خريستو المرّ
هذه المقالة هي بمثابة تأمّل يوضح معانٍ جديدة لأغنية للفنّانة فيروز كتبها ولحّنها الفنّان زياد الرحباني، وقد انقضّت عليّ هذه المعاني صبيحة يوم أحد بينما كنتُ أستمع إلى الأغنية وأنا عائد إلى منزلي بعد القدّاس الإلهيّ. إذ بدا لي فجأة أنّ الله هو الذي يقول هذه الكلمات، وتكشّفت لي كمؤمن معانٍ جديدة للأغنية فأحببت أن أشارك بها غيري. وحدث أنّ بعضَ أحبّاء وأصدقاء في فرع الميناء تشاركوا الاستماعَ إلى هذه الأغنية من منطلق أنّها موجّهة من الله إلى الإنسان، في نهاية لقاء صلاتيّ، في 2 أيلول 2008، فعبّر بعض الأخوات والإخوة عن فرحهم بالأغنية التي أضفت روعة إلى الاجتماع الصلاتيّ بجمال موسيقاها، وصوت فيروز الرائع، ولكن خاصّة بالبُعد الإيمانيّ المبلول بالشعر الذي أضفته المعاني الجديدة التي يمكن للإنسان المؤمن أن يتلقّطها إن رأى النصّ يعبّر عن خبرة الله مع الإنسان. فإلى الأغنية والتعليق:
المقطع الأوّل:
عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك يعني أكثر بَعْدْ فيكْ؟
عندي حلم فيك، عندي وَلَع فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك إنّو يعني موت فيكْ؟
والله رح موت فيك، صدّق إذا فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك منّي إذا متت فيكْ؟
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيكْ.
عندي ثقة فيك وبِكَفّيكْ.
"عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك". كلّ مشروع الله مع الإنسان هو مشروع بناء ملكوت محبّة ومشاركة، فالله-المحبّة خلق الإنسان كي يشاركه الألوهة بالاتّحاد به من خلال سير الإنسان بالصورة الإلهيّة التي فيه إلى مثال الله. مشروع التألّه هذا هو مشروع ديناميّ، مشروع نموّ، يجدّد به الله الأرض ويحوّل الحياةَ فيها إلى ملكوت، فالله لم يخلق الكون مرّة وانتهى، وإنّما يتابع خلق الكون من خلال مشروع الملكوت هذا، "فأبي إلى الآن يعمل" وهو الذي "به نحيا ونتحرّك ونوجد". والله اتّخذ الإنسان شريكاً في الخلق، وفي إرساء مشروع الملكوت، هذا المشروع الذي لا معنى له إلاّ بالإنسان لأنّ الله لأوجد المشروعَ من أجل الإنسان. لكنّ أساس هذه الشركة مع الإنسان هي أنّ الله يحبّ الإنسان، وبسبب حبّ الله له فإنّ لديه ثقة بالإنسان، وأمل بأنّ الإنسان سيتجاوب معه بحبّ، وسيتابع معه مشروع الملكوت. إنّ الله بخلقه الإنسان، كلّ ثانية، على ثقة بأنّ الكلمة الأخيرة ستكون للمحبّة في الكون. فعل الخلق، فعل الحبّ، هو فعل ثقة، الله في مسار الكتاب المقدّس في عهدَيه القديم والجديد، هو شخصٌ يثق بالإنسان، وكلّه أمل بأنّ هذا الإنسان سوف يغيّر مع الله ذاته والكون، فيعملا على تحويل الأرض إلى عرس، عرس لقاء، يقدّم فيه الإنسان نفسه والكون هدية عرس كُبرى، قرباناً لله، "جواباً حسناً" أمام المسيح، جواب محبّة على محبّة الله البادِئَة، فـ"نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً". الله يثق بالإنسان ويسلّمه مهمّة التعاون معه لتغيير الكون ليصير ملكوت محبّة في الروح. هذه الثقة، هذا الأملّ، إن شعرنا به، ورأيناه في كلّ حكاية الله المسنمرّة يوميّاً مع البشر، يدفعنا إلى الشعور بمسؤوليّة كبيرة، ولكن أيضاً إلى الشعور براحة وفرحٍ عميقَيْن كون الله يتابع ثقته بنا كلّ يوم رغم أخطائنا، كون الله ينتظر منّا كلّ يوم أن نُعاونه ونشركه في مشروعه الرائع، مشروع متابعة الخلق، وتعميد الكون بروح الله، وفوق كلّ شيء فرِحين بأنّنا محبوبون منه وموضع ثقته ولسنا موضع تشكيكه، فإذا ثقته تنتقل إلينا فنصير نثق ليس فقط بأنفسنا، ولكن ايضاً بغيرنا، وبقدرتنا مشتركين على تغيير وجه الأرض.
