب وقَبِلَ أن يقتله الناس الذين رفضوه. ومن هو يسوع؟ هو إنسان وهو أيضًا كلمة الله الخالق، الذي خلق العالم كلّه ومعه هؤلاء الناس الذين صلبوه. هذا أمر ثوريّ، زلزال للفكر البشريّ. هذا الإله المتأنّس فضّل أن يُقتَل على أن يَقْتُل، فضّل أن يُعَلّقَ على خشبة من أن يجرح قاتليه بسيف، اختار أن تخترقه مساميرهم على أن يجبرهم على احترامه. لم يقع يسوع الإنسان في خطيئة الحقد والتدمير، ولا في خطيئة قسر حرّية الناس.
هل ضاع المسيحيّون عن مسيحهم، وعن أجمل ما في تاريخ كنيستهم؟ أَذَنْبُهُم أم ذنب رجال الدين الذين اختفت عنهم روح القيادة والمسؤوليّة أو هم اختفوا عنها، فإذا بهم ينجرّون إلى أسوأ ما في مَن تَسَمّوا على اسم يسوع؟ ألا يتحدّث التراث في صفائه لغةَ الحرّية؟ بلى.
يخبرنا التراث الرهباني في قول مأثور بأنّ "الله قادر على كلّ شيء إلاّ على أن يجبر الإنسان أن يحبّه". إنّ الله بِفِعْلِ الخلقِ نفسِه "أخلى" ذاته ليكون الكون متمايزًا عنه، واحترم هذا التمايز. وماذا عن يسوع؟ يسوع هو الكلمة الذي "أخلى ذاته" من كلّية قدرته، وتجاوز تجاوزه نفسه، لكلّية محبّته، كي يصير إنسانا ليعانق الإنسان، وينزل إلى جحيمه، ويقيمه حرًّا إن أرادَ [الإنسان]. ولهذا يأتي عن لسان يسوع "ها أنا واقف على الباب أقرع إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل وأتعشّى معه، وهو معي". "إن فتح" أي بملئ حرّيته. يسوع لا يفرض نفسه، لا يدخل القلوب عنوة بل ينتظر حرّية الإنسان أن تتجاوب مع حرّيته ومحبّته.
منذ بدء الخليقة جعل الله نفسه بحاجة إلى الإنسان. منذ البدء الله مشرّدٌ خلف الإنسان، مشرّدٌ يفتّش عنه بعطش المُحِبّ إلى الحبيب. "عطش" الله يرشح من سؤاله لآدم "آدم، أين أنت؟". كان "آدم" (حرفيًّا "الأرض") مختبئا عن الله، ولا تزال الأرض مختبئة، ولا يزال المسيح مشرّدا فيها في كلّ مشرّد، لا يزال عَطِشًا يلاحق كلّ قلب ضائع. منذ ذاك العطش الذي في البدء، حتّى الإفصاح الكامل عن العطش على الصليب "أنا عطشان"، كان الله يلاحق الإنسان ويحاول أن يجذب قلبه وعقله، كان يعيش مع الإنسان إخلاءً إثر إخلاء، عَطَشًا إلى اللقاء إثر عطشٍ. وأخيرًا، "لقد تمّ"، على الصليب "تمّ" كلّ شيء، بلغ الله قاع الموت الإنسانيّ ليفجّره من الداخل؛ أخيرًا تمّ الإخلاءُ الكامل، وحقّقه المسيح بحرّيته الإنسانيّة في تمامها، أي برفض يسوع حتّى الرمق الأخير قهر حرّية إنسان آخر، بمحبّته الخالية من كلّ قهر. ولدته مريم بحرّيتها، "فضرب خيمته بيننا" بحرّيته؛ رفضه الناس بحرّيتهم، وبقي مُحِبًّا حرًّا حتّى ثمالة العطش في قاع الموت، فقام من الموت.
لم يوافق يسوع صالبيه ولا نفاقهم وخالفهم حتّى النهاية. لكن بقبوله عار الصليب (والصليب كان علامة عار اجتماعيّة) "أباد حكمة الحكماء وفهم الفهماء". لو يقبل المسيحيّون هُزء العالمَ بهم لشهدوا للحرّية والمحبّة كسيّدهم، لكانوا مُقنِعين "ولجذبوا إليه الكثيرين". لكنّ المُغالين يتكلّمون عن المحبّة كلامًا ويرفضون شهادتها؛ ينجذبون للعنف وللتهديد وللوعيد. يريدون كسر حرّية الآخرين لا الإقناع، ومن أجل المسيحيّة يريدون كسر الإنسان، فقد نسوا أنّ المسيحيّة جُعِلَت للإنسان لا الإنسانَ للمسيحيّة. وبالتهديد والإرهاب يريدون الدفاع عن سيّد المحبّة. هل من تناقض أبعد من هذا؟ ألم يفهم المدجّجون بـ"الغيرة" أنّ النبي إيليا أخطأ بغيرته وبممارسته القتل، وأنّه لم يجد الله لا في زلزلة ولا في نار بل في همس خفيف؟ لا تتحوّل القلوب إلاّ في الهمس الخفيف، والله عاشق القلوب لا قاهرها.