" وبِكَفّيكْ، شو بدّك يعني أكثر بَعْدْ فيك؟". ألا يكفي الإنسان ثقة الله فيه كي ينطلق في الأرض، ويعمل بإيمان مع الله في ورشة الملكوت؟ ماذا يريد المحبوب من مُحِبّه سوى الثقة المطلقة المُحّرِّرَة، التي تجعلهما يتناغمان في مشروع الحبّ الواحد؟ أو هناك أكثر؟ نعم هناك أكثر، هناك أكثر من الثقة بين المُحبّين، فالله ليس فقط يثق بالإنسان، ويضع مشروعه تحت رحمة الإنسان، الله ليس فقط صاحب مشروع تغييريّ للكون، الله مُحبّ، ولهذا، وفوق كلّ شيء، وضعَ اللهُ نفسَه هو شخصيّاً تحت رحمة الإنسان. المُحِبّ لا يرضى بأقلّ من كلّ ذات الحبيب، لا يرضى بشركة عمل، بالثقة، بالهدايا، إلخ، بل يريد الآخر، يريد أن يصير واحداً مع الآخر، ولهذا فهو يريد هذا الآخر. لهذا بادر الله بأن قدّم ذاته للإنسان على أمل بأنْ يقدّم الإنسانُ نفسَه لله، فيتّحدان في حبّ إلهيّ-إنسانيّ واحد. الحبيبان لا يعملان فقط لتغيير العالم، لجعله منارة حبّ، سوى لأنّهما يعيشان معاً علاقة حبّ، لهذا فالله المُحِبّ يقول للإنسان في كلّ ثانية "عندي حلم فيك، عندي ولع فيك، وبِكَفّيكْ"، أنا أحبّك، بل أحلم بك منذ الأزل، وأخطّط لخلقك منذ الأزل -كما رأى الآباء-، أنا مولع بك منذ الأزل، وأُعطيك نفسي إلى الأبد، ألا يكفيك هذا يا حبيبي؟
لكن الله ليس فقط يعمل مع الإنسان، ويثق به، ومولع به، ويحلم به، بل هو يحبّه الحبّ الأقصى، والإنسان يطلب الحبّ الأقصى، يطلب لا أقلّ من اللانهاية، لا أقلّ من الأبديّة، و"ليس من حبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه، كما أوضح المسيح. "شو بدّك إنّو يعني موت فيك؟ والله رح موت فيك، صدّق إذا فيك، وبِكَفّيكْ". ويحلف الله بنفسه - لأنّ لا أعظم منه – أنّه يتعهّد الإنسان وأنّه يحبّه إلى الأبد، وأنّه مستعدّ حتّى أن يتذوّق الحياة البشريّة، بحلاوتها ومرارتها، من أجل الإنسان؛ سيحبّ ويُخلِص حتّى ولو اضطرّ للاستشهاد حبّاً قبل استيفانوس الشهيد، حتّى ولو مات حبّاً بالإنسان، هو جاهزٌ أنّ "يحبّ حتّى الموت، موت الصليب" حتّى يتمكّن الثالوث من الاتحاد بالإنسان، حتّى يتمكّن الإنسان من ملاقاة الله ذاته، فيتّحد به، وأيضاً حتّى يتمكّن الله من تحقيق الأمنية الأقصى للمُحبّين ألا وهي ألاّ يموت المحبوب، بل يتحرّر من كلّ أشكال الموت، من العزلة كما من الموت الجسديّ. حلف الله بذاته انّه يحبّ، ولو كلّفه حبّه أن يبذل كلمةُ الله ذاته لكي يقوم ويُقيم معه الإنسان. لكنّ الإنسان المحبوب هو من طينة أُخرى، هو إنسان، ويحيا بشكل مختلف، ولا يفهم حبّ شخص لم يختبر معه الحلو والمرّ من الداخل، ولهذا أيضاً كان ينبغي لله أن يجد أُمّاً، أن يصير إنساناً "مولوداً من إمرأة تحت الناموس"، أن يأخذ في ذاته طبيعةَ المحبوبِ وخبرته، حتّى يمكّن المحبوب من اجتياز الهوّة بين الخالق والمخلوق، حتّى يصيركلمة الله نفسه جسر عبور الإنسان إلى الله، حتّى يمكّن المحبوب من اختبار وحدة مع الله فيتغيّر من الداخل باتّخاذه طبيعة الله حين يشاركه طاقاته. لهذا لا يبقى الله في علياء ما، شريكاً بعيداً، بل يحاول أن يعيش المحبوب من الداخل، فإذا " الله يصير إنساناً كي يصير الإنسان إلهاً" على ما عبّر إيريناوس. هكذا يقول الله المُحبّ للإنسان: إسمع لقد صرت إنساناً مثلك، شاركتك في كلّ شيء، خَبِرْتُك من الداخل، سأحبّك حتّى النهاية حتّى ولو خُنْتَني اليوم، حتّى ولو علّقتني على الصليب، وحتّى ولو لم تفتح باب قلبك أمامي سأبقى واقفاً خارجه أقرع، حرّيتك هي فرحي وألمي فـ"خضوع العبيد كلهم لا يساوي نظرة واحدة جميلة لإنسان حرّ" كما قال شاعري شارل بيغي، أنا مستعدّ للموت من أجلك لأبلغ أقصى خبرتك أنتَ، بطبيعتك أنت، بحسب أوضاعك أنت، فتصير أنت تختبر طبيعتي. يا حبيبي، ألا تعرف أنّني "ذبيح منذ إنشاء العالم" من أجلك (رؤيا 13: 8)؟ يا حبيبي، "شو بدّك منّي إذا متت فيك؟" ماذا تنتظر من حبّي وموتي؟ أتنتظر أن أصير ساحرُك المُفَضَّل؟ أم أن أحمل همومك وأنجدك ولكأنّك قاصر؟ أم أن أصير لديك ذكرى جميلة تحيك حولها قصصاً عن فخرك لكوني أُحبُّك، وأُخرى عن عظمة الحبّ؟ لا، لا، هذا لن يكون، أخرج من أوهامك يا حبيبي، وانتظرْ أموراً أكثر واقعيّة، أكثر إنسانيّة، أكثر حقيقيّة، أكثر حياة، إنتظرْ منّي أن أصير واحداً معك، أن أسكُنك إنْ أحببتني فـ"مَن أحبّني حفظ وصاياي وأحبّه أبي، وأتينا فجعلنا عنده مقاماً" (يوحنّا 14: 23)، إنتظرْ أن أهَبَك هكذا كلّ قوّتي بسكناي فيك، إن أنت أردت أن تبقى على حبّك لي. أُهديك أقصى ما يُمكن أن يُهدى، أُهديك نفسي، أهديك "روحي"، الروح القدس.
"معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر، كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيك". ثق بي لأنّني أحبّك. لا يوجد أكثر من أن أعطيك نفسي حتّى الإستشهاد. تتسائل أنْ ماذا تفعل أنت مقابل موتي من أجلك؟ أقول لك أحببْ الناس وأحبِبْني، وعاونّي لنغيّر العالم معاً فنجعله بيت حبّ، وأنا كما قلت لك وأردّد "عندي ثقة فيك وبِكَفّيكْ" حبيبي.
المقطع الثاني:
حبّيتك متل ما حدا حَبّْ، ولا بْيَوم رَحْ بيحبّ
وأنتَ شايفها عاديّة ومِشْ بِهالأهمّية،
بجرّب ما بفهم شو علّقني بسّ فيكْ.
وبِكْتُب شِعِرْ فيك، بِكْتُب نَثِر فيك، وبِكَفّيكْ،
شو مُمْكِن يعني إكْتُبْ بَعْدْ فيكْ؟
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
ما كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيكْ.
" حبّيتك متل ما حدا حَبّْ، ولا بْيَوم رَحْ بيحبّ". "الله يحبّ الإنسان حبّاً جنونيّاً" كان يقول القدّيس نيقولا كاباسيلاس، فالله الخالق ارتضى أن يشارك خليقتَه حياتها، فيصير واحداً منّا و"يخلي ذاته آخذاً صورة عبد"، "ليحمل أوجاعنا... ويُجرح من أجل خطايانا" كما جاء عند أشعياء، فيحرّرنا بدمه حتّى "لا نصير عبيداً للناس" كما قال بولس. لكن "أنتَ شايفها عاديّة ومِشْ بِهالأهمّية"، كلّ هذا الحبّ الجنونيّ تعوّده المسيحيّون، فوقعوا في فتور كثير، في الإقامة في الطقوس، عوض عيش الطقوس كمكان حبّ ولقاء، ومنطلق تغيير ومشاركة. هكذا، يبقى الله مصلوب الإنسان، ويبقى "المسيح في نزاع إلى منتهى الدهر" كما كان يقول باسكال. وبِلَوْعَةٍ يحيا الله مع الإنسان "بجرّب ما بفهم شو علّقني بسّ فيك"، لكن هو سرّ الحبّ الجنونيّ، الحبّ المنتظر من الحبيب عودته والساعي إليه بلهفة، لهفة هوشع الساعي وراء زوجته التي هجرته، لهفة صبيّة نشيد الأنشاد التي تحاول تجاوز حرّاس المدينة، وحرّاس كلّ عنصر جمود وأسر وموت في الخبرة الإنسانيّة. "وبِكْتُب شِعِرْ فيك، بِكْتُب نَثِر فيك، وبِكَفّيكْ، شو مُمْكِن يعني إكْتُبْ بَعْدْ فيكْ؟" في لوعةٍ يبقى الله "واقفاً على الباب يقرع"، باب القلب، يغازل الإنسان ويكتب شعراً إليه بلون الزهر، بجموح الكلمة، بدهشة الموسيقى، بضوء خفيف في عينيّ طفل، بلقاء الأصدقاء، وبلذّة قُبَلِ وجماع محبّين، بتشارُكِ لقمة العيش وبتقاسم خبرة حزن وخبرة فرح، بكسر خبز مشاركة وبرفع كأس لقاء. ويترك الله نشيده الشعريّ هذا، الواحد على تنوّعه، دليلاً إليه ورمزاً له. يكتب الله الكونَ كلّه والخليقةَ كلّها، شعراً مُذهلاً حتّى يُعَرِّفُ الذهولَ عنه في الصمت البليغ، "فالذهول وحده يُفهم شيئاً" كما رأى حبيبه النيصصيّ.
"معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر، ما كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيكْ"، كلّ الكون هو عمل الله، وكلّ ابتسامة، كلّ ولادة لصداقة ولحبّ، كلّ تحقيق لذات، كلّ تحقيق لعدل ورفع لاستغلال، هي أعمال الله والإنسان المتآزرَين. كلّ شيء، وعمل حقّ، وحبّ، وجمال، هو قصيدةٌ يكتبها الله "شاعر الكون" كما سمّاه يوماً أوليفيه كليمان، ونغمة ينظمها الله موسيقار الكون كما أشار النيصصيّ[1]، من أجل الإنسان. كلّ جُمَل الله تنتهي في الإنسان حقّاً.
المقطع الثالث:
بْتِحْكيني مِتِلْ طفل زغير، وهامِلْني كتير،
لَوْ شي مرّة صِبْحِيِّة بْتْفَكِّر تِتّصِل فِيّي.
قلّي شو يلّلي بيعلّقني بسّ فيك؟
أنا،
عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك يعني أكثر بعد فيك؟
عندي حِلِمْ فيك، عندي وَلَعْ فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك إنّو يعني مُوت فيك؟
والله رَحْ مُوتْ فيك، صدّق إذا فيك،
شو بدّك منّي إذا مِتِتْ فيك.
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
كلّ الجمل والحكي والكلام فيك.