الله محبّة، والملكوت هو ملكوت محبّة، ولأنّه كذلك فهو ملكوت حرّية، ولا يدخل الملكوت إلاّ الأحرار. إنّ الإيمان المسيحي بالثالوث يعني أنّه في البدء كانت المحبّة، في البدء كانت الحرّية. التلميذات والتلاميذ الحقّ ليسوع يلاحقون السيّد، يتتبّعون خطواته، يستنطقون جمال الكون ليسمعوا ألحانه، يقلّبون صخور المصاعب ليجدوا فتات كلماته المنثورة حولهم، يسبحون العمر ليجدوا رسائل حبّه التي خبّأها لهم في زجاجات ضائعة، يعانقون كلّ جمال وحقّ. هؤلاء صدّقوه عندما قال "عرّفتهم اسمكَ وسأعرّفهم، ليكون فيهم الحبّ الذي أحببتني به" فصارت قلوبهم عطشى إلى نار حبّ ليست أقلّ من نار الحبّ الإلهيّ، وآمنوا بأنّ نصرَه على الصليب نهائيٌّ: "ثقوا: قد غلبت العالم"، وأنّ النصر الذي حقّقه على صليب الحرّية يعني أنّ الكلمة الأخيرة في الكون في اليوم الأخير هي للمسيح، لفيض الحياة، للحرّية؛ ففي البدء كما في المنتهى هي الحرّية. هؤلاء تركوا روح الربّ يرفّ فوق مياه قلوبهم ولألأة عيونهم ليكون مساءٌ ويكون صباحُ كونٍ جديد، وليدَ الحبّ والحرّية.
خريستو المرّ
المفارقة الأخرى أنّ الانتماء إلى يسوع بات أكثر فأكثر سطحيّة، أكثر فأكثر طائفيّةً، أكثر فأكثر بُعدا عن الإيمان؛ بات يسوع بالنسبة لهؤلاء صنمًا (طوطمًا) يمثّل القبيلة الدينيّة ونرجسيّة الأنا الجماعيّة، صنمًا ترفعه القبيلة لمواجهة القبائل الأخرى في الحروب على المصالح؛ وبات يسوع للمتنفّذين من سياسيّين ورجال دين وسيلة شدّ عصبيّة القبيلة حولهم، وكلّ متنفّذ يتنكّر بقناع "الحامي" و"الملك" الذي به يُحمى الله، ومن أجله تحيا القبيلة وتتحرّك وتوجد. بالفعل، الطائفيّة تفسد الإيمان، حوّلت يسوع وسيلةَ عبوديّة بينما هو "الطريق والحقّ والحياة" الذي "به نحيا ونحرّك ونوجد" من أجل أنفسنا وبعضنا البعض لا من أجله هو. سطت الطائفيّة على يسوع وحوّلته إلى وسيلةً لتعطيلِ العقلانيّة والانحدارِ إلى الغوغاء، وسيلة لتعطيل صورة الله في الإنسان!
يسوع هو يسوع المصلوب، وليس الصالب. لكنّ هذا بات غائبًا عند تلك الجماعات. الحماس دون عقل ليس فضيلة إنّه كارثة كبرى، رذيلة تولّد الرذائل. يسوع المسيح مدّ يديه على الصليب وقَبِلَ أن يقتله الناس الذين رفضوه. ومن هو يسوع؟ هو إنسان وهو أيضًا كلمة الله الخالق، الذي خلق العالم كلّه ومعه هؤلاء الناس الذين صلبوه. هذا أمر ثوريّ، زلزال للفكر البشريّ. هذا الإله المتأنّس فضّل أن يُقتَل على أن يَقْتُل، فضّل أن يُعَلّقَ على خشبة من أن يجرح قاتليه بسيف، اختار أن تخترقه مساميرهم على أن يجبرهم على احترامه. لم يقع يسوع الإنسان في خطيئة الحقد والتدمير، ولا في خطيئة قسر حرّية الناس.
هل ضاع المسيحيّون عن مسيحهم، وعن أجمل ما في تاريخ كنيستهم؟ أَذَنْبُهُم أم ذنب رجال الدين الذين اختفت عنهم روح القيادة والمسؤوليّة أو هم اختفوا عنها، فإذا بهم ينجرّون إلى أسوأ ما في مَن تَسَمّوا على اسم يسوع؟ ألا يتحدّث التراث في صفائه لغةَ الحرّية؟ بلى.
يخبرنا التراث الرهباني في قول مأثور بأنّ "الله قادر على كلّ شيء إلاّ على أن يجبر الإنسان أن يحبّه". إنّ الله بِفِعْلِ الخلقِ نفسِه "أخلى" ذاته ليكون الكون متمايزًا عنه، واحترم هذا التمايز. وماذا عن يسوع؟ يسوع هو الكلمة الذي "أخلى ذاته" من كلّية قدرته، وتجاوز تجاوزه نفسه، لكلّية محبّته، كي يصير إنسانا ليعانق الإنسان، وينزل إلى جحيمه، ويقيمه حرًّا إن أرادَ [الإنسان]. ولهذا يأتي عن لسان يسوع "ها أنا واقف على الباب أقرع إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل وأتعشّى معه، وهو معي". "إن فتح" أي بملئ حرّيته. يسوع لا يفرض نفسه، لا يدخل القلوب عنوة بل ينتظر حرّية الإنسان أن تتجاوب مع حرّيته ومحبّته.
منذ بدء الخليقة جعل الله نفسه بحاجة إلى الإنسان. منذ البدء الله مشرّدٌ خلف الإنسان، مشرّدٌ يفتّش عنه بعطش المُحِبّ إلى الحبيب. "عطش" الله يرشح من سؤاله لآدم "آدم، أين أنت؟". كان "آدم" (حرفيًّا "الأرض") مختبئا عن الله، ولا تزال الأرض مختبئة، ولا يزال المسيح مشرّدا فيها في كلّ مشرّد، لا يزال عَطِشًا يلاحق كلّ قلب ضائع. منذ ذاك العطش الذي في البدء، حتّى الإفصاح الكامل عن العطش على الصليب "أنا عطشان"، كان الله يلاحق الإنسان ويحاول أن يجذب قلبه وعقله، كان يعيش مع الإنسان إخلاءً إثر إخلاء، عَطَشًا إلى اللقاء إثر عطشٍ. وأخيرًا، "لقد تمّ"، على الصليب "تمّ" كلّ شيء، بلغ الله قاع الموت الإنسانيّ ليفجّره من الداخل؛ أخيرًا تمّ الإخلاءُ الكامل، وحقّقه المسيح بحرّيته الإنسانيّة في تمامها، أي برفض يسوع حتّى الرمق الأخير قهر حرّية إنسان آخر، بمحبّته الخالية من كلّ قهر. ولدته مريم بحرّيتها، "فضرب خيمته بيننا" بحرّيته؛ رفضه الناس بحرّيتهم، وبقي مُحِبًّا حرًّا حتّى ثمالة العطش في قاع الموت، فقام من الموت.
لم يوافق يسوع صالبيه ولا نفاقهم وخالفهم حتّى النهاية. لكن بقبوله عار الصليب (والصليب كان علامة عار اجتماعيّة) "أباد حكمة الحكماء وفهم الفهماء". لو يقبل المسيحيّون هُزء العالمَ بهم لشهدوا للحرّية والمحبّة كسيّدهم، لكانوا مُقنِعين "ولجذبوا إليه الكثيرين". لكنّ المُغالين يتكلّمون عن المحبّة كلامًا ويرفضون شهادتها؛ ينجذبون للعنف وللتهديد وللوعيد. يريدون كسر حرّية الآخرين لا الإقناع، ومن أجل المسيحيّة يريدون كسر الإنسان، فقد نسوا أنّ المسيحيّة جُعِلَت للإنسان لا الإنسانَ للمسيحيّة. وبالتهديد والإرهاب يريدون الدفاع عن سيّد المحبّة. هل من تناقض أبعد من هذا؟ ألم يفهم المدجّجون بـ"الغيرة" أنّ النبي إيليا أخطأ بغيرته وبممارسته القتل، وأنّه لم يجد الله لا في زلزلة ولا في نار بل في همس خفيف؟ لا تتحوّل القلوب إلاّ في الهمس الخفيف، والله عاشق القلوب لا قاهرها.
الله محبّة، والملكوت هو ملكوت محبّة، ولأنّه كذلك فهو ملكوت حرّية، ولا يدخل الملكوت إلاّ الأحرار. إنّ الإيمان المسيحي بالثالوث يعني أنّه في البدء كانت المحبّة، في البدء كانت الحرّية. التلميذات والتلاميذ الحقّ ليسوع يلاحقون السيّد، يتتبّعون خطواته، يستنطقون جمال الكون ليسمعوا ألحانه، يقلّبون صخور المصاعب ليجدوا فتات كلماته المنثورة حولهم، يسبحون العمر ليجدوا رسائل حبّه التي خبّأها لهم في زجاجات ضائعة، يعانقون كلّ جمال وحقّ. هؤلاء صدّقوه عندما قال "عرّفتهم اسمكَ وسأعرّفهم، ليكون فيهم الحبّ الذي أحببتني به" فصارت قلوبهم عطشى إلى نار حبّ ليست أقلّ من نار الحبّ الإلهيّ، وآمنوا بأنّ نصرَه على الصليب نهائيٌّ: "ثقوا: قد غلبت العالم"، وأنّ النصر الذي حقّقه على صليب الحرّية يعني أنّ الكلمة الأخيرة في الكون في اليوم الأخير هي للمسيح، لفيض الحياة، للحرّية؛ ففي البدء كما في المنتهى هي الحرّية. هؤلاء تركوا روح الربّ يرفّ فوق مياه قلوبهم ولألأة عيونهم ليكون مساءٌ ويكون صباحُ كونٍ جديد، وليدَ الحبّ والحرّية.
خريستو المرّ