يعتمد الله على الإنسان، ويثق به، ويحبّه، ويحلم به، ويأمل أن يعمل الإنسان للسير من طفولة طاقات الصورة الإلهيّة إلى مثال الله، إلى اتّحاد أعمق فأعمق مع الله. ويتجسّد وسموت ويقوم ويرسل روحه القدس ليصل الإنسان إلى "وحدة الإيمان"، إلى "ملئ قامة المسيح". لكنّ الإنسان يُهمل العلاقة، يهمل وجه الله، ووجه الإنسان الآخر، ووجههه الذاتيّ؛ يضيع، يغترب عن الله، عن الإنسان الآخر، وعن ذاته نفسها. يتردّد، يتراجع، يتشبّث بعلاقة طفوليّة مع الله، لا يريد أن يقف بذاته، معتمداً على ذاته، على فرادته وتمايزه عن الله، على مساهتمه مع الله. يريد لله أن يفعل كلّ شيء، وأن يحلّ كلّ المشاكل. يظلّ الإنسان يداعب حلماً طفوليّاً باتّكاليّة أبديّة، بأبٍ وأمٍّ يفعلان عنه، حلماً طفوليّاً يتعامل مع الكون والله نفسه كزجاجة حليب للاستهلاك الفوريّ، لتلبية الحاجة المُلِحّة. فتبقى علاقته مع الله طفليّة، ويُهمل العلاقة الأصيلة بين ندّين، التي يدعوه إليها الله، "بْتِحْكيني مِتِلْ طفل زغير، وهامِلْني كتير". يُهملُ الإنسانُ الكلام مع الله من أجل اللقاء به، من أجل صيانة الحبّ، فلا يعود يتذكره إلاّ سطحيّاً، إلاّ طقوسيّاً، ويلحّ بذكره إذا ما احتاج إلى أمر. هكذا، لا يصبح الله محبوباً لذاته، ولا يبقى الاتّصال به أولويّة لقاء، وإنّما تصير الصلوات معطوفةً على حاجات الإنسان، ووسيلة للطلب فقط. أمّا الله الموجوع من أجل الإنسان، الذي يحبّ الإنسان أكثر ممّا الإنسان يحبّ ذاته، ذاك "الذيّ فيّ، أقرب إليّ من نفسي" كما كان يعبّر شاعره بول كلوديل، فيتمنّى "لَوْ شي مرّة صِبْحِيِّة بْتْفَكِّر تِتّصِل فِيّي" كشخص، تتّصل "فيّي" أنا، من أجل متابعة مسيرة حبّنا. تتدهور العلاقة مع الله إلى علاقة انتفاعيّة، علاقة يصير التركيز فيها على الحاجة، عوض ان يكون التركيز فيها على اللقاء والوحدة، على تحقيق الرغبة الكبرى بالاتّحاد بالله، فتكبّل الحاجات الشوقَ. هكذا، يتعامل الإنسان مع الله على أنّ العلاقة به علاقة "مضمونة"، "في الجيبة"، فيُفقد عنصر العناية بالآخر، ليعيش مع الله تجربة كلّ المُحبّين، المتزوّجين خاصّة: ألاّ يتابعا حرارة العناية، وألاّ يتقصّيا أعماق وجه الآخر. حتّى الصلاة، أي الحوار، تصير مجموعة طلبات لتلبية حاجات، ويغيب عنصر الذهول والفرح بوجود الآخر، تغيب الجملة الأولى من القدّاس "مباركة هي مملكة الآب والإبن والروح القدس" التي تحمل كلّ فرح وأمل وثقة بمملكة الحبّ، مملكة الوحدة في التمايز؛ فإذا بالطلبات تُعاش في القدّاس كأولويّة بلا أيّ سلام، بقلق الجائع. يَطْلُب الإنسان، ويَطْلُب، ويَطْلُب، ليس انطلاقا من مساحة الثقة المشتركة، من وحدة الحال، وإنّما من الحاجات، أي من الذات المنغلقة على نفسها. هكذا يبقى الله مصلوباً، "قلّي شو يلّلي بيعلّقني بسّ فيك؟" سوى حبّي الجنونيّ. يبقى الله مصلوباً ولكن يبقى كلّه أمل في الإنسان وثقةً به، يبقى واثقاً من حرّية الإنسان، من قدرته على إبداع طرقات للنور مع الله، على القفز إلى اللقاء، إلى ملكوت الوجوه، إلى الإصغاء من جديد لشوقه الأساس، شوق مشاهدة وجه الله والتمتّع به، فوجهه "هو المُشتهى بالحقيقة" كما تكشِفُ بروعةٍ قطعة صلاة طقسيّة. يبقى الله "يحلم" بالإنسان، بتوبته، يناجيه مولعاً به، مُحبّاً، مصلوباً، عاملاً مع كلّ مُحبّيه من أجل كلّ المتوهّمين أنّهم مركز الكون ويلدون ذواتهم، فكلّ جُمَل الله، كلّ حبّه المكتوب بكلّ اللغات: لغة الكلام، ولغة الصمت، ولغة الذهول، ولغة الحبّ، ولغة الوجوه والأجساد؛ كلّ حبّه المكتوب بذاته نفسها، يبتدئ وينتهي بالإنسان.
يا حبيبي:
عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك يعني أكثر بعد فيك؟
عندي حِلِمْ فيك، عندي وَلَعْ فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك إنّو يعني مُوت فيكْ؟
والله رَحْ مُوتْ فيك، صدّق إذا فيكْ،
شو بدّك منّي إذا مِتِتْ فيكْ؟
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
كلّ الجمل والحكي والكلام فيكْ.
الميناء 2 أيلول 2008
خريستو المرّ
[1] يقول القدّيس غريغوريوس النيصصي "الكون: "مأثرة موسيقيّة"، أنشودة منظومة على نحو رائع للقوّة الكلّية القدرة" راجع:
فلاديمير لوسكي، بحث في اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق، منشورات النور، 2000، ص. 80
هذه المقالة هي بمثابة تأمّل يوضح معانٍ جديدة لأغنية للفنّانة فيروز كتبها ولحّنها الفنّان زياد الرحباني، وقد انقضّت عليّ هذه المعاني صبيحة يوم أحد بينما كنتُ أستمع إلى الأغنية وأنا عائد إلى منزلي بعد القدّاس الإلهيّ. إذ بدا لي فجأة أنّ الله هو الذي يقول هذه الكلمات، وتكشّفت لي كمؤمن معانٍ جديدة للأغنية فأحببت أن أشارك بها غيري. وحدث أنّ بعضَ أحبّاء وأصدقاء في فرع الميناء تشاركوا الاستماعَ إلى هذه الأغنية من منطلق أنّها موجّهة من الله إلى الإنسان، في نهاية لقاء صلاتيّ، في 2 أيلول 2008، فعبّر بعض الأخوات والإخوة عن فرحهم بالأغنية التي أضفت روعة إلى الاجتماع الصلاتيّ بجمال موسيقاها، وصوت فيروز الرائع، ولكن خاصّة بالبُعد الإيمانيّ المبلول بالشعر الذي أضفته المعاني الجديدة التي يمكن للإنسان المؤمن أن يتلقّطها إن رأى النصّ يعبّر عن خبرة الله مع الإنسان. فإلى الأغنية والتعليق:
المقطع الأوّل:
عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك يعني أكثر بَعْدْ فيكْ؟
عندي حلم فيك، عندي وَلَع فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك إنّو يعني موت فيكْ؟
والله رح موت فيك، صدّق إذا فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك منّي إذا متت فيكْ؟
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيكْ.
عندي ثقة فيك وبِكَفّيكْ.
"عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك". كلّ مشروع الله مع الإنسان هو مشروع بناء ملكوت محبّة ومشاركة، فالله-المحبّة خلق الإنسان كي يشاركه الألوهة بالاتّحاد به من خلال سير الإنسان بالصورة الإلهيّة التي فيه إلى مثال الله. مشروع التألّه هذا هو مشروع ديناميّ، مشروع نموّ، يجدّد به الله الأرض ويحوّل الحياةَ فيها إلى ملكوت، فالله لم يخلق الكون مرّة وانتهى، وإنّما يتابع خلق الكون من خلال مشروع الملكوت هذا، "فأبي إلى الآن يعمل" وهو الذي "به نحيا ونتحرّك ونوجد". والله اتّخذ الإنسان شريكاً في الخلق، وفي إرساء مشروع الملكوت، هذا المشروع الذي لا معنى له إلاّ بالإنسان لأنّ الله لأوجد المشروعَ من أجل الإنسان. لكنّ أساس هذه الشركة مع الإنسان هي أنّ الله يحبّ الإنسان، وبسبب حبّ الله له فإنّ لديه ثقة بالإنسان، وأمل بأنّ الإنسان سيتجاوب معه بحبّ، وسيتابع معه مشروع الملكوت. إنّ الله بخلقه الإنسان، كلّ ثانية، على ثقة بأنّ الكلمة الأخيرة ستكون للمحبّة في الكون. فعل الخلق، فعل الحبّ، هو فعل ثقة، الله في مسار الكتاب المقدّس في عهدَيه القديم والجديد، هو شخصٌ يثق بالإنسان، وكلّه أمل بأنّ هذا الإنسان سوف يغيّر مع الله ذاته والكون، فيعملا على تحويل الأرض إلى عرس، عرس لقاء، يقدّم فيه الإنسان نفسه والكون هدية عرس كُبرى، قرباناً لله، "جواباً حسناً" أمام المسيح، جواب محبّة على محبّة الله البادِئَة، فـ"نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً". الله يثق بالإنسان ويسلّمه مهمّة التعاون معه لتغيير الكون ليصير ملكوت محبّة في الروح. هذه الثقة، هذا الأملّ، إن شعرنا به، ورأيناه في كلّ حكاية الله المسنمرّة يوميّاً مع البشر، يدفعنا إلى الشعور بمسؤوليّة كبيرة، ولكن أيضاً إلى الشعور براحة وفرحٍ عميقَيْن كون الله يتابع ثقته بنا كلّ يوم رغم أخطائنا، كون الله ينتظر منّا كلّ يوم أن نُعاونه ونشركه في مشروعه الرائع، مشروع متابعة الخلق، وتعميد الكون بروح الله، وفوق كلّ شيء فرِحين بأنّنا محبوبون منه وموضع ثقته ولسنا موضع تشكيكه، فإذا ثقته تنتقل إلينا فنصير نثق ليس فقط بأنفسنا، ولكن ايضاً بغيرنا، وبقدرتنا مشتركين على تغيير وجه الأرض.
" وبِكَفّيكْ، شو بدّك يعني أكثر بَعْدْ فيك؟". ألا يكفي الإنسان ثقة الله فيه كي ينطلق في الأرض، ويعمل بإيمان مع الله في ورشة الملكوت؟ ماذا يريد المحبوب من مُحِبّه سوى الثقة المطلقة المُحّرِّرَة، التي تجعلهما يتناغمان في مشروع الحبّ الواحد؟ أو هناك أكثر؟ نعم هناك أكثر، هناك أكثر من الثقة بين المُحبّين، فالله ليس فقط يثق بالإنسان، ويضع مشروعه تحت رحمة الإنسان، الله ليس فقط صاحب مشروع تغييريّ للكون، الله مُحبّ، ولهذا، وفوق كلّ شيء، وضعَ اللهُ نفسَه هو شخصيّاً تحت رحمة الإنسان. المُحِبّ لا يرضى بأقلّ من كلّ ذات الحبيب، لا يرضى بشركة عمل، بالثقة، بالهدايا، إلخ، بل يريد الآخر، يريد أن يصير واحداً مع الآخر، ولهذا فهو يريد هذا الآخر. لهذا بادر الله بأن قدّم ذاته للإنسان على أمل بأنْ يقدّم الإنسانُ نفسَه لله، فيتّحدان في حبّ إلهيّ-إنسانيّ واحد. الحبيبان لا يعملان فقط لتغيير العالم، لجعله منارة حبّ، سوى لأنّهما يعيشان معاً علاقة حبّ، لهذا فالله المُحِبّ يقول للإنسان في كلّ ثانية "عندي حلم فيك، عندي ولع فيك، وبِكَفّيكْ"، أنا أحبّك، بل أحلم بك منذ الأزل، وأخطّط لخلقك منذ الأزل -كما رأى الآباء-، أنا مولع بك منذ الأزل، وأُعطيك نفسي إلى الأبد، ألا يكفيك هذا يا حبيبي؟
لكن الله ليس فقط يعمل مع الإنسان، ويثق به، ومولع به، ويحلم به، بل هو يحبّه الحبّ الأقصى، والإنسان يطلب الحبّ الأقصى، يطلب لا أقلّ من اللانهاية، لا أقلّ من الأبديّة، و"ليس من حبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه، كما أوضح المسيح. "شو بدّك إنّو يعني موت فيك؟ والله رح موت فيك، صدّق إذا فيك، وبِكَفّيكْ". ويحلف الله بنفسه - لأنّ لا أعظم منه – أنّه يتعهّد الإنسان وأنّه يحبّه إلى الأبد، وأنّه مستعدّ حتّى أن يتذوّق الحياة البشريّة، بحلاوتها ومرارتها، من أجل الإنسان؛ سيحبّ ويُخلِص حتّى ولو اضطرّ للاستشهاد حبّاً قبل استيفانوس الشهيد، حتّى ولو مات حبّاً بالإنسان، هو جاهزٌ أنّ "يحبّ حتّى الموت، موت الصليب" حتّى يتمكّن الثالوث من الاتحاد بالإنسان، حتّى يتمكّن الإنسان من ملاقاة الله ذاته، فيتّحد به، وأيضاً حتّى يتمكّن الله من تحقيق الأمنية الأقصى للمُحبّين ألا وهي ألاّ يموت المحبوب، بل يتحرّر من كلّ أشكال الموت، من العزلة كما من الموت الجسديّ. حلف الله بذاته انّه يحبّ، ولو كلّفه حبّه أن يبذل كلمةُ الله ذاته لكي يقوم ويُقيم معه الإنسان. لكنّ الإنسان المحبوب هو من طينة أُخرى، هو إنسان، ويحيا بشكل مختلف، ولا يفهم حبّ شخص لم يختبر معه الحلو والمرّ من الداخل، ولهذا أيضاً كان ينبغي لله أن يجد أُمّاً، أن يصير إنساناً "مولوداً من إمرأة تحت الناموس"، أن يأخذ في ذاته طبيعةَ المحبوبِ وخبرته، حتّى يمكّن المحبوب من اجتياز الهوّة بين الخالق والمخلوق، حتّى يصيركلمة الله نفسه جسر عبور الإنسان إلى الله، حتّى يمكّن المحبوب من اختبار وحدة مع الله فيتغيّر من الداخل باتّخاذه طبيعة الله حين يشاركه طاقاته. لهذا لا يبقى الله في علياء ما، شريكاً بعيداً، بل يحاول أن يعيش المحبوب من الداخل، فإذا " الله يصير إنساناً كي يصير الإنسان إلهاً" على ما عبّر إيريناوس. هكذا يقول الله المُحبّ للإنسان: إسمع لقد صرت إنساناً مثلك، شاركتك في كلّ شيء، خَبِرْتُك من الداخل، سأحبّك حتّى النهاية حتّى ولو خُنْتَني اليوم، حتّى ولو علّقتني على الصليب، وحتّى ولو لم تفتح باب قلبك أمامي سأبقى واقفاً خارجه أقرع، حرّيتك هي فرحي وألمي فـ"خضوع العبيد كلهم لا يساوي نظرة واحدة جميلة لإنسان حرّ" كما قال شاعري شارل بيغي، أنا مستعدّ للموت من أجلك لأبلغ أقصى خبرتك أنتَ، بطبيعتك أنت، بحسب أوضاعك أنت، فتصير أنت تختبر طبيعتي. يا حبيبي، ألا تعرف أنّني "ذبيح منذ إنشاء العالم" من أجلك (رؤيا 13: 8)؟ يا حبيبي، "شو بدّك منّي إذا متت فيك؟" ماذا تنتظر من حبّي وموتي؟ أتنتظر أن أصير ساحرُك المُفَضَّل؟ أم أن أحمل همومك وأنجدك ولكأنّك قاصر؟ أم أن أصير لديك ذكرى جميلة تحيك حولها قصصاً عن فخرك لكوني أُحبُّك، وأُخرى عن عظمة الحبّ؟ لا، لا، هذا لن يكون، أخرج من أوهامك يا حبيبي، وانتظرْ أموراً أكثر واقعيّة، أكثر إنسانيّة، أكثر حقيقيّة، أكثر حياة، إنتظرْ منّي أن أصير واحداً معك، أن أسكُنك إنْ أحببتني فـ"مَن أحبّني حفظ وصاياي وأحبّه أبي، وأتينا فجعلنا عنده مقاماً" (يوحنّا 14: 23)، إنتظرْ أن أهَبَك هكذا كلّ قوّتي بسكناي فيك، إن أنت أردت أن تبقى على حبّك لي. أُهديك أقصى ما يُمكن أن يُهدى، أُهديك نفسي، أهديك "روحي"، الروح القدس.
"معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر، كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيك". ثق بي لأنّني أحبّك. لا يوجد أكثر من أن أعطيك نفسي حتّى الإستشهاد. تتسائل أنْ ماذا تفعل أنت مقابل موتي من أجلك؟ أقول لك أحببْ الناس وأحبِبْني، وعاونّي لنغيّر العالم معاً فنجعله بيت حبّ، وأنا كما قلت لك وأردّد "عندي ثقة فيك وبِكَفّيكْ" حبيبي.
المقطع الثاني:
حبّيتك متل ما حدا حَبّْ، ولا بْيَوم رَحْ بيحبّ
وأنتَ شايفها عاديّة ومِشْ بِهالأهمّية،
بجرّب ما بفهم شو علّقني بسّ فيكْ.
وبِكْتُب شِعِرْ فيك، بِكْتُب نَثِر فيك، وبِكَفّيكْ،
شو مُمْكِن يعني إكْتُبْ بَعْدْ فيكْ؟
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
ما كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيكْ.
" حبّيتك متل ما حدا حَبّْ، ولا بْيَوم رَحْ بيحبّ". "الله يحبّ الإنسان حبّاً جنونيّاً" كان يقول القدّيس نيقولا كاباسيلاس، فالله الخالق ارتضى أن يشارك خليقتَه حياتها، فيصير واحداً منّا و"يخلي ذاته آخذاً صورة عبد"، "ليحمل أوجاعنا... ويُجرح من أجل خطايانا" كما جاء عند أشعياء، فيحرّرنا بدمه حتّى "لا نصير عبيداً للناس" كما قال بولس. لكن "أنتَ شايفها عاديّة ومِشْ بِهالأهمّية"، كلّ هذا الحبّ الجنونيّ تعوّده المسيحيّون، فوقعوا في فتور كثير، في الإقامة في الطقوس، عوض عيش الطقوس كمكان حبّ ولقاء، ومنطلق تغيير ومشاركة. هكذا، يبقى الله مصلوب الإنسان، ويبقى "المسيح في نزاع إلى منتهى الدهر" كما كان يقول باسكال. وبِلَوْعَةٍ يحيا الله مع الإنسان "بجرّب ما بفهم شو علّقني بسّ فيك"، لكن هو سرّ الحبّ الجنونيّ، الحبّ المنتظر من الحبيب عودته والساعي إليه بلهفة، لهفة هوشع الساعي وراء زوجته التي هجرته، لهفة صبيّة نشيد الأنشاد التي تحاول تجاوز حرّاس المدينة، وحرّاس كلّ عنصر جمود وأسر وموت في الخبرة الإنسانيّة. "وبِكْتُب شِعِرْ فيك، بِكْتُب نَثِر فيك، وبِكَفّيكْ، شو مُمْكِن يعني إكْتُبْ بَعْدْ فيكْ؟" في لوعةٍ يبقى الله "واقفاً على الباب يقرع"، باب القلب، يغازل الإنسان ويكتب شعراً إليه بلون الزهر، بجموح الكلمة، بدهشة الموسيقى، بضوء خفيف في عينيّ طفل، بلقاء الأصدقاء، وبلذّة قُبَلِ وجماع محبّين، بتشارُكِ لقمة العيش وبتقاسم خبرة حزن وخبرة فرح، بكسر خبز مشاركة وبرفع كأس لقاء. ويترك الله نشيده الشعريّ هذا، الواحد على تنوّعه، دليلاً إليه ورمزاً له. يكتب الله الكونَ كلّه والخليقةَ كلّها، شعراً مُذهلاً حتّى يُعَرِّفُ الذهولَ عنه في الصمت البليغ، "فالذهول وحده يُفهم شيئاً" كما رأى حبيبه النيصصيّ.
"معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر، ما كلّ الجمل يعني عم تنتهي فيكْ"، كلّ الكون هو عمل الله، وكلّ ابتسامة، كلّ ولادة لصداقة ولحبّ، كلّ تحقيق لذات، كلّ تحقيق لعدل ورفع لاستغلال، هي أعمال الله والإنسان المتآزرَين. كلّ شيء، وعمل حقّ، وحبّ، وجمال، هو قصيدةٌ يكتبها الله "شاعر الكون" كما سمّاه يوماً أوليفيه كليمان، ونغمة ينظمها الله موسيقار الكون كما أشار النيصصيّ[1]، من أجل الإنسان. كلّ جُمَل الله تنتهي في الإنسان حقّاً.
المقطع الثالث:
بْتِحْكيني مِتِلْ طفل زغير، وهامِلْني كتير،
لَوْ شي مرّة صِبْحِيِّة بْتْفَكِّر تِتّصِل فِيّي.
قلّي شو يلّلي بيعلّقني بسّ فيك؟
أنا،
عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك يعني أكثر بعد فيك؟
عندي حِلِمْ فيك، عندي وَلَعْ فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك إنّو يعني مُوت فيك؟
والله رَحْ مُوتْ فيك، صدّق إذا فيك،
شو بدّك منّي إذا مِتِتْ فيك.
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
كلّ الجمل والحكي والكلام فيك.
يعتمد الله على الإنسان، ويثق به، ويحبّه، ويحلم به، ويأمل أن يعمل الإنسان للسير من طفولة طاقات الصورة الإلهيّة إلى مثال الله، إلى اتّحاد أعمق فأعمق مع الله. ويتجسّد وسموت ويقوم ويرسل روحه القدس ليصل الإنسان إلى "وحدة الإيمان"، إلى "ملئ قامة المسيح". لكنّ الإنسان يُهمل العلاقة، يهمل وجه الله، ووجه الإنسان الآخر، ووجههه الذاتيّ؛ يضيع، يغترب عن الله، عن الإنسان الآخر، وعن ذاته نفسها. يتردّد، يتراجع، يتشبّث بعلاقة طفوليّة مع الله، لا يريد أن يقف بذاته، معتمداً على ذاته، على فرادته وتمايزه عن الله، على مساهتمه مع الله. يريد لله أن يفعل كلّ شيء، وأن يحلّ كلّ المشاكل. يظلّ الإنسان يداعب حلماً طفوليّاً باتّكاليّة أبديّة، بأبٍ وأمٍّ يفعلان عنه، حلماً طفوليّاً يتعامل مع الكون والله نفسه كزجاجة حليب للاستهلاك الفوريّ، لتلبية الحاجة المُلِحّة. فتبقى علاقته مع الله طفليّة، ويُهمل العلاقة الأصيلة بين ندّين، التي يدعوه إليها الله، "بْتِحْكيني مِتِلْ طفل زغير، وهامِلْني كتير". يُهملُ الإنسانُ الكلام مع الله من أجل اللقاء به، من أجل صيانة الحبّ، فلا يعود يتذكره إلاّ سطحيّاً، إلاّ طقوسيّاً، ويلحّ بذكره إذا ما احتاج إلى أمر. هكذا، لا يصبح الله محبوباً لذاته، ولا يبقى الاتّصال به أولويّة لقاء، وإنّما تصير الصلوات معطوفةً على حاجات الإنسان، ووسيلة للطلب فقط. أمّا الله الموجوع من أجل الإنسان، الذي يحبّ الإنسان أكثر ممّا الإنسان يحبّ ذاته، ذاك "الذيّ فيّ، أقرب إليّ من نفسي" كما كان يعبّر شاعره بول كلوديل، فيتمنّى "لَوْ شي مرّة صِبْحِيِّة بْتْفَكِّر تِتّصِل فِيّي" كشخص، تتّصل "فيّي" أنا، من أجل متابعة مسيرة حبّنا. تتدهور العلاقة مع الله إلى علاقة انتفاعيّة، علاقة يصير التركيز فيها على الحاجة، عوض ان يكون التركيز فيها على اللقاء والوحدة، على تحقيق الرغبة الكبرى بالاتّحاد بالله، فتكبّل الحاجات الشوقَ. هكذا، يتعامل الإنسان مع الله على أنّ العلاقة به علاقة "مضمونة"، "في الجيبة"، فيُفقد عنصر العناية بالآخر، ليعيش مع الله تجربة كلّ المُحبّين، المتزوّجين خاصّة: ألاّ يتابعا حرارة العناية، وألاّ يتقصّيا أعماق وجه الآخر. حتّى الصلاة، أي الحوار، تصير مجموعة طلبات لتلبية حاجات، ويغيب عنصر الذهول والفرح بوجود الآخر، تغيب الجملة الأولى من القدّاس "مباركة هي مملكة الآب والإبن والروح القدس" التي تحمل كلّ فرح وأمل وثقة بمملكة الحبّ، مملكة الوحدة في التمايز؛ فإذا بالطلبات تُعاش في القدّاس كأولويّة بلا أيّ سلام، بقلق الجائع. يَطْلُب الإنسان، ويَطْلُب، ويَطْلُب، ليس انطلاقا من مساحة الثقة المشتركة، من وحدة الحال، وإنّما من الحاجات، أي من الذات المنغلقة على نفسها. هكذا يبقى الله مصلوباً، "قلّي شو يلّلي بيعلّقني بسّ فيك؟" سوى حبّي الجنونيّ. يبقى الله مصلوباً ولكن يبقى كلّه أمل في الإنسان وثقةً به، يبقى واثقاً من حرّية الإنسان، من قدرته على إبداع طرقات للنور مع الله، على القفز إلى اللقاء، إلى ملكوت الوجوه، إلى الإصغاء من جديد لشوقه الأساس، شوق مشاهدة وجه الله والتمتّع به، فوجهه "هو المُشتهى بالحقيقة" كما تكشِفُ بروعةٍ قطعة صلاة طقسيّة. يبقى الله "يحلم" بالإنسان، بتوبته، يناجيه مولعاً به، مُحبّاً، مصلوباً، عاملاً مع كلّ مُحبّيه من أجل كلّ المتوهّمين أنّهم مركز الكون ويلدون ذواتهم، فكلّ جُمَل الله، كلّ حبّه المكتوب بكلّ اللغات: لغة الكلام، ولغة الصمت، ولغة الذهول، ولغة الحبّ، ولغة الوجوه والأجساد؛ كلّ حبّه المكتوب بذاته نفسها، يبتدئ وينتهي بالإنسان.
يا حبيبي:
عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك يعني أكثر بعد فيك؟
عندي حِلِمْ فيك، عندي وَلَعْ فيك، وبِكَفّيكْ،
شو بدّك إنّو يعني مُوت فيكْ؟
والله رَحْ مُوتْ فيك، صدّق إذا فيكْ،
شو بدّك منّي إذا مِتِتْ فيكْ؟
معقول في أكثر، أنا ما عندي أكثر،
كلّ الجمل والحكي والكلام فيكْ.
الميناء 2 أيلول 2008
خريستو المرّ
[1] يقول القدّيس غريغوريوس النيصصي "الكون: "مأثرة موسيقيّة"، أنشودة منظومة على نحو رائع للقوّة الكلّية القدرة" راجع:
فلاديمير لوسكي، بحث في اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق، منشورات النور، 2000، ص. 